|
14ساعة في مطار بغداد .. (الورقة الرابعة)
عبد الرزاق الربيعي (بعد مرور تسع ساعات) حين عدت للمصلى "مكان منامنا ومقر إقامتنا تلك الليلة " وجدت الزبيدي مستيقظا. سألته :يبدو أن السرير غير مريح! ابتسم قلت له:" إذا كنت اليوم أفترش سجادة صلاة فقد إفترشت ذات يوم صحيفة ونمت وبقيت على هذه الحالة أسبوعا !" نهض من جلسته مصغيا طالبا المزيد " ذات يوم عندما كنت في صنعاء إنتقلت الى سكن جديد وجاء توقيت الإنتقال بعد ساعات من عودة المؤجر السابق الى بلده وكان تونسيا وما أن أدخلت حاجياتي وإذا به يعود للبيت بسبب مشكلة حصلت له في المطار فعاد الى البيت ليسافر في الرحلة القادمة التي كانت ستنطلق بعد أسبوع ! فدخلت في جدال معه وأخيرا تركت حاجياتي في غرفة وخرجت الى الشوارع هائما على وجهي حيث أن ذلك حدث خلال العطلة الصيفية ومعظم أصدقائي كانوا يتمتعون بإجازة الصيف في العراق أو الأردن ! في الطريق قابلت مصادفة صديقيّ الدكتور سعد التميمي وكان يواصل دراسته في الخرطوم ود.صادق رحمة وكان يواصل دراسته في الهند وقدما الى صنعاء بحثا عن عمل في التدريس وبعد السلام سألاني: أين تقيم؟ *بلا مكان - هل هذا شعر؟ * لا , إنه حقيقة, ورويت لهما ما جرى لي قالا لي: ستكون فرصة جميلة , لتحل ضيفا على سكننا ,شكرتهما و اعتذرت لعلمي بظروفهما , لكنهما أصرا ذهبت معهما الى السكن وجدته يتألف من غرفتين أحدهما يشغلها مدرس إسمه هادي والثانية يقيمان بها والمفاجأة إنها كانت خالية تماما الا من بطانيتين ووسادتين , وصف من الكتب! وحلا للإحراج إفترشت صحيفة كنت أحملها معي وجعلت عددا من الكتب وسادة وضعت عليها رأسي , وإستغرقت في النوم, فجأة دخل هادي الغرفة فشاهدني على هذا الحال فعقدت لسانه الدهشة , وقال لي فيما بعد :لقد كنت أقرأ لك وأسمع عنك كثيرا لذا صدمت حين رأيتك تفترش الصحف وتنام كأي متشرد بخاصة غنه لقائي الاول بك" وبقينا نضحك كلما تذكرنا ذلك الموقف وكان هادي بارعا في التمثيل فيعيد تمثيل المشهد كل مرة بشكل كوميدي جديد , وكنا نطلب منه تكرار المشهد ! أتعرف أين هادي هذا الآن؟ سألت الزبيدي أجاب :أين؟ سكت وتحول ضحكي الى صمت تبلل بالدمع سألني:هل حصل له مكروه ؟ أجبت:نعم , وبصعوبة واصلت " قبل يومين سألت الدكتور صادق عنه وكنت قد جئت متلهفا للقائه , فأجاب الدكتور صادق: لقد قتل قبل ثلاثة شهور فقط ! - لاحول ولا قوة الا بالله ! كيف؟ كان واقفا في الشارع بمنطقة الطوبجي وإذا بشخص يستجير به من مجموعة مسلحة تريد قتله فأجاره ودافع عنه فقتلوهما معا وهربا!! كان خبر مقتل هادي من أسوأ الأخبار التي سمعتها في زيارتي لبلدي , لأن علاقة وثيقة جمعتني به بعد أن إنتقلت الى البيت الذي تركه التميمي وصادق فحللت محلهما ,وبقينا نأكل ونشرب ونسافر سوية الى يوم مغادرتي اليمن , قيل لي أنه كان يتابع أخباري ويسأل عني أهلي وأصدقائي , لكن للأسف حين إفترقنا باليمن عصر يوم 10-8-1998متوجها لمسقط لم يخطر ببالي أن ذلك الوداع سيكون الأخير بيننا , كان حزني ثقيلا عليه ولكن لم يكن لديّأي وقت فائض للحزن , فزيارتي كانت قصيرة , وقد توقعت أسوأ الأخبار لذا حاولت تأجيل حزني على هادي لحين عودتي الى مسقط , وهاهو الحداد عليه يقتحمني قبل أن أغادر بغداد التي كثيرا ما كنا نحلم بالعودة اليها وكان له أن يسبقني فودعها برصاصة حاقدة ! ثم رددت : في بلاد نسج الخوف على الأعين ظل العنكبوت لم نعد نبكي على من مات بل من سيموت" لاحظت أن الجو أصبح أكثر عتمة مما كان عليه ولكي أغير الموضوع قلت له: بدأت بطارية نقالي تعطي إشارة النفاد -هل معك شاحن؟ *نعم , نهضت بحثت في حقيبتي عنه وقعت عيني على ملحق لجريدة "الصباح" في عددها 1852 في 24-1-2009صدر بمناسبة يوم عاشوراء وتضمن كتابا حمل عنوان" أسئلة المأساة كربلاء في الأدب العربي الحديث " لصديقي الدكتور علي الشلاه والكتاب رسالة ماجستير تقدم بها الشلاه لجامعة اليرموك لنيل درجة الماجستير عام 1995 م وكنت شاهدا على كتابة بعض فصولها أثناء إقامتي بالأردن , لذا إحتفظ الشلاه بنسخة من الملحق وسلمه لي حين التقينا في منزله بالحلة , كان إهداء الكتاب المثبت على الصفحة الثانية طريفا فقد أهدى الشلاه كتابه "الى يزيد" مضيفا "الذي يزيد موتا كل عام والى الحسين مطلع الحياة والى كل حسين يطلع الكربلاءات " وقد أحسن الشلاه صنعا بجمع "كربلاء" فحين غادرنا العراق كانت به كربلاء واحدة ,أما اليوم فقد تكاثرت المآسي فصار العراق بعد عمليات القتل والسلخ والذبح والمقابر الجماعية كربلاءات !! كانت الشوارع تحمل أسماء شهداء سقطوا وصورهم , الى جانب صور قادة ورجل الدين محمد باقر الصدر وزعماء عراقيين كعبد الكريم قاسم الذي شاهدت له صورة كبيرة في مركز بابل , الى جانب صور المرشحين لإنتخابات البرلمان العراقي والذي توافق الإعلان عن نتائجها يكون كنت في بيت الشلاه في الحلة فتابعتها مع حوالي ثلاثين شخصا ,كان معظمهم من أنصار ائتلاف دولة القانون الذي رشح عنه الشلاه , وكان الكل يتابع إعلان النتائج بالحماس نفسه الذي يتابع به مشجعو أحد الفرق في مباراة مصيرية لكرة القدم ,كان الكل متوترا , البعض أمسك ورقة وأخذ يجري عمليات حسابية على عدد المقاعد التي فازت بها هذه الكتلة وتلك, وحين يعلن المذيع نتيجة طيبة يصفق أنصار تلك الكتلة بحرارة !! وفي الشوارع كان كل شيء قد توقف تماما بإنتظار النتائج , حتى إن أخي الكبير الدكتور حاتم إتصل بي من الصين وكانت فلول الفجر , حسب التوقيت الصيني , قد وصلت وحين سألته: هل لازلت صاحيا ؟أجاب :نعم, كلنا نتابع نتائج الإنتخابات ! هذه هي الحالة الجديدة التي أثارت دهشتي , فالكل يتحدث عن الإنتخابات كبارا وصغارا نساء ورجالا , أغنياء وفقراء , والكل ينظر اليها كحالة لتحديد مصير البلد خلال السنوات الأربع القادمات . على الغلاف الأخير من الملحق صورة كبيرة لمرقد الإمام الحسين بن علي (ع) ولافتة كبيرة سوداء نقشت عليها عبارة للصحابي عبدالله بن الزبير (رض) تقول العبارة" أفبعد الحسين نطمئن الى هؤلاء القوم ونصدق قولهم ونقبل لهم عهدا ,لا ولا نراهم لذلك أهلا ,أما والله لقد قتلوه ,بالليل قيامه ,كثيرا في النهار صيامه ,أحق هم فيه منهم ,وأولى به في الدين والفضل ,أما والله ماكان يبدل بالقرآن الغناء ولا بالبكاء من خشية الله الحداء ,ولا بالصيام شرب الحرام" وكانت العبارة المستلة من تاريخ الطبري تحمل الكثير من الدلالات والإشارات المبطنة لما يدور في الساحة العراقية السياسية وضعت الملحق جانبا وواصلت بحثي عن الشاحن فوجدته , حين سحبته جاءت معه قصاصة جريدة , كانت مقالا لأخي علي جبار عطية يصور لقائي به بعد سنوات الغياب ..