التفسير المتكامل للتصور والممارسة .. "10"

 

عبد الرحمن آلوجي

renas550@gmail.com

إن للحاجات أثرا كبيرا في حركة الفكر واتجاهه إلى الممارسة في طابع عمل ميداني لا يمكن فصم عراه، ولا فك خيوطه وخطوطه ونقاطه المتشابكة، فالدوافع – على تنوعها ودرجاتها واختلافاتها – تشكل الخلفية الفكرية والقيمية والأخلاقية للفكر والممارسة، والتصور والسلوك يقول دنيس ويتلي صاحب كتاب "سيكولوجية الدوافع" (تتحكم قوة رغباتنا في دوافعنا، وبالتالي في تصرفاتنا ..، وقد رد حكيم صيني  مصدر الدوافع إلى رغباتنا المشتعلة .. د. إبراهيم الفقي /28، سلسلة النجاح، ج 1)،هذه الرغبات مما يمكن رصدها وتحليلها، والوقوف على معالم الجدة في الرغبة الشديدة كأنها الوحيدة المشتعلة في كيان الإنسان كقوة دفع شديدة إلى عمل لابد أن يتحقق في صورة واقع عياني قائم، واستلهام معانيه في الحياة الإنسانية والفكر الإنساني .

ومهما حاول العلماء والباحثون والمفكرون أن يجدوا تفسيرا للتاريخ الإنساني، وجملة تراكماته من خلال فكر الإنسان وممارسته، فإنهم لن يجدوا مندوحة من اللجوء إلى الوقوف طويلا على الدوافع والحاجات الإنسانية في التحرك على أرض الواقع, تلك الدوافع الكامنة والمحرضة على التحرك والعمل، لنقل التصور إلى سلوك متحرك  ووقائع وأفعال ( ... إذ أنها تمد السلوك بالطاقة, وتكون المحرك الأول له. والثانية أنها محرك في عملية اختيار السلوك الذي يلزم دون غيره في تلبية غرض الدافع . والثالثة أن أي دافع يستمر بتحريض السلوك وتحريكه حتى يلبي غرضه "حاجته" ... د. نعيم الرفاعي، الصحة النفسية /ط. 6/ ص 137 / .." . )، فيترجم الفكر إلى عمل ما، يقاس صوابه وجدواه وجديته بمدى ما يتركه من أثر إيجابي مبدع ومثمر، أو سلبي ومحبط ومسيء إلى مسيرة البناء والعمران والازدهار, ولقد صنف العلماء والدارسون الدوافع المحركة للسلوك ..( إلى دوافع فيزيولوجية، كأول ما يوضع في سلم الحاجات الإنسانية من طعام وشراب وما يحركها من جوع وعطش وبقاء كالدافع الجنسي، مما يهيء للبقاء وامتداد النوع وتكاثره، وإلى دوافع وحاجات السلامة، وهي حاجات العضوية إلى الأمن والسلامة، ثم حاجات المحبة والتعاطف والانتماء إلى الجماعة، ثم الدوافع التي تلبي حاجة الاحترام من الشخص نفسه ومن الآخرين، وهي الحاجة التي تؤكد ذات الإنسان ومكانته ومقامه وقوته وتأثيره واحترامه, وبذل ما في وسعه لتأكيد الوجود ودفع الطاقة في العمل والتفوق والإنتاج  .. المصدر نفسه، بتصرف ص /137 -138 / .)، كما تصنف الدوافع وفق وظيفتها  ( ..إلى عضوية حافظة للبقاء، ومثالية جمالية أخلاقية، وأخرى علمية وعقلية، تهدف إلى إرواء الفضول والاستزادة من المعرفة، وتطوير قدرات الإنسان   .. )، فدافع البقاء ( هو الذي يجبر الإنسان على إشباع حاجاته الأساسية مثل الطعام والشراب والهواء د. إبراهيم الفقي المصدر المتقدم ص 28 / )، وتظل هناك دوافع تحريضية أخرى لا تقل أهمية عن الدوافع الذاتية المحركة، وهي الدوافع ( الخارجية الموضوعية, هذا النوع من الدوافع مصدره العالم الخارجي ...ويظل المرء معتمدا على الدوافع لتقدير وكسب المحيط الخارجي ورضا المجتمع من حوله، واحترام مقامه ومكانته، مما قد يجعل الدافع الخارجي غير مطابق لرغباتنا الداخلية, فنقوم بأشياء لا تكون بالضرورة نابعة من دواخلنا، المصدر نفسه ص/32 ..)، ولكن ترجمة مختلف الدوافع إلى سلوك حي، وتصرف واضح المعالم يتضح  بعمقه ورسوخه الذاتي والموضوعي، وتلبسه بأعماق الإنسان مصدرا أساسيا في وصف وتفسير السلوك الإنساني، وما يريد بحثنا هذا أن يؤكد عليه هو مدى التلازم بين التصور والدافع والسلوك وتأثيراتها المتبادلة،   وخضوع التفسير المتكامل للتصور والسلوك والفكر والممارسة لمثل هذا التحليل، وما لعوامل تفسير السلوك ومقوماته من تبادل جدلي يمكننا من الوقوف على فهم عال ومتمكن من قواعد التصور والسلوك، وتفسير التراكمات التاريخية للفكر والممارسة الفردية والجماعية  بشكل متكامل، ومتعدد الوجوه والمعالم، بما يهبنا القدرة على التحليل وتعميق الظاهرة ودرس منعطفاتها وآفاقها، وتصور وضعها في المنظومة الفكرية، ونظام الحياة، وتفسير التاريخ، ومسالكه ودروبه .

فالفكر الإنساني وسلوك الأفراد والجماعات المنبثقة عنه، وتراكماته والمسيرة التاريخية، والمواقف المتباينة، تنطلق من مجموعة من الكوامن الباعثة التي تشكل تصورا محددا، يشكل بدوره محور عمل يعبر عن قوة الدافع، وإلحاح الحاجة المترجمة بدورها عن ذلك التعبير العميق الكائن وراء المنظومة الفكرية، ومستكنات الضمير ونوازعه، وقيمه الأخلاقية، والعرف السائد، والسنن والقواعد المستقرة، والأخرى المتجددة، بما يمكن أن يشكل عنصر دفع وتألق وتطوير يمكن الوقوف بدقة على عواملها وأسبابها، وفهم الملابسات المحيطة بها، وبالتالي حسن تفسيرها، وتحديد معالم الفكر ومنابعه، ورصد ترجمته الحية والمتحركة في أفعال ووقائع كما أسلفنا .

وتختلف قوة الدافع وقربه من العضوية باختلاف تلبيته للحاجة الإنسانية الملحة، فالدافع العضوي أو الغرائزي أو المتعلق بالبقاء والامتداد، باختلاف التصنيفات والتسميات، يعد أقرب إلى الفكر والسلوك منه إلى الدوافع العليا او الخارجية أو الدوافع الثانوية الموجبة لتأكيد الذات وتأصيلها و ورفع سويتها، كالدوافع المثالية والأخلاقية والروحية والعقلية والعلمية، على أهميتها وحيويتها وقوة تأثيرها في الحياة السلوكية، وعمق حيويتها في تفرد الإنسان وتميزه، وما لكل من اثر في تفسير الصيرورة التاريخية، الآيلة إلى بلورة الظاهرة التاريخية وحسن رصدها وتحليلها بعمق يرتقي إلى تساند الدوافع كلها في بناء وتوجيه وتعليل السلوك الإنساني، في تفسير متكامل لا يكاد يلغي مجمل الدوافع الذاتية والأخرى الموضوعية، دون أن يعني ذلك غض النظر عن قوة هذا الدافع أو ذاك، واتساع مدياته كما أسلفنا، ليتحدد محتوى التفسير المتكامل وهو يرصد ظاهرة التصور والسلوك، ويحيط بالأعماق  ولا يغفل الظاهر والمحرك الأبرز والأقوى، وهو يدفع إلى السلوك الإنساني ومظاهره وعوامله .

ولا تكاد الدوافع تقف عند حدودها الأولية في البقاء والامتداد والتأمل وتأكيد الذات، بل تخضع لعملية تحوير وتطوير وتراكم، بحيث يتحول دافع البقاء في إلحاحه على توفير الضرورات الحياتية الأولى والحافظة للكيان لعملية دفع وتراكم وتعقد، بتعقد الارتقاء في سلم الحاجات العضوية الأولى وطرق الحصول عليها, للتحول إلى مسائل مادية، تدفع إلى الاقتصاد وأدواته وبرامجه ووسائل الإنتاج فيه، والعمل وميادينه وعلاقاته ومؤسساته ونقاباته، والعمال والمعامل وقضايا الأجور والطلب والعرض، والقيمة الفائضة، والأرباح والخسائر والشركات والتروستات الكبيرة، والأزمات المالية، وما توفره برامج النهوض الاقتصادي وسوى ذلك من القضايا الملحة لتامين الأسواق وحركة النقل، ووسائطه وأدواته، والمصارف والعقود والمعاملات التجارية المعقدة من بيع وشراء ورهن وضمان وتامين ومكاتبات وتعهدات، وما ينجم عن كل ذلك من اتفاقات ومؤتمرات ولقاءات على مستوى الشركات والدول، مما يمكن أن يؤثر بشكل رئيسي على علاقات الدول والأفراد، وما يمكن أن تقود إليه من منازعات وصراعات وحروب على الأسواق والمورد والمنتجات من تعدين وتصنيع، ومن إنتاج زراعي وخدمي يشكل عصب الحياة الاقتصادية في الصناعة والزراعة والتجارة وتبادل المنتجات، لتامين المأكل والمشرب والمسكن ووسائل الإنتاج والطاقة والنقل، ليشكل هذا الدافع المادي الهائل بتطوراته، وتعقد حاجاته والرفاه المتزايد فيه محورا أساسيا في حركة الأفراد والجماعات والدول والحكومات، ولكن ذلك لا يعني الحركة الكلية الدافعة والعامل الأوحد في قوة الدفع في الممارسة والتصور, لتطرح العوامل الأخرى في الدوافع الخارجية والمثالية والروحية والعقلية عناصر دفع ومد بالطاقة المحركة في الفعل الإنساني النابع من تصور يفعل فيه التطور العلمي فعله، ليراكم المعرفة الإنسانية، ويسمو بهذه الدوافع في شكلها وحاجتها ومضمونها، لتكون عاملا مهما في الحركة والنشاط الإنساني، مؤكدين على أهمية كل دافع وحيويته في تفسير التصور والسلوك الناجم عنه، وعن النوازع الداخلية العميقة، والتي سوف نفردها في دراسات مستقلة قادمة لتكوين صورة متكاملة لا تأخذ بالحسبان فقط الدوافع المادية الصرفة – على أهميتها وضرورتها وحيوتها – بل تجد من الأهمية بمكان الدوافع الأخرى، كقدرة نافذة وفاعلة ومؤثرة على الفعل والتفاعل والتكامل، لنقل الصورة المستقرة في الفكر إلى طاقة عمل عياني ماثل ومتحرك يمكن درسه والوقوف على أدق عوامله .  

 العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com