في قلب بغداد .. مقبرة!

 

زاهر فليح حسن

zaherflaih@yahoo.com

لا أخالني أستطيع أن أصف منظر مقبرة في قلب بغداد .. فقد يبدو الموضوع وكأنه موعظة دينية أو حتى أحدى الفتاوى التي نعاصرها على أنواعها في عهدنا هذا المشرعّة فيه أدمغتنا لأستقبال أي شيء .. فأحياناً كنا نتمنى أن يكون هناك فسحة خضراء ومساحة من الفرح الغّر في قلب تلك المدينة التي غالبها الحزن وطغى على أيامها الألم.

فأنت ما أن ترتقي أحد طرقها السريعة وتنظر يميناً أو يساراَ عند وصولك لمركزها تشاهد مقبرة قديمة تسكن ذلك القلب بعيداً عن كل هموم الدنيا ، يلتحف في قبورها المتناثرة أناس عراقييون أخذتهم يد المنية ،كلّ في موعده، وعلى تعدد الأسباب التي أدت الى ذلك فالموت يبقى واحداً يغيّب عنا أعز الناس في زمن نحن الأحوج فيه لهم .

أحياناً نتمنى أن تقوم مكانها أبراجاً عالية شامخة لتأوي الأحياء من أبناء المدينة المترامية الأطراف ولفقرها الشديد لمثل تلك البنايات الشاهقة ولحاجتها أن تكون ملاذاً لمحبيها الذين يغسلون وجوههم كل يوم بصباحات شمسها الرقيقة .. ويعمدون أجسادهم بماء دجلتها .

وأحياناً نتمنى أن يكون مكانها مدينة ألعاب متميزة لأطفالنا الذي سئموا من الجدران التي سجنوا فيها خوفاً عليهم ، فترى أعينهم وقد تحولت لمرايا تعكس الألم الذي يعتصر جوفهم عندما يحدقوا بإحدى الفضائيات وهي تعرض صوراً لأطفال يمارسون حياتهم بصورة طبيعية والفرح يمليء وجوههم نظارة وسعادة .

وأحياناً أخرى نتمنى أن يكون مكانها مستشفى كبير .. كبير .. بل أكبر مستشفى لمعالجة مرضى السرطان الذي يفتك بنا وأطفالنا ونساءنا وعجائزنا .. فتراك أن أصاب أحد أفراد أسرتك أو أقاربك بهذا المرض تلوذ تلعق حزنك لكونك غير قادر على فعل شيء إلا أن تغمس نفسك في رحمة الله ولا غيرها .

ولكن في وطن مثل وطننا وما فيه من مآس صبت عليه من الفساد المالي والسرقات التي تطال كل شخص وقلة الإيمان بالله وعجزنا عن أن نجعل من الأيمان رادع لأهواء نفسنا من أن تطال أيدينا المال العام والاستهتار بقيم السماء وقوانين الأرض .. ولكوننا لحد الآن غير قادرين على السيطرة بحكمة على بيت مالنا من نهب الناهبين على كل مستوياتهم فهم مواطنون وشرطة بسطاء ومدراء وضباط ومدراء عامون ووزراء ومسؤولين .. أبداً على كل المستويات تجري عمليات النهب المنسقة وفق هوى شياطينهم من سرقات كشفت أو سرقات لم تكشف .. مليارات تذهب هباءاً منثورا .

أقول فلنبقي على المقبرة في قلب بغداد .. عسى أن يمر يوماً مسؤولاً ليتذكر أن هذا هو بيته الأخير لا القصور التي بناها من مال الثكالى واليتامى والأرامل والعاطلين .. وأن الكفن لا يحتوي على جيوب كي تأخذ معك ملياراتك التي جمعتها من دمي ودم أبرياء شعبك .. وأنك يوما تكون عارياً نائماً على (صبّة المغَيسل) وسيسلبك من يغسلك حتى سروالك .. ولن تنفعك حمايتك ولا ارتالك المحيطة بك ولا ذلك الكرسي العاجيّ الذي قاتلت من أجله حتى ملائكة السماء .

أبداً ستخرج منها عارياً تحمل كل أوسمة الرذيلة معلقة في صدرك العاري يوم أغرتك وفتنتك دنانير السوء لتغمس أصابعك وأضافرك في لحم أبناء شعبك ، وصباحاً توضأت بدماء أشد الرجال وأعز النساء وأجمل أطفال الكون .. أطفال العراق . 

  العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com