ذكرني ذلك المقال الذي نشره في جريدة"الإتجاه الثقافي " بذلك اللقاء الذي جرى بفندق الميليا منصور فبعد وصولي بغداد بحوالي ساعة ,التقيت بأخوتي في الفندق وكان لقاء عاصفا, سجل بعض تفاصيله أخي عدنان بكاميرا صغيرة جلبها معه من الصين ليدون على "سيدي" تلك الدقائق المبتلة بالدموع والأشواق وصراخ أختي الكبرى الذي جعل من كان موجودا في المكان ينتبه وينظر صوبنا – حين عدت لمسقط كان كل من يسألني عن مشاعري أعرض عليه الفيلم الذي كان لا يتجاوز الدقيقتين , ولحسن الحظ فإن السماعة في جهاز " الكمبيوتر " الخاص بمكتبي بالجريدة متوقفة عن العمل, فكان العرض يأتي صورة بلا صوت ,لذا كان كل من يشاهد الفيلم لا يسمع الصراخ بل يرى فقط تكشيرة الأسنان فيظن إن أخوتي يضحكون , فيعلق كل من يراه :يبدو إن السعادة واضحة على وجوه أخوتك ! وكنت أقول لهم:نعم السعادة واضحة جدا ,..."شوفوهم شلون "يبتسمون من الفرح !!؟ فيبتهج زملائي في الجريدة لهذا الفرح الصامت ! والحقيقة إن حجب الصوت قلب المشهد من تراجيدي الى كوميدي , على أثر ذلك قست أهمية الصوت في السينما وتذكرت كلمة كان يرددها المخرج محمد شكري جميل "السينما صوت ..السينما صوت" ناسفا المقولة الرائجة التي تكرر أن "السينما صورة " مازلت متحجرا عند مقال أخي علي مسترجعا تلك الدقائق الموجعة اللذيذة حيث يقول في بعض فقراته : " كان يوم الاحد 21/3/2010 عاطفيا بامتياز اذ شهد فندق المنصور ميليا ظهيرة هذا اليوم لقاء عائلتي باخي الذي غادرنا مهاجرا يوم 1/2/1994 الى عمان ليبدأ رحلته التكاملية الابداعية وليكتشف معاني اخرى لمفاهيم مثل (الوطن) و(الكرامة) و(الحرية) وغيرها متنقلا بين عمان وصنعاء وسلطنة عمان... وعلى مدار الست عشرة سنة الماضية من هجرة اخي حدثت تغييرات كبيرة في العائلة.. رحل الوالدان الى السماء ولحقت بهما الجدة وتزوج الاخوة والاخوات وظهر جيل جديد يمكن ان يدعي انه جيل يعيش افضل العصور التكنولوجية والترفيهية يؤمن بالمشاركة في الحروب الالكترونية فقط ويضمن عدم مراجعة دائرة التجنيد لاغراض السوق العام! الشيء اللافت في رحلة اخي انها شهدت استخدام جميع وسائل الاتصال من البدائية الى الحديثة فقد استعملنا الرسائل البريدية العادية والهاتف الارضي والرسائل الشفوية والرسائل الصوتية باشرطة التسجيل ثم باشرطة الفيديو ودخلنا الى عالم الايميل وكانت الرسائل الصوتية تسجل وتبث بيننا ثم حدثت نقلة نوعية بدخول الهاتف المحمول ثم خدمة الهاتف عبر الانترنيت ثم الاتصال المباشر صوتا وصورة وحين التقينا بعبد الرزاق كان اللقاء يسجل عبر كاميرات متطورة وبكاميرات الهواتف المحمولة مما يكشف مدى التطور العملاق التي شهده العالم " أعدت القصاصة الى مكانها تذكرت إنني أفتقد "اللاب توب" في رحلتي هذه , وذلك لكرهي المزمن للزوائد التي أحاول جاهدا التخفف منها ما استطعت الى ذلك سبيلا وأنا أبحث عن نقطة كهرباء أضع بها الشاحن سألت الزبيدي : -آه لو كان معنا اللاب توب ! فأيدني : وقال بالفعل كنا سنراجع ملفاتنا أضفت:ونقرأ الرسائل الواردة لبريدنا الألكتروني ثم إستدركت :ولكن لو كان معنا "اللاب توب" هل يوجد في المطار "واير لس"؟ فضحك وقال: "انته هم بطران , خل نحصل استكان شاي وبعدين ندور على "واير ليس" !!
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |