هل نحن مسلمون أم قبليون؟

 

د. حامد العطية

hsatiyyah@hotmail.com 

ساستبق السؤال:هل القبلية دين؟ فأجيب: هي دين، أو أشبه ما يكون بالدين، فما الدين؟ هو مجموعة من المعتقدات والشرائع والسنن، التي تختلف في مضامينها وتفاصيلها من دين لآخر، وعادة ما يشتمل على اعتقاد بآله واحد أو عدد من الآلهة، كما يتضمن معتقدات غيبية وغير غيبية ونظاماً من الشرائع والسنن، وغالباً ما يكون للدين أماكن خاصة للعبادة وكهنة أو رجال دين، يضعون ويبينون الأحكام الدينية ويشرفون على تطبيقها.

يعبد القبليون الله، ويؤمنون بالقرآن الكريم، ويصدقون بنبوة محمد، لكنهم لا يطبقون حكم الله في كثير من أمورهم، بل يلتزمون بسننهم وتقاليدهم القبلية، مع علمهم بمخالفتها لشرع الله، وعلى سبيل المثال يرفض القبليون تطبيق أحكام المواريث التي بينها الله في قرآنه الكريم، ففي أعرافهم يورث الابن الأكبر نصف ميراث أبيه، كما يحرمون البنات حصتهن الشرعية من الميراث، وبينما يبين القرآن الكريم بأن لا وازرة تزر أخرى، يخالف القبليون ذلك في ممارستهم للقاعدة القبلية: في الجريرة تشترك العشيرة، لذا ينتقمون من القاتل بقتل أخيه أو ابيه أو ابن عمه، وإذا لم يحسم الخلاف حول جريمة القتل فقد تتحول إلى ثارات متبادلة أو حتى صراع يشترك فيه كافة محاربي القبيلة، يسقط فيها الضحايا من المذنبين والأبرياء على حد سواء، و وفي اقتصاصهم من الزانية لا يفرقون بين المحصنة وغير المحصنة، بل يقتلون على الظن فلا شهادة أربع شهود، ولا حتى شاهد واحد، ولعل ابن العم القبلي ما زال ينهى – لا عن المنكر- وإنما ابنة عمه عن الزواج بغيره، إلا إذا استرضوه بمبلغ من المال، وهل هنالك أقبح من استعمال المرآة "الفصلية" تعويضاً عن الدماء في تسوية جرائم القتل؟

وأبرز ما يميز القبليون عن غيرهم عصبيتهم القبلية، وهم عندما يفكرون ويتصرفون وفقاً لهذه العصبية يخالفون أمر الرسول العظيم الذي قال: دعوها –أي العصبية القبلية- فإنها منتنة،  لذا نستنتج بأن كل من تعصب لقبيلته فهو نتن، والفرق بين القبلي المتعصب لقبيلته والمسلم الحق نجده في جواب الصحابي العظيم سلمان الفارسي عندما تفاخر بعض المسلمين الأوائل بأنسابهم أمامه، وعندما لم يرد عليهم سألوه: ابن مَنْ أنت؟ قال: أنا ابن الإسلام، وهو أصدق تعبير عن دعوة الإسلام إلى نبذ العصبيَّة القبليَّة والعرقيَّة.

ومن المعروف بأن الرئاسة في القبيلة ليست شورى بينهم، ولا هي للافضل والأجدر من افراد القبيلة بل هي وراثية،  كما يميزون في المعاملة بين رئيس القبيلة وأقاربه وبين بقية أفراد القبيلة، فبينما قد يحكم على القاتل من عامة أفراد القبيلة بالقتل أو دفع الدية تكون أسوء عقوبة تفرض على القاتل من عائلة الرؤساء النفي او الجلاء من ديار القبيلة.

هذه هي أحكام القبليين، التي يعتقدون بها ويمارسونها ويطبقونها، وهم مدركون بأنها مختلفة اختلافاً بيناً عن الشرع الاسلامي التي تتفق عليه كافة المذاهب والفرق الاسلامية، فماذا يكون الفرد الذي يؤمن ببعض الكتاب ويكفر أو يرفض بعضه؟

من قبل كان أهل مكة والجزيرة على دين، وهم المخاطبون: لكم دينكم ولي دين، فما كان دينهم؟ كانوا يعبدون الله، لذلك تسمى البعض منهم عبد الله، فهم في ذلك سواء مع المسلمين، ولكنهم أشركوا في عبادته، وتقربوا له بعبادة الأصنام، وهذا انحراف كبير عن ملة التوحيد، كما كانت لهم شريعة وأحكام وتقاليد يلتزمون بها ويتبعونها، ومنها الوصيلة والحام والاستقسام بالأزلام، ومن تقاليدهم أيضاً قتل أولادهم خشية إملاق ووأد بناتهم توقياً للعار، وهذا الشريعة والسنن موضوعة من قبل كهنتهم ورؤسائهم، ولكنهم على خلاف أتباع ديانات وثنية أخرى لم يكن لهم كتاب أو كتب دينية تتضمن معتقداتهم وشرائعهم، وبالرغم من ذلك فقد كان لهم دين، هو دين الشرك أو دين الأعراف القبلية.

ولو سألنا هل يتحول المسلم من مؤمن موحد إلى مشرك؟ والجواب عليه موجود في القرآن الكريم، لما أوحى الشيطان إلى كفار مكة أن يسألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الشاة تصبح ميتة من قتلها؟ وأنه إذا قال صلى الله عليه وآله وسلم قتلها الله أن يقولوا: ما قتلتموه بأيديكم حلال وما قتله الله حرام؟ فأنتم إذا أحسن من الله. أنزل الله في ذلك قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}. فبين تعالى في هذه الآية بأن من اقتنع بمنطق الكفار، وعصى أمر الله، وخالف حكماً واحداً فقط من أحكامه في الطعام فهو مشرك، والله يغفر كل ذنب إلا الاشراك به، فماذا نسمي القبليون الذين ينقضون حكم الله في الميراث والقتال والقصاص والزنى وغيرها؟

جاء الإسلام ليوحد العرب والناس أجمعين حول كلمة التقوى والصلاح وعمل الخير، وهذا لا يتم مع استمرار العصبية للعنصر أو القبيلة والإلتزام بأعراف الجاهلية القبلية الظالمة، لكن كثيراً من المسلمين لم يتخلوا تماماً من عاداتهم واعرافهم القبلية، بل استمروا في التمسك بها وتطبيقها، حتى وإن تناقضت مع أحكام الإسلام، وهم المخاطبون في الآية الكريمة التالية: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) المائدة:50، وحتى اليوم ما زال تفكيرهم وسلوكهم محكوماً بإنتماءاتهم وأعرافهم القبلية، ومنها تلك القبائل التي ترفض مصاهرة قبائل أخرى لأنهم يرونهم دونهم في عراقة الأصل ويميزون في المعاملة بين الاصيل وغير الأصيل، وبين القبلي والصانع، وبين السيد ومن كان أجداده مسترقين، وهم يكابرون ويعاندون في غيهم وانحرافهم، على الرغم من الأدلة الكثيرة على كون التعصب القبلي آفة اجتماعية، نخرت في جسم المجتمع العربي والإسلامي إلى حد قارب الفناء.

ليس بالهين الخلاص من القبلية وسيطرتها على فكر وسلوك الفرد، فهي لا تختفي بمجرد أن يهجرالقبلي ديار قبيلته ويقطن المدن، لأنها تعشعش في عقله وتسيطر على تفكيره، إلا ما ندر، لذا لا نستغرب إن وجدنا في فكره وسلوكه بصمات القبلية الجلية، فإن تولى منصباً حابى أقرباءه وأفراد قبيلته وأقصى غيرهم، وقد يكون من السهل عليه بالمقارنة نبذ ديانته بالانتماء إلى حزب إلحادي، لكنه وبصورة واعية أو غير واعية يحافظ على نهجه القبلي، والمثال على ذلك البعثيون في العراق، وبالذات قائدهم الطاغية صدام حسين، الذين كان – وعلى النقيض من الفكر البعثي العروبي – قبلياً حتى العظم، بل كان يجاهر ويتفاخر بقبليته ويتصرف بموجبها، وما سلوكه الطائفي إلا امتداد لعصبيته القبلية، وكل أشكال التعصب والتطرف الديني والسياسي والإثني في العالم العربي والإسلامي متجذرة في فكرنا الحامل لجراثيم التعصب القبلي.

"ومع أنَّهم كلَّهم كانوا مسلمين، فما جمعت رابطة الدين شملهم، ولا لطَّفت شعورهم، وما أزالت غير القليل من التنافر والتنابذ في ما بينهم... وقد تتجاور الأحياء وتتلاصق، ولا تتجاور القلوب، ولا تتلاصق الإحساسات القوميَّة، فالعقليَّة في كلِّ جماعة لا تزال في الغالب عقليَّة بدويَّة، مفتوحة لإخوانهم، ومقفلة دون الآخرين،"

 هكذا وصف أمين الريحاني أهالي بغداد في الثلاثينات من القرن الماضي }أمين الريحاني، قلب العراق، بيروت: مطبعة صادر، 1935، ص 41{.،

وقد أثبتت الاضطرابات الطائفية في السنوات الماضية وما قبلها، وما خلفته من توتر اجتماعي صدق هذا الوصف وانطباقه على الحاضر أيضاً.   

في كل مكان تحكمه القبلية توجد الخلافات والصراعات والتخلف، وهذه النتيجة تنطبق على المسلمين وغيرهم، ففي الباكستان يتمركز الصراع في منطقة تعرف بمنطقة القبائل، والعنف في أفغانستان القبلية بدأ قبل الاحتلال الشيوعي، وتوصف دارفور في السودان بأنها قبلية، وقبائل البربر في شمال أفريقيا متذمرة، وكانت ومازالت اليمن غير سعيدة نتيجة هيمنة الانتماءات والنزعات القبلية، وفي إيران لا توجد قبلية نشطة إلا في  منطقة سيستان وبلوشستان، وهي مركز تهريب المخدرات والسلاح والإرهاب ومحاولات إثارة الفتنة الطائفية أيضاً، وفي رواندا الأفريقية اقترفت أفظع المجازر في الحرب القبلية بين قبيلتي الهوتو والتوتسي قبل سنين قلائل.

ومن المحزن أن قادة المسلمين والعرب وعلى مر العصور قد غفلوا عن خطر القبلية على دين الإسلام، بل إن فكر وسلوك الكثير منهم يحمل بصمات القبلية الواضحة، وبعد كل تلك المصائب التي حلت بساحة المسلمين والعرب بسبب القبلية لم ينتبه المعاصرون من رجال دين وقادة سياسيين ومصلحين اجتماعيين ومثقفين وأكاديميين إلى الخطر الداهم والمستمر للقبلية، حتى أن البعض منهم يساهم في استمرارها وتقويتها بطريقة أو أخرى.

في تقديري القبلية والإسلام على طرفي نقيض، ونحن كنا وما زلنا أقرب إلى القبلية في الفكر والسلوك منه إلى الإسلام، ولا تجتمع في قلب إنسان القبلية والإيمان الكامل، والواجب علينا أن نعي هذه الحقيقة، ونبادر إلى البراءة من القبلية وتركتها الجاهلية الثقيلة من الأعراف المناقضة لشرع الله، وان نطهر قلوبنا من العصبية القبلية، وننقي عقولنا من أدران الفكر القبلي المنغلق، ونزعاته الطائفية والعنصرية، وقيمه البدائية مثل التفاخر بالانساب وعبادة القوة والعدوانية واضطهاد المرأة.

 العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com