|
(الهبش) .. مفترس الأفاعي
كثيرا ما أستمع لحديث من هنا وهناك عن شخصية غرائبية تسميها العامة ( الهبش ) - بكسر الهاء والباء -، وقد رأيت هذا الرجل فعلاً وأنا بمراحل الدراسة الابتدائية، ولم أستطع تذكر ملامحه الآن، وكنت أراه يدلف لمقهى ( كاظم أبو سراج ) والذي أتخذها اليسار العراقي شبه مقر له فترة الخمسينات والستينات من القرن المنصرم، وقد حفزني لاستذكاره البروفيسور العراقي المغترب ( عدنان الظاهر) وهو يتحدث عن مدينته الفيحاء بابل ورجالاتها بصورة عامة، لم أجد من يرفدني بشئ مفيد عن هذا الرجل، ولا أعرف أحدا من أقاربه يسكن الحلة الآن،أفادني أحدهم بالدخول الى سوق الحلة الكبير وتقصي حقيقة هذا الرجل لأن أحد أخوته كان له محلا للحلاقة بالسوق الكبير للحلة، وفعلا نفذت ذلك فوجدت المسألة أسهل من أعقدها هكذا وأرشدت لرجل حلي والجميل أنه صديق وأخ كبير أنه (مسلم باديم) الشخصية الوطنية والاجتماعية المعروفة، لم يبخل علي أخي أبو (عبد الله) بشئ عن هذا الرجل لأستكمل موضوعتي وعرفت منه الكثير عن هذه الشخصية . نهاية القرن الثامن عشر وصل للحلة الفيحاء رجل كردي من آل ( زنكنه) أسمه ( هاشم ) ليتخذ من الحلة موطنا له، والحلة الصغيرة آنذاك يشطرها نهرها لشطرين، الكبير ويضم سبعة أطراف وهي (الطاك، الجامعين، الجباويين، المهدية، الأكراد، التعيس، جبران)، والصوب الصغير يضم ( كريطعة، الكلج، الوردية)، أشترى الرجل دارا له في محلة (المهدية) وسكنها مع زوجته القادمة معه من الشمال، ومن الطباع الحلية الأصيلة احتضان الضيف والقادم والمستجير بها، ولم تكن للطائفية المستجلبة حديثا تأثيرا بينا وواضحا على سلوك ساكنيها، فالسني يشارك الشيعي بطقوسه الدينية، ويحترم الشيعي طقوس أخيه السني، وفي الحلة المسيحي وهو آمن على نفسه وماله ومعتقده، وكذا اليهود، وهناك أكثر من وشيجة تجارية بينهم وبين أهالي الحلة الكرام، و(هاشم) القادم للحلة سني المذهب إلا أن أولاده اتخذوا من المذهب الشيعي معتقدا لهم، مخالفون هوى والدهم الراحل، وأنجب الرجل – هاشم – أولادا وهم (فخري وعباس انتقلا لبغداد ولا نعرف مصيرا لهم، حسن وهو معاق توفي بالحلة، علي الملقب ب علوكي وهو حلاق، وحسين الذي غادر لبغداد وعاد للحلة وتوفي بها وتركت عائلته الحلة بعد وفاة أبيهم، ومحمد موضوع حديثنا وتلقبه العامة بالهبش ) . بداية القرن التاسع عشر ولد (محمد) في مدينة الحلة وترعرع بها ولم يحصل على نصيبه الدراسي فيها، يقول الأستاذ (مسلم باديم ) كان محمد (الهبش) ضخم الجسم أبيض الوجه يرتدي (الدشداشة)، ولم يكن يضع شيئا على رأسه (أمفرع)، وكان الرجل على خلق عال جدا، لم يتشاجر مع أحد رغم قوة عضلاته، ولم يعتدي أو يعتدى عليه، كان مسالما جدا وفي أحايين كثيرة يستمع لنقد لاذع من أحدهم دون أن يرد عليه بشي، أستفاد من قوة عضلاته ليعمل في (حمام المهدية الرجالي) وعمله (أمدلكجي) – يغسل للزبائن لقاء أجر زهيد -، ومن الطريف ذكره بهذا المجال أن رأس المال الظالم كان يستوفي نصف المكسب البسيط لتعطى لصاحب الحمام، والغريب أن صاحب حمام المهدية لم يستوفي ذلك من (الهبش) بل أعتبره عاملا لديه لقاء أجر آخر لتسخين ماء الحمام – الصفرية – بالطرق البدائية القديمة – نفط أسود وجذوع الأشجار -، كان ل( الهبش) أصدقاء كثر ومن هؤلاء الأصدقاء من يحتسي الخمر وجمعتهم أكثر من مائدة لذلك، فبدأ مشوار التصعلك معه ولم يذكر أحد لي أنه أساء لفرد ما من أبناء الحلة، أضاف (الهبش) عملا جديدا له غير العمل بالحمام وهي صنعة اصطياد الأفاعي – الحيه -، ومعلوم أن أغلب البيوت العراقية بما فيها الحلة يكون سقف الدور من جذوع النخيل وهي مكمن آمن للأفاعي، والأفعى مرعبة للكثير، بداية كانت العملية تطوعا لمسك الأفعى من قبل (الهبش)، وبعد تمكنه من هذه المجازفة بدأ يأخذ أجرا لقاء إمساكه بالأفاعي، يقول الأستاذ (مسلم باديم) أن ( الهبش ) بعد أن يرشد الى مكانها او يجده بنفسه، يمسك الأفعى من ذيلها ويبدأ بسحبها حتى يصل الى الرأس، فيمسك بكامل قوته حول رقبتها حتى تموت، وفي أحايين أخرى يضعها بعلبة زجاجية ويحكم غطاءها ويقبض ثمن مسكها ويذهب بها صوب الصيدلية الهاشمية ليبيعها لصاحب الصيدلية المرحوم الصيدلي (إسماعيل أسكندر الجبوري )، ويروي الكثير من أهالي الحلة أنهم سألوا (الهبش) ألا تخاف من أن تلسعك أفعى فتموت، فيبتسم لهم الرجل ويقول أن لسعتني أفعى فستموت هي ولا أموت أنا على طريقة الطرفة، ويضيف الأستاذ (علي هادي) وهو من أهالي (المهدية) الكرام أنه رأى ( الهبش) بعد أن يمسك فريسته – الأفعى و يبدأ بقضمها – أكلها – مبتدءا من الرأس وكان يرى دماء الأفعى تسيل من فم (الهبش)، وهذا ما أورده الدكتور الظاهر بحديثه ولم يؤكده الأستاذ (مسلم باديم)، ويروي الأستاذ (روؤف الطاهر) عن جدته(العلوية) الساكنة محلة (المهدية) فيقول، ذات يوم رأت جدتي أفعى متدلية من سقف دارها فهرعت صوب (الهبش) لإمساكها والقضاء عليها واتفقا على مبلغ من المال ( مئة فلس)، حضر (الهبش) لدار العلوية وأمسك بالأفعى وطالب بأجره فدفعت المرأة (درهم) فقط وهذا خلاف ما أتفق عليه، قال لها (الهبش) (علوية بعد درهم) أجابته المرأة (أنت أشسويت يمه غير أكمشت الحية درهم كلش كافي)، لم يقل لها شيئاً وأطلق الأفعى من يده لتهرب وأعاد لها ال (الدرهم) وغادر الدار، وبدأت صعلكة الرجل أكثر فأن زاد على المقرر مما يحتسيه من خمرته يبدأ بأكل قدحها حتى تدمي فمه، ويقول الدكتور (عدنان الظاهر) أنه كان جالس بمقهى (كاظم أبو سراج ) ودخل لها (الهبش) وهو ثمل جدا فأخرج من كمه أفعى يتلهى بها وكأنها مسبحة وطلب قدحا من الشاي وبعد أن احتساه بدأ بقضم ذلك القدح ورأيت الدم يسيل من شدقيه – الحديث للظاهر – وحضر صاحب المقهى وقال له ما هذا فأخرج منة جيبه مبلغا من المال وأعطاه لصاحب المقهى وأعتذر منه وغادر مقهاه . قلت بداية موضوعتي عن (الهبش) أنه خلوق ولم يعكر صفو أو ود أحد من الناس ويروى عنه الطرف الكثيرة، أيام الشتاء الممطرة والأزقة غير معبدة يطفح الماء بهذه الأزقة ولا يستطيع أحد المرور دون أن يقع في البرك الكثيرة وبخاصة الأطفال والنساء منهم، وفي يوم شتائي ممطر أراد شيخ حارته ومختار ها ووجهيها الوصول لداره إلا أن البرك الكثيرة والحفر المغطى بالمياه حالت دون عبوره، تقدم نحوه (الهبش) وهو القوي العضلات وقال له هل أوصلك عمي لدارك ؟ أجاب الرجل شاكرا فعلته نعم يابني، فما كان من (الهبش) إلا حمل ذلك الوجيه (الحاج جاسم حمادي الحسن) على عاتقيه والسير به نحو داره، منتصف الطريق قال (الهبش) لشيخ محلته (المهدية)، عمي أختر واحدة من اثنتين، قال الرجل ما هما يا محمد، أجابه أما أن أنزلك من على ظهري أو تعطيني (ربع دينار كروة)، ضحك الرجل وهو محمول على أكتاف (الهبش) وقال له حاضر ولكن حين وصولي للدار، أجابه ( الهبش ) لا عمي (هسه)، وقبض (الهبش) من شيخ الحارة أجره، ولم يكن يأخذ أجرا من أحد لقاء هذه الخدمة الإنسانية وإنما أخذها من شيخه للطرفة والتندر بها ليس إلا، تزوج (الهبش) من أرملة له بنت واحدة من زوجها الأول وولدت ل(الهبش) بنتان، توفي الرجل بسبعينات القرن المنصرم و بداية الثمانينات ودفن بالنجف الأشرف، حاولت جاهدا الوصول للمتبقي من عائلته أو من أقاربه للحصول على صورة شخصية له ولم أفلح، طرقت باب أستوديو (الزنابق) المحتفظة بصور أغلب الشخصيات الحلية السياسية والاجتماعية والتراثية لنفس الغرض ولم أفلح، ومن حسن الصدف أن التقيت بالأستاذ (باسم جاسم حمادي الحسن) عضو البرلمان السابق، وهو أبن لشيخ المهدية وحدثته عما توصلت إليه عن هذه الشخصية التراثية، وأكد لي المعلومات المدونة وأرشدني الى حفيده من ابنته الملقب (عامر عضلة) بسبب ممارسته رياضة كمال الأجسام، حملت أوراقي صوب الرجل والذي يعمل مع ابنه( ضياء ) ببيع بيض المائدة قرب أسواق (الحاج مالك عبد الأخوة)، فرح الرجل – عامر عضلة – كثيرا ولم أجد لديه ما أضيفه لمعلوماتي بل أنا قد نورته بشئ منها، أوعدني بالحصول على صورة لجده (الهبش) من خالته التي تسكن بغداد حالياً، لربما بقادم الأيام بعد نشر هذه الموضوعة سأجد مبتغاي .
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |