العراق بين طاحونة الإرهاب وابتزاز السياسيين

 

 

د. جواد بشارة

jawadbashara@yahoo.fr

قبل سبع سنوات، وبعد غياب في المنفى دام ثلاث عقود، عدت إلى العراق للمشاركة في العملية السياسية انطلاقاً من كوني أحد نشطاء المعارضة للنظام السابق في الخارج، وتحديداً في الساحة الفرنسية، وكان ذلك في الأسابيع الأولى التي أعقبت سقوط النظام الصدامي، وطغيان ظاهرة الحواسم، والنهب والسلب والقتل على الهوية وعمليات الانتقام والتصفيات الجسدية والاغتيالات العشوائية، وبموازاة ذلك تنصيب هيئة سياسية من قبل القوة المحتلة للعراق أي الولايات المتحدة الأمريكية، تحت لافتة مجلس الحكم. آنذاك كتبت عدة مقالات نشرتها في إحدى الصحف العراقية التي تأسست حديثاً بعد التغيير. قلت في إحداها إن العراق بحاجة إلى عقد من الزمن على الأقل لكي تستقر فيه الأوضاع نسبياً، على ضوء معطيات وتوازنات القوى الداخلية والإقليمية والدولية المهيمنة في تلك الحقبة، وفي ظل الظروف التي كانت سائدة في تلك المرحلة الحساسة والمتأزمة. فمن بديهيات التحليل السياسي أن العراق الحديث العهد بالممارسة الديموقراطية ، يحتاج أيضاً إلى تجربة وخبرة عملية لا تقل عن عقد من الزمن أو أكثر مع ما سيشوبها من قصور وتلبك، وهذا ما حدث بالضبط. فالإيجابية الوحيدة التي كانت ماثلة للعيان هي إسقاط النظام الدكتاتوري، ولو بثمن غالي، عدا ذلك كانت المرارة والمعاناة والمخاطر هي عنوان المرحلة. كان خطر الحرب الأهلية جاثماً على الأنفاس، والميليشيات المسلحة والخارجة على القانون، والعصابات الإجرامية، والعناصر الإرهابية هي التي تسيطر على الشارع العراقي. كان المحتل يجهل تماماً طبيعة المجتمع العراقي ، وكان يتخبط في سياساته وفي طريقة تعامله مع الواقع العراقي المعقد، ويتبع سياسة التجريب ، وبالرغم من ذلك انتصرت الرؤية الأمريكية على الرؤية الوطنية العراقية في تشكيلة ملامح المشهد السياسي العراقي كما يريده الأمريكيون لا كما يريده العراقيون الوطنيون والديموقراطيون الشرفاء. كان المحتل الأمريكي يريد أن يحكم العراق حكماً عسكرياً مباشراً لكنه اصطدم بصخرة الرفض العراقي - الوطني الذي أيدته ودعمته المرجعية الدينية مما أرغم الأمريكيين على التنازل وتعيين حاكم مدني سيء الصيت هو بول بريمر الذي تصرف بشؤون العراق كأنه ديكتاتور مطلق الصلاحيات، ولسوء الحظ وجد من يتعاون معه من جانب بعض القوى السياسية الوطنية التي كانت تعارض نظام صدام حسين لعقود طويلة، والتي قبلت بمبدأ المحاصصة الطائفية الذي فرضته الإدارة الأمريكية. كان العراق يحتاج لدورتين انتخابيتين حقيقيتين على الأقل ليقوم بالخطوة الأولى الحقيقية على طريق الديموقراطية، كانت الأولى سنة 2005 والثانية سنة 2010، وما يزال العراق يسير في طريق مسدودة. وكانت تجربة كتابة الدستور، وصياغة قانون أعرج ومشوه للانتخابات، وهو قانون غريب من نوعه، ولا يوجد له مثيل إلا في دول من العالم العاشر، وكأنه تم تفصيله على العراق وحده، هي الإرهاصات العملية لحالة التخبط السياسي التي يعيش فيها العراق اليوم. لم ينس العراقيون مهزلة اختيار رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء في الحكومة المؤقتة التي فاز بها بأعجوبة الدكتور أياد علاوي وغازي الياور، وكذلك مأساة اختيار رئيس الحكومة في أعقاب انتخابات عام 2005 التي فاز بها الدكتور إبراهيم الجعفري على منافسه الدكتور عادل عبد المهدي بصوت واحد بفصل موقف التيار الصدري الذي كان خصماً للمجلس الإسلامي الأعلى آنذاك. وفي فترة حكم الدكتور الجعفري غرق العراق في موجة من العنف والإرهاب وسيطرة الميليشيات المسلحة وفرق الموت والعصابات التكفيرية ومجرمو تنظيم القاعدة الإرهابي، حتى كاد أن ينفجر ويتفتت إلى دويلات طائفية متناحرة لولا التسوية التي حدثت وأزيح بفضلها الدكتور الجعفري عن كرسي رئاسة الحكومة وتسليمه إلى مرشح التسوية الأستاذ نوري كامل المالكي، حيث تنفس العراق الصعداء وتحسن الأمن نسبياً واستعاد العراق أنفاسه ولكن لم يتحقق شيء يذكر على صعيد الخدمات والتعليم والصحة والبنى التحتية والبطالة، وكان السيد نوري المالكي يملك برنامجاً لإخراج البلاد من مأزق الطائفية وبناء مؤسسات دولة القانون بيد أنه كان مكبل اليدين ولم يسمح له بتنفيذ خططه الإصلاحية خوفاً من أن نجاحه سيجلب له شعبية تجعله يتفوق على خصومه ومنافسيه، وقد أدركت ذلك شخصياً، وسمعته منه شخصياً عندما طرحت عليه تصوري وتحليلي في لقاء خاص بيننا. ثم جاءت الانتخابات التشريعية الأخيرة لتفرز واقعاً جديداً، لم يتح للمالكي أغلبية برلمانية مريحة للمضي في برنامج دولة القانون، وهاهو اليوم سجين أطروحات جديدة – قديمة بمسميات مختلفة فالمحاصصة تحولت إلى الشراكة ، ولعبة الأغلبية والأقلية البرلمانية ، التي هي من صميم الديموقراطية الحقة، تحولت إلى حكومة المشاركة الوطنية والتوافق الوطني مما يعني تكبيل وتقييد رئيس الوزراء القادم، أياً كان إسمه، ليعود العراق إلى المربع الأولى في مرحلة ما بعد بول بريمر، أي عراق بحكومة ضعيفة وشبه مشلولة. فالكل في عراق اليوم فائزون ولا يوجد خاسر لأن القوى السياسية لم تهضم بعد مبدأ أو مفهوم الفائز والخاسر انتخابياً بروح رياضية وفقاً للدستور. فالكل يفسر الدستور على هواه، ولا يرغب أحد بالتنازل للآخر عن أي شيء حتى لو كان من شأن ذلك إخراج العراق من عنق الزجاجة وإحداث الانفراج للمأزق السياسي الذي غرقت فيه البلاد وما تزال. التصريحات العلنية عبر وسائل الإعلام، لزعماء الكتل والقوى السياسية العراقية ودودة ومطمئنة، لكن الدسائس وعمليات الطعن والتشويه والتسقيط والمناورات الدنيئة تجري في الكواليس والاجتماعات السرية، إلا أن ما ظهر للعلن ، وهو قليل ، جعل الناخب العراقي يدرك أن صوته الانتخابي ذهب هباءاً وإن القوى الإقليمية ودول الجوار العراقي هي التي تتحكم بمستقبل العراق على نحو مباشر ووقح وصريح أحياناً، أو غير مباشر أحياناً أخرى، وبمباركة أمريكية، أو على الأقل بصمت وتشجيع أمريكي مبطن إن لم نقل بتواطؤ أمريكي. فإيران تحتضن وتمول وتسلح مقتدى الصدر وعدد كبير من الجماعات المسلحة العراقية الخاصة، المنتشرة داخل العراق وفي إيران نفسها، لقادم الأيام، عندما تحين فرصة الاستفادة منهم وتوجيههم لما يصب في صالح المخططات والمصالح الحيوية الإيرانية قطعاً. والسعودية تحتضن وتمول وتدعم القائمة العراقية باعتراف عدد من أقطابها وعلى رأسهم حسن العلوي، وسورية تناور قدر المستطاع للتخلص من نوري المالكي لأنها لم تستسغ صراحته بشأن تواجد قيادات صدامية داخل الأراضي السورية، تخطط لتخريب العراق وتنفيذ عمليات إرهابية وتخريبية لزعزعة استقرار هذا البلد وأمنه. فالقوى السياسية تتناحر من أجل السيطرة على كرسي الحكم ولم تتوان في استخدام كل الطرق المشروعة وغير المشروعة من أجل احتكار السلطة وإعادة بعض الشخصيات التي رفضها الشعب العراقي إلى سدة الحكم ومراكز القرار، خاصة ممن ارتبطت أسمائهم وتاريخهم بالنظام الصدامي المنهار، والضحية في كل ذلك هو الشعب العراقي الذي لم يمتلك بعد الوعي الديموقراطي والانتخابي الكافي لوضع حد لمثل هذه المهازل التي تعصف بالعراق وتجعله كأنه جمهورية موز ومثاراً للسخرية بالرغم من تاريخه العريق وثروته الهائلة المادية والبشرية. ومن جهة أخرى تتكالب عليه قوى الشر والجريمة والإرهاب الإسلاموي والتكفيري وعصابات البعث الصدامي المقبور التي تعمل جاهدة وبكل قواها لتدمير ما تبقى في هذا البلد المنكوب وتحويله إلى خراب شامل، مستغلين الثغرات ، وتواطؤ بعض القوى السياسية التي تستفيد من العمليات الإجرامية لتخويف الشارع العراقي وممارسة الضغوط في مناوراتها السياسية الأنانية متناسية أن سقوط الهيكل سيكون على رؤوس الجميع وهو الأمر الذي يتمناه ويعمل من أجله الإرهابيون والتكفيريون والصداميون الذين يحلمون بالعودة إلى السلطة بكل الوسائل والطرق ولو كان ذلك بتحويل العراق إلى أنهار من الدماء على حد تعبير أحد الزعماء العراقيين الموجودين في صلب العملية السياسية الآن. فهؤلاء السياسيون يعرفون حق المعرفة أن الإرهابيين ومجرمو البعث الصدامي يلعبون على معزوفة التناحر الطائفي والعرقي والقومي والمذهبي ويتعمدون تأجيج الفتنة الطائفية لتخريب العملية السياسية وإجهاض التجربة الديموقراطية الوليدة، والتي سيكون الخاسر الوحيد فيها هو الشعب العراقي . أنها الفرصة الأخيرة أمام السياسيين لتصحيح مسار العملية السياسية نحو وجهتها الصحيحة وإلا فيوم الحساب سيكون قريباً على يد الشعب العراقي ومن خلال أصواته في صناديق الاقتراع القادمة.

 العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com