بركان آيسلندا هل يعيد الاعتبار لعلماء المناخ؟

 

محمد عارف

مستشار في العلوم والتكنولوجيا

yasarh@gmail.com 

آهة أطلقتها جزيرة آيسلندا شمال القارة الأوروبية. هذا هو حجم البركان بالقياسات الجيولوجية لكوكبنا الفريد، وستبين الأيام والأسابيع القادمة حجم الآهة بالقياسات الاقتصادية، والتي قد تطلق سلسلة انفجارات تقذف الحمم. سحب الرماد التي أطلقها البركان التفت خلال أقل من أسبوع حول بلدان شمال أوروبا، وشرعت بعبور المحيط الأطلسي إلى أميركا الشمالية، وفرضت حظراً جوياً أدّى إلى تعطيل سفر أكثر من سبعة ملايين مسافر في أرجاء العالم، وشلّت الحركة في 300 مطار أوروبي، بينها مطارات بريطانيا التي يستخدمها يومياً 600 ألف مسافر. 

وفي لندن دخل موضوع البريطانيين العالقين بالخارج، وعددهم نحو 200 ألف، الحملة الانتخابية الجارية، وأعلنت الحكومة العمالية التي تواجه خطر خسارة الانتخابات، عزمها على تسيير ثلاث سفن حربية لتأمين سلامة عودة مواطنيها. وأستأنفت البلدان الأوروبية في اليومين الماضيين فتح مجالاتها الجوية تدريجياً، ووفق ضوابط تبقي الباب مفتوحاً لغلقها إذا سحبت الرياح الرماد البركاني إلى خطوط سير الطائرات، أو إذا أطلق البركان حمماً جديدة، أو إذا ظهر أنه من نوع "براكين السوبر" التي قضت على حيوانات الديناصور، واحتلت قصتها غلاف المجلة العلمية "نيوساينتست" الصادر يوم انفجار البركان!

 ويعتبر بعض المعلقين البركان انتقام آيسلندا من الاقتصاد الأوروبي الذي اضطرها إلى إعلان إفلاس اقتصادها القائم على الأوراق المالية. ويصعب حالياً حساب الخسارة الاقتصادية التي أنزلتها "لعنة آيسلندا". هل يتوقف الضرر على "صحن فواكه السلاطة"، كما يقول مراقب اقتصادي، أم سيعود بأوروبا إلى الركود الاقتصادي الذي لم تتماثل بعد للشفاء منه؟ 

التقديرات الأولية للأضرار تدل على خسارة شركات الطيران والنقل الجوي أكثر من 300 مليون دولار يومياً. تليها دول نامية، مثل كينيا التي خسرت بسبب توقف نقل زهورها جواً إلى أوروبا مليوني دولار يومياً، وخسرت مثل هذا المبلغ المملكة المغربية التي تشكل الفواكه والخضر الطازجة المصدرة جواً معظم صادرتها إلى أوروبا. وقد تكتم آهات أخرى يطلقها البركان أنفاس الموسم السياحي الجديد في اليونان التي لم ينقذها من مصير مماثل لآيسلندا سوى إعلان وزراء مالية الوحدة الأوروبية أخيراً تقديم 30 مليار يورو لسداد ديونها العالقة. 

هل يعيد البركان الاعتبار لعلماء المناخ الذين طالما حذروا من علاقة ارتفاع الحرارة العالمية بزيادة البراكين والزلازل والأعاصير والانهيارات الأرضية؟ يصعب الإجابة عن السؤال و"اتفاقية المناخ العالمي" تمر بأحرج فترة منذ وقع عليها زعماء أكثر من 100 دولة في "قمة الأرض" عام 1992 في ريودي جانيرو بالبرازيل. وفشلت "قمة كوبنهاجن"، نهاية العام الماضي، في وضع بروتوكول جديد لتنفيذ الاتفاقية بدلاً من "بروتوكول كيوتو" الذي تنتهي مدته نهاية العام المقبل. وأعقبت ذلك فضيحة تسرب رسائل البريد الإلكتروني لعلماء المناخ التي كشفت عن تلاعب في نتائج أوراق علمية اعتمدتها "الهيئة الحكومية لتغير المناخ" المكونة من الممثلين الرسميين لكافة الدول. 

تحقيقات اللجان الأكاديمية والبرلمانية برّأت ساحة العلماء من التلاعب، وألقت باللوم على ضعفهم في استخدام الإحصاءات لتقييم النتائج. والإحصاءات، كما يقول المثل الساخر، "كمايوهات البيكيني، ليس المهم ما تكشف عنه، بل ما تخفيه". وما تخفيه مبلغ تريليون دولار، المطلوب لحماية المناخ العالمي. وهذا هو سبب فشل اجتماع ممثلي 180 دولة الشهر الحالي في بون بألمانيا في التوصل إلى مساومة ترضي الدول الصناعية الغنية والقوة العظمى الجديدة التي تضم الصين والهند وجنوب إفريقيا والبرازيل ومجموعة 77 التي تضم 100 دولة نامية. فالمطلوب من البلدان الصناعية خفض إطلاق غازات ثاني أوكسيد الكربون، وتوفير تكنولوجيا حديثة توفر للبلدان النامية فرص التنمية الصناعية النظيفة التي لا ترفع الحرارة العالمية. 

"المجموعة الاستشارية المالية لتغير المناخ العالمي" وضعت جدولاً بتحصيل التريليون دولار بمعدل مائة مليار دولار سنوياً خلال العقد الحالي من ضرائب على حركة النقل الجوي والبحري، وعلى المبادلات المالية العالمية، واستخدام احتياطيات العملة الخاصة في "صندوق النقد الدولي"، وتوسيع أسواق الكربون التي تتيح للبلدان النامية المقايضة على حصتها من هذه الغازات. 

وأسهل على المعالجات الحالية لتغير المناخ العالمي إجراء القياسات من معرفة ما الذي نقيسه بالضبط. هل المطلوب خفض حرارة الكرة الأرضية باستخدام مظلات عملاقة واقية من الشمس، أم المطلوب امتصاص غازات ثاني أوكسيد الكربون عن طريق أشجار صناعية أو طبيعية، أو تغيير حركة الرياح الغربية العالمية التي حرفها ارتفاع الحرارة العالمية أربع درجات نحو الجنوب، أو زرع المحيطات بدقائق حديد تحفز تكاثر العوالق البحرية التي تحوّل غازات الكربون إلى غيوم مائية، تعكس أشعة الشمس بعيداً عن الأرض؟ هذه مشاريع "الهندسة الجغرافية" التي عرض تفاصيلها اجتماع علماء ورجال أعمال نهاية الشهر الماضي في مدينة "أسيلومار" في كاليفورنيا. 

ويمكن مشاهدة واحد من أفضل نماذج "الهندسة الجغرافية" على الطبيعة في صفوف الأشجار الممتدة من أبوظبي إلى دبي بدولة الإمارات العربية المتحدة. تبّنى هذه التجربة الرائدة "برنامج الأمم المتحدة للبيئة" الذي أطلق "حملة المليار شجرة" عام 2006. وبلغ عدد الأشجار التي زُرعت منذ ذلك الحين عشرة مليارات، منها ستة مليارات شجرة زرعتها الصين، وملياران زرعتهما الهند. ولم تعد معالجة المياه العادمة وتحلية المياه المالحة المستخدمة لري الأشجار وقفاً على دول الخليج الغنية. انخفاض كلفة معالجة المياه قفز بكمياتها إلى نحو عشرة ملايين متر مكعب يومياً، أي ما يعادل 10 في المئة من كميات المياه العذبة المنتجة في العالم. ذكر ذلك "التقرير الاستخباراتي العالمي حول المياه" GWI الذي صدر هذا الشهر، ويضمّ معلومات عن دول ليست غنية انضمت إلى "نادي التحلية" بينها الجزائر، والهند، وغانا. واحتلت عاصمة ناميبيا الإفريقية المرتبة العالمية الأولى في معالجة مياه العادم، ومزجها مع موارد المياه العذبة الأخرى للاستخدام العام.

 وشيء واحد تعلمتُه بعد عمر طويل، وهو أن كل علمنا بدائي وطفولي بالقياس مع الواقع، مع ذلك فهذا أثمن ما عندنا". تلخص عبارة ألبرت آينشتاين أهم درس تعلمته منذ قمتُ بترجمة كتاب "مستقبلنا المشترك" الذي أعدته "اللجنة العالمية للبيئة والتنمية" التابعة للأمم المتحدة. صدر الكتاب عام 1989 عن "سلسلة عالم المعرفة" الكويتية، ووضع أساس الأفكار والمشاريع والاتفاقات التي عُقدت طوال العقدين الماضيين حول المناخ والبيئة. وساعدني ذلك في الاحتفاظ بمسافة من المرح تخفف عني وعن القراء صعوبة فهم علوم العلماء. وقد حفظ المرح أهم ما جرى في اجتماع "المجلس الدولي للاتحادات العلمية" في العاصمة النمساوية فينا نهاية عام 1991. راحت تفاصيل مناقشة علماء يحمل بعضهم جوائز نوبل مسودة "اتفاقية المناخ"، لكن بقي في الذاكرة استهلال تقريري المنشور على الصفحة الأولى بأغنية المطربة أسمهان "ليالي الأنس في فينّا! 

 الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com