|
كلام النفس المطمئنة في العراق
محمد عارف مستشار في العلوم والتكنولوجيا "اللهم بارِكْ لنا وامنَعْ عنا راحة البال". كانت تلك الحكمة الشرقية أول سطر في مقالة تأبين عالم النفس وطبيب الأعصاب علي كمال. ولم تكن المقالة نعياً له، بل تحية الوداع عند رحيله مطلع عام 1996. فهذا العالم الذي ألّف 14 مرجعاً أكاديمياً في علوم النفس والأعصاب، مظلوم أربع مرات. مظلوم قبل كل شيء لأنه عربي، ومظلوم زيادة لأنه عربي مسلم، ومظلوم من الدرجة الممتازة لأنه فلسطيني، ومظلوم فوق العادة لأنه عاش وعمل معظم سنوات عمره في العراق. قلتُ ذلك في آخر مرة التقيت به وصديقه الناقد والروائي الفلسطيني الراحل جبرا إبراهيم جبرا في منزله بالعاصمة الأردنية. ولم يخطر بذهني، حتى في الكوابيس، أن يأتي يومٌ تنشر فيه الصحف العالمية صور أنقاض منزل جبرا الذي هدمته في الشهر الماضي مفخخة في حي المنصور ببغداد استهدفت السفارة المصرية. اقتصر تقرير المحقق العسكري حول الحادث على تثبيت الأضرار المادية للانفجار الذي أدّى إلى مقتل 17 شخصاً، وحرق 10 سيارات، وتدمير منزل واحد. ولم يذكر المحقق أعمالا لأبرز الفنانين كانت تجعل منزل جبرا أشبه بصالة عرض للفن العراقي، إضافة إلى مسودات رواياته، ونحو عشرة آلاف رسالة متبادلة مع أدباء ومفكرين من مختلف أنحاء العالم. ذكر ذلك الناقد العراقي ماجد السامرائي الذي قال إنه أخبر السيدة راقية إبراهيم، قريبة جبرا التي كانت تسكن الدار، "أن كنوز جبرا أمانة بين يديها". وانتُشلت جثة "راقية"، وجثة ابنها جعفر، مع ركام الكنوز المحترقة. شارع الأميرات"، حيث يقع بيت جبرا، عنوان كتابه الذي عرض فصولاً من سيرته الذاتية اختتمها بالحديث عن أوراق تركها "إذا لم تبددها الزوابع، أو تغرقها السيول فتبقى على نحو يمكن الدارس من الرجوع إليها في يوم ما، في زمن قريب أو بعيد". وعاش جبرا في العراق زمن نصف قرن حافل بالثورات والانقلابات والحروب. وكما يقول "ماكبث" بطل مسرحية شكسبير: "جاء زمن كان المرء فيه إذا انسفح مخه، يموت، وفي ذلك نهاية له. غير أنهم اليوم يقومون ثانية، وفي رؤوسهم عشرون جُرحاً قاتلاً، ويدفعوننا عن مقاعدنا"! و"ماكبث" واحدة من ست مسرحيات لشكسبير ترجمها جبرا إلى العربية مع أكثر من عشرة كتب، بينها رواية "الصخب والعنف" للأديب الأميركي وليام فوكنر التي نالت جائزة "نوبل". ويُعتبر جبرا الذي درس الأدب في جامعتي "كمبردج" البريطانية و"هارفارد" الأميركية، "المثل الحي لعملية الترجمة التي تأخذ ثقافة وتحملها حرفياً عبر الحواجز الثقافية وتضعها في ثقافة أخرى". ذكر ذلك روجر وليام، أستاذ الأدب العربي في جامعة بنسلفانيا، والذي أشرف على ترجمة روايتين من سبع روايات مشهورة لجبرا. وفي رسالة مشبوبة العاطفة من بغداد ظهرت قبل أيام في صحيفة "نيويورك تايمز"، رثا الكاتب اللبناني الأميركي، أنطوان شديد، جبرا بشطر مشهور من معلقة الشاعر امرئ القيس: "قفا نبك من ذكرى حبيبٍ ومنزل"، وقال إن "تدمير منزل جبرا شاهدة قبر لنهاية عصور في العراق والعالم العربي". وإذا كان جبرا، كما يرى "شديد"، جسراً تمر عبره الثقافتان الغربية والعربية، فإن "علي كمال" ميدان تلاحم الثقافتين. وعلم النفس، كما النفس البشرية، ميدان من دون حدود لمطاولات "كمال"، التي تشكل موسوعة بآلاف الصفحات تعرض معضلات النفس البشرية عبر أسئلة يطرحها معظم الناس، مثل "ما هو ومن هو الإنسان الطبيعي، ومن السليم نفسياً، والمريض عقلياً؟ وما الحدود بين الجنون والعقل، والجنون والعبقرية؟ وما علاقة الهجرة والغربة بالمشاكل النفسية، وما معنى أوصاف، مثل شخصية انطوائية وشخصية متقلبة وشكاكة وتسلطية وهستيرية ومتفجرة وناقصة وعاطفية وعصبية وخارقة. وكعادته يضيء "كمال" فجأة الموضوع بحكمة إنسانية مثل: "لكل إنسان ثلاث شخصيات؛ تلك التي يعرفها، وتلك التي هو عليها، وتلك التي يظن بأنها له". في كتابه الشيّق عن النوم الذي أهداه إلى بلدته في فلسطين، "عنبتا مسقط رأسي ومبدأ نومي وأحلامي"، حقائق عجيبة أظهر فيها خطأ التصور عن فائدة النوم الكثير، وكشف بالعكس أن قلته تزيل الهموم، وتخفف الاكتئاب، وتعزز النشاط، وتدعم الثقة بالنفس، فيما تزيد كثرة النوم القلق والتوتر وتعمق الانعزالية! وتضمّن كتابه عن "الأحلام" الذي أهداه لحفيدته العراقية، "وديان"، حقائق ظريفة محيرة منها أن أحلام المجانين عاقلة وأحلام العقلاء مجنونة! وعلى غرار علماء عصر النهضة العلمية العربية الإسلامية، تناول "كمال"، أدق المسائل الجنسية في كتابه "الجنس والنفس" الذي أهداه "إلى رائعة الأزمان والآباد، عروس الأنهار والأخت الأبهى لعشتار... إلى بغداد". وكما في جميع أعماله أعاد النظر بكثير من المسلمات في هذا الموضوع الذي يبدو "وكأنه أرض حرام، زُرعت بما يشبه الألغام من التزمت والجهل وسوء الظن وخطأ الفهم والحساسية والنفاق". وانتقد في آن الانفتاح الجنسي في الغرب الذي "أفقر العلاقة الإنسانية وحرم البشرية من مصادر إبداعها". وكما لو كان يطرح في بغداد هذه الأيام تساؤلاته عن الجنون. "ما هو الجنون؟ إنه شكل من الرؤيا التي تحطم نفسها باختيارها لنفسها حالة النسيان في وجه الأشكال القائمة من التكتيكات والاستراتيجيات الاجتماعية... وليس هناك جنون إلاّ ما هو موجود في كل إنسان، ذلك لأن الإنسان هو الذي يسبب جنونه بسبب تعلقه بنفسه والسراب الذي يداعبه... فإنه يقبل بالخطأ وكأنه الواقع ويقبل بالقبح وكأنه الجمال أو العدالة. واللغة النهائية للجنون هي العقل، غير أنها لغة العقل المغلف بهيئة الخيال، وهكذا فالجنون ليس كلياً صورة الخيال". وكأنه يدعونا إلى مواجهة هذه الأيام المجنونة بعبارة افتتح بها كتابه "العلاج النفسي" قالها الفيلسوف العربي النظام: "ومن ادّّعى بأنه يعلم كل شيء فإنما تصور له ذلك من خلل، والأولى بأهله أن يداووه"! وتبين مؤلفات كمال تهافت المقولة الإنجليزية المشهورة "الثقافتان" التي تعارض العلم بالأدب. أليس من الشعر تعريفه العلمي لحالة مرضية شائعة يكون فيها "الحزن الذي لا يجد له منفذاً في الدموع قد يجعل أحشاء الجسم تبكي"؟ يعرض كمال أمثلة لذلك في حالات تبكي فيها أحشاء الإنسان. ثلث المرضى الذين يشكون من علل جسمية يعانون في الواقع أمراضاً "نفسجسمية" تحدث اضطرابات في القلب والدورة الدموية والجهاز الهضمي والتنفس، بل حتى العقم وأمراض الجلد والسرطان. ومقابل فلسفات يائسة من الوضع البشري، كتساؤل الأديب كافكا: هل هناك أمل؟ عرض كمال الروح العملية المتفائلة لعالم الطب الرازي الذي أدرك قبل أكثر من ألف عام أن "على الطبيب أن يوهم المريض أبداً بالصحة، ويرجّيه بها، وإن كان غير واثق بذلك. فمزاج الجسم تابع لمزاج النفس".
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |