|
مفارقات الثورة العلمية العالميه
محمد عارف مستشار في العلوم والتكنولوجيا خريطة البحث العلمي العالمي، ليست فقط أغرب ممّا نتصور، بل أغرب ممّا نستطيع، ولا أقول ممّا نريد أن نتصور. ومن يتصور أن أسرع معدلات نمو البحث العلمي خلال ثلاثين سنة الأخيرة حققتها سبعة بلدان؛ أربعة منها إسلامية، أحدها سني، والآخر شيعي، واثنان عربيان خليجيان، وبلد شيوعي رأسمالي، وبلد جزأته الحرب الأهلية منذ ربع قرن، وآخر كافح من أجل البقاء بعد حرب عالمية مدمرة قسمته شمالا وجنوبا في ستينيات القرن الماضي؟! وكما يقول المهندس الألماني سيمنز "أن تقيس هو أن تعرف". وهذا ما تفعله الدراسة المنشورة بعنوان "ثلاثون عاماً في العلم". قياس معدلات نمو البحث العلمي في جميع بلدان العالم للفترة ما بين 1980 و2009 دفع المؤسسة الكندية الأميركية Science-Metrix التي أجرت الحسابات إلى التسليم بضرورة إعادة النظر بدراسة سياسة العلم. والمطلوب، حسب اعتقادي إعادة النظر بعلم السياسة أيضاً، تبين ذلك أرقام الدراسة التالية: البلدان حسب سرعة نموها العلمي هي: إيران، وكوريا الجنوبية، وتركيا، وقبرص، والصين، وسلطنة عُمان، ودولة الإمارات العربية المتحدة. الرابطة الوحيدة بين هذه البلدان وقوعها في، أو على تخوم، قارة آسيا التي تعيد لصالحها رسم خريطة البحث العلمي العالمي. وحصة منطقة الشرق الأوسط كبيرة، حيث تضاعف نمو البحث العلمي فيها أربعة أضعاف، حسب الدراسة التي اعتمدت القياسات الببلوغرافية bibliometric لمعطيات النشر العلمي. وتثير معدلات نمو البحث العلمي مفارقات في التعامل مع تركيا، التي رفض الاتحاد الأوروبي منحها عضويته، ومع إيران التي يتهددها الموقف الخطير الذي واجه العراق بسبب تطويره برامج التكنولوجيا الذرية في ثمانينيات القرن الماضي. وتبين مؤشرات الرسم البياني في الدراسة تقلب معدلات الإنتاج العلمي لإيران والعراق والكويت، الدول الثلاث التي بدت متقاربة عام 1980 مع تقدم نسبي للعراق والكويت على إيران. وأعقب نهاية الحرب العراقية الإيرانية صعود مؤشر الإنتاج العلمي الإيراني، الذي شرع منذ عام 1990 في تسجيل أرقام قياسية، فيما تدهور عقب حرب 1990 مؤشر إنتاج البحث العلمي في العراق والكويت. وتبين الأرقام أن الكويت لم تستعد حتى الآن مستويات إنتاجها العلمي العالية في الثمانينيات، بينما كان الإنتاج العلمي للعراق قد شرع في استعادة نموه مع حلول عام 2000، رغم تدمير هياكله الارتكازية وقسوة الحظر الشامل عليه، ويحاول الآن الخروج من نقطة الصفر التي دفنها فيه الغزو الأميركي عام 2003. اعتمدت الدراسة على تحليل معلومات "شبكة العلم" Science Web التابعة لمؤسسة Thomson Reuetrs والتي كشفت سرعة نمو خارقة للإنتاج العلمي في الصين بلغت خمسة أضعاف سرعة نمو الولايات المتحدة، وتتجه حثيثاً للحاق بها في غضون خمس سنوات قادمة. وقد نجد تفسير هذه الظاهرة في كتاب المؤرخ والفيلسوف الأميركي "توماس كوهن"، "تركيب الثورات العلمية"، حيث يؤكد: "على الأغلب دائماً يكون الرجال الذين يحققون اختراعات أساسية ذات منحى جديد إمّا شباباً في مقتبل العمر، أو قادمين جددا تماماً على الفرع الذي يغيرون منحاه". وكما في السياسة لن تصح الأحكام التقليدية حول انتقال مركز الثقل العلمي من الغرب إلى الشرق، حيث نرى حفاظ أوروبا على معدلات نموها الثابتة، وعلى حصتها البالغة ثلث مجموع الإنتاج العلمي العالمي. وعلى عكس ذلك انخفضت عن المعدل العالمي وتائر نمو الإنتاج العلمي في بريطانيا، وكندا، والولايات المتحدة، وإسرائيل. وفي حين فقدت أميركا الشمالية مواقعها الاستراتيجية كقوة علمية عظمى، تضاعفت مرات عدة معدلات الإنتاج العلمي لبلدان أميركا اللاتينية وحوض الكاريبي. ويصعب في التشنجات الحالية لأوضاع الاقتصاد العالمي تمييز الأسباب عن النتائج. هل يعود تقليص موازنات التعليم العالي والبحث العلمي إلى الأزمة المالية العالمية، أم العكس؟ في بريطانيا مثلا يتوقع أن يؤدي خفض موازنة التعليم العالي بنسبة 15 في المئة إلى خسارة الجامعات أكثر من مليار دولار خلال ثلاث سنوات قادمة. محافظ بعض الجامعات البريطانية خاوية، وديونها كبيرة، وبعضها لا يملك النقد الكافي لدفع مرتبات هيئاته التدريسية، فيما اضطرت جامعات معينة إلى إلغاء فروع علمية، ووقف مشاريع بحثية. ويبدو خفض الإنفاق على البحث العلمي "كارثة ذرية"، حسب عنوان مقالة في صحيفة "الغارديان" للعالم العراقي الأصل جيم (جميل) الخليلي، أستاذ الفيزياء النظرية في "جامعة سري" في بريطانيا. ويعتبر الخليلي، الذي يشغل كرسي "التوعية العلمية" مبلغ نحو 70 مليون دولار المستقطع من الموازنة السنوية لأبحاث الفيزياء النووية في بريطانيا تافهاً بالمقارنة مع الكفالات الممنوحة للبنوك المفلسة، أو مرتبات لاعبي كرة القدم. ويقدم الخليلي صورة مؤثرة لمآثر علوم الفيزياء النووية التي تدخل في كل ما يحيط البشر، من استكشاف الكون، وحتى خدمات العناية الصحية، وتشخيص أمراض السرطان وعلاجها، وحماية البيئة، وتوليد الطاقة. ويحذر من مخاطر الفشل في دعم بحوث الفيزياء المسؤولة عن الصناعات النووية ودفن النفايات المشعة. وعلى صعيد القارات بلغ معدل سرعة نمو الإنتاج العلمي في آسيا 155 في المئة وتجاوزت بذلك الولايات المتحدة. وكما تدل الإحصاءات، يترك الصعود الآسيوي الذي بدأ في مطلع التسعينيات آثاراً محبطة على أميركا الشمالية، والتي تقلصت مساهمتها في الإنتاج العلمي العالمي بشكل درامي منذ عام 1980. وفي عام 2009 تفوقت آسيا لأول مرة على الولايات المتحدة في عدد الأوراق العلمية المحكمة التي أنتجتها. وتظهر قوة آسيا في قفزاتها التكنولوجية والفكرية والعلمية. لقد استغرق تطور الصناعات الإلكترونية في الولايات المتحدة ثماني سنوات، وفي اليابان ست سنوات، وفي كوريا الجنوبية أربع سنوات، أما في الصين فسنتين فقط. "ادرسْ الماضي إذا أردت معرفة الحاضر"، حسب نصيحة الحكيم الصيني كونفشيوس. تُقرّ بوجهة النظر هذه الدراسة التي تؤكد على الدور المهم للعوامل الثقافية، و"الإثنية" اللغوية، والجغرافية، والتاريخية. وعلى خلاف التصورات الشائعة، لا تفصل العوامل المذكورة العلماء عن المجتمع العلمي العالمي، بل تدمجهم فيه. وهذه وقائع فريدة نقرأ فيها جواباً بالأرقام عن سؤال غالباً ما يُطرح حول جدوى التغني بماضي العرب والمسلمين العظيم في العلوم. شارك في التغني مؤرخ العلوم المشهور جورج سارتون الذي اكتشف في كتابه "تاريخ العلوم" أن "العلم ثوري دائماً، وابتداعي؛ جوهره نفسه هو الذي يجعله كذلك، ولا يتوقف عن أن يكون كذلك إلاّ عندما ينام". ثورة نائمة في ما يُسمى العقل الباطني، أو تيّار الوعي الداخلي لأبناء الأمم العريقة، ما أحلى استيقاظها على وقع قفزات النمو العلمي!
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |