ركائز في العقيدة النضالية

 

عبد الرحمن آلوجي

renas550@gmail.com

ترتكز أية عقيدة نضالية على جملة معطيات تعد المنطلق الأساسي لرؤية شاملة في التصور والسلوك والقيم والموازين والمشاعر والرؤى ،وبخاصة إذا تشبعت روح المناضل بهذه المعايير وتلك الموازين ، وتوغلت في أعماق كيانه ، وتغلغلت في حناياه ، بحيث بات الارتباط عميقا لا يكاد ينفك في تلبسه بذاته ، واقترانه بضميره ، وحسه الوجداني ، وهو ما تتكامل نقاطه وخطوطه ، وتنسجم خيوطه في نسيج محكم ، يزداد مع الأيام صلابة ومتانة وقوة ..تتجلى في طابع حركة نضالية ، تتصلب وتزداد متانة ، وتقوى في نفس حاملها ، وتتأكد من خلال ممارسة واعية ، تنضج مع تراكم المعاناة والخبرات وفحصها وتدقيقها على أرض الواقع ، في عملية صهر وقولبة وإدراك بصير ، مما يجعل المناضل – وهو يخوض مع الأيام تجربته النضالية – في موقف الواله والشغوف والمقبل على ما يأتيه من أفعال وممارسات ، تضع في أعماقه موازينها وقيمها وملابساتها وتصوراتها ، وهي تصنع الحدث وتخطط له وتبرمجه ،وتوقت أداءه ببراعة المحب ، وإتقان الحريص على حسن صياغة مبادئه ، وحسن التفاني في بلورتها .

والمناضل الحقيقي هو الذي يحسن إدراك طموحه النضالي ،كما يحسن رصد هدفه ووسائله إلى تحقيق رؤيته واستراتيجيته النضالية ، كما يجيد عملية التلاؤم والتواؤم بين ما يدعو إليه ، وما يتلمسه من أدوات وتكتيكات وتنظيم للطاقات والمفاهيم ، من شأنها أن تقرب إلى الهدف ، وتوصل إلى الغاية التي نذر لها أدواته ووسائله ، والمنهج النضالي الذي ارتآه ، وطريق الوصول المعبدة والممهدة ، من خلال آلية ضبط تنظيمية متطورة وقابلة للتبدل والتلاؤم مع مختلف الظروف والملابسات والحالات .

ويبقى تحديد الإطار النضالي والعقيدة الكفاحية من أهم وأخطر الخطوات النضالية ، والتي تحدد آفاق العمل ، لتبقى الوسيلة المتطورة والأداة النضالية التي يتلمس بها المناضل منهجه الحياتي خطوة تالية لها ، ومعبرة عمليا عنها ، مما ينبغي إدراك دورها ، كما يفترض عدم الخلط بينها كأداة منهجية من أي تجمع او هيئة أو حزب سياسي أو جمعية او ناد ثقافي ، واستراتيجية الرؤية النضالية التي تشكل الخطوة الأولى الرائدة كما أسلفنا ، ليكون البرنامج واضح المعالم ،دقيقا في شفافيته ونضجه واكتماله ، وكونه منطلق البناء ومحور عقيدة المناضل ،مما ينبغي الوقوف عليه ورفده ببيان محتوى هذه العقيدة وأسسها ومنطلقاتها وخطوطها العريضة .

ولقد وجدنا أنفسنا وكوادرنا ، وكل ما نملك من طاقات نضالية في غمرة حياتنا النضالية في سوريا ، ملتزمين بجملة ركائز ومنطلقات نضالية مصقولة ومنصهرة في غمرة تجارب المتعددة والمتنوعة ، وعصارة حياتية سياسية وفكرية مديدة ومتطاولة على مدى عقود من الزمن ،تشكل الحاضن الزمني للتاريخ النضالي ، لتصوغ هذه التجارب وتلك التراكمات رؤية نضالية متماسكة وصلبة ، تجلت في أسس وقناعات ، كان من أكبرها وأكثرها بروزا وتوضحا الرؤية الوطنية الشاملة والجامعة لأسس العلاقات بين أطياف واتجاهات ومكونات المجتمع السوري عربا وكردا ومن مختلف الفئات والقوى والشرائح والتوجهات ، في التركيبة المجتمعية ، وخصوصيتها التكوينية ، بما يحقق ويدعو إلى العدل والمساواة والتكافؤ ، وحقوق المواطنة الحقة ، وما يستوجب كل ذلك من صيانة وحماية المواطن السوري من كل أشكال التمييز والتهميش والإقصاء، وضرورة إشراكه وفق كفاءته وقدراته  في القرار السياسي دون حكر أو إنكار أو تنكر ، ووفق مؤهلاته دون حاجز من لون أو مذهب أو اتجاه أو ممارسة لأي نشاط يقع في إطار قناعته ورؤيته ومنهج عمله في الإطار الوطني العام، والمصالح الوطنية العليا في الاجتهاد نحو تحقيق الأمن والرفاه والاستقرار والازدهار والعمران ، بما يتيح الفرصة لتعبر هذه الطاقات وتلك الإبداعات عن نفسها تعبيرا سلسا غير مرهق ولا مقيد بحدود قناعات وتصورات موضوعة مسبقا في إطار هيمنة جماعة أو فئة أو تيار سياسي ، و ومن خلال مواقف مرسومة لا يمكن تجاوزها وتخطيها وفق تلك التصورات والمعايير الجاهزة ، ولا يمكن أن يتحقق التناغم والتواصل إلا في إطار تشاوري ديمقراطي مؤمن بالرأي الآخر ، ليحدد أفق العملية السياسية ، من خلال حوار بناء وهادف لا يستثني مكونا أو اتجاها أو رؤية بما يحفظ ويؤسس للمعايير والموازين والقيم الوطنية الجامعة ، ويعزز الوحدة الوطنية ويرسخ قواعدها من خلال ممارسة مسؤولة ومدركة ، وقادرة على الإحاطة والوعي بهذه العملية السياسية وظروفها وملابساتها ومقتضياتها .

ويأتي المرتكز الرئيس الثاني بعد الركيزة الوطنية في العقيدة النضالية الموقف القومي ذو البعد الإنساني ، والذي يعد لازمة لصيقة بوجود الإنسان على غير إرادة منه ، لأنه لم يختر بنفسه شكله و لونه وقومه ومحيطه الاجتماعي ولغته وانتماءه بل حاول – بعد أن وجد نفسه – مسوقا بإرادته إلى الدفاع عن هذا الوجود . وتعزيز هذا الكيان ، تطويره والبحث عن مقومات بقائه وامتداده ، مما يفترض ألا يكون موقفه في التعبير عن ذاته وكيانه المتحقق ووجوده المتميز في لغته وعاداته وتقاليده وإرثه الثقافي تعصبا وانكفاءا باتجاه العنصرية والعرقية ، ونفي الآخرين ، واستغلال قدراته وإمكاناته لاضطهادهم والاستعلاء عليهم ، ونهب مقدراتهم وخيراتهم ، ومحاولة النيل من هذا الوجود بالتنكر وعدم الاعتراف ، بل ممارسة شتى الوسائل والطرق والإجراءات للحد من تطور و تنامي وجود مكون مواز ووطني متعارف على خصوصيته وتميزه ومتعايش مع المكون الرئيسي والمكونات والأطياف الأخرى كالكرد ، دون  أن يعني ذلك فصاما ونكدا وتدابرا ، وهو الوجه الحقيقي للبعد القومي ذي الصبغة الإنسانية ، وما تعنيه من تواصل وجداني وتكامل مع الآخرين ، وهنا يتلازم البعدان الوطني والقومي كركيزتين أساسيتين من ركائز العقيدة النضالية ، والتي لا تكتمل ، ولا تغني وتثمر دون قيم رفيعة أخلاقية وروحية ، تعمر هذه العقيدة وتمدها بطاقة منشئة ومبدعة ، لا تزال تعطيها قوة دفق وحيوية وحركة وأملا في عطاء لا ينفد ، وفعل متقد بدوافع من شأنها أن تمد العمل النضالي بقدرة حركية فائقة ، تتصل بعمق بعمل رقابي داخلي ، ووازع أخلاقي عميق الجذور يعطي للحركة معناها وقيمها السامية ، وانعطافها الدقيق وهي تخوض تجربة البناء بدوافع قوية ، وحركة عامرة بالحياة ،  وإيمان عميق بجديتها وجدواها ، وقدرتها على التلاؤم مع مختلف المحن والتجارب المريرة والقاسية ، التي تخرج المناضلين ، الجادين في بناء الحياة ، ورفدها بطاقة لا تنقطع وصقل وتهذيب متواصلين ، وقوة تأثير لا تخمد ولا تتعطل ، بل تزداد تألقا وإشراقا ونماء وحيوية ، بحيث يغدو للهدف النضالي نبله وسموه ورفعته وقوة تحريك ، وصلابة غير معهودة في الاستمرار والتدفق ، ودخول الميدان النضالي أفواجا وجماعات ، في حين ينحسر الآخرون ممن لا يملكون تلك الطاقة النافذة من القيم والدوافع الرفيعة ، والآفاق النضالية الحقيقية ، واليقين المنصهر في أعماق النفس ، والحس الوطني المتيقظ ، والذي يضغط على الفكر ، ويحيله قوة أصيلة عميقة ، ودافعا يقينيا إلى التضحية بيسر وعفوية ، وإيمان عميق بعقيدة نضالية ، تشربت بها النفس ، وغذت الضمير ، وأيقظت من سبات كان متحكما لولا هذه الطاقة اليقينية من المثل السامية والرؤى الفاضلة والقيم العالية التي تحيي الفكر وتمده بقوة دفع لا نظير لها ، مما دفع كبار المناضلين والدعاة إلى النبل والخير والعافية الإنسانية، ليمنحهم سر الخلود في سفر الزمن ، واستمرار ذكرهم مع كر الدهور وتوالي السنين ، وهو سر عظيم من أسرار العقيدة النضالية الحقة والسليمة والمعافاة من كل زيف ودجل ومداهنة ومواربة وانتهازية وكبرياء نافج فج ومقيت .

ومن أجل ذلك كانت العقيدة النضالية عمقا فكريا لنا ، وتراثا تاريخيا متألقا نعتز بركائزه وخطوطه وخيوطه ومعاييره ، بما يحيل خصوصيتنا النضالية إلى حجر أساس ومحور عمل نتحرك من خلاله ، ونتحرى أسسه ومعاييره ومقوماته ليكون قوة دفع ومنطقة أمان ، ومعلما يضيء بيقين درب كل كادر ومناضل يحترم مقاييس نضاله ويسعى إلى تقويمها وتطويرها وتجديدها ، وبناء أكثر العلاقات متانة وسلاسة وعمقا  .

  .   

 العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com