|
النفط يتحدى الخيال العلمي
محمد عارف مستشار في العلوم والتكنولوجيا النفط كالفيزياء التي يقول عنها العالم الألماني إروين شرودنغر؛ "المهمة ليست في رؤية ما لم يره أحدٌ بعدُ، بل التفكير بما لم يفكر فيه أحدٌ بعدُ بما يراه كل شخص آخر". ملايين الناس حول العالم يرون مباشرة عبر الإنترنت تدفق النفط من فوهة البئر على عمق 1500 متر في قاع خليج المكسيك بالولايات المتحدة، ويشاهدون زوارق صيادي الأسماك المهجورة، وكرات النفط السوداء تعوم على الشواطئ، والكائنات البحرية الملطخة بالزيت الأسود. عدد الطيور الملوثة التي التقطت حتى بداية الأسبوع بلغ نحو 900، منها 600 ميتة، و30 سلحفاة، بينها 25 ميتة، وأكثر من 40 دلفيناً منها 30 ميتة. وقوانين الفيزياء، التي تفكر بما لا يفكر به أحد تتحكم حالياً بتدفق النفط وكمياته التي يختلف في تقديرها الجميع. صور كاميرات الفيديو تحت البحر تدل على ازدياد حجم التسرب الذي يستمر "تنفيسه" حالياً تجنباً لتدفق المياه المالحة داخل فوهة البئر، والتي أدت إلى غلقها في محاولات سابقة. وتُقدّر كميات النفط التي يجمعها "الجهاز القمعي" الذي وضع فوق فوهة البئر بنحو 11 ألف برميل يومياً، تُضخ إلى باخرة راسية على السطح، وهذا يعني جمع القدر الأكبر من التسرب النفطي البالغ، حسب تقديرات رسمية، ما بين 12 و19 ألف برميل يومياً. ولا أحد يجرؤ بعد فشل المحاولات السابقة على تأكيد تحقق السيطرة الكاملة على التسرب، بمن في ذلك قائد حرس السواحل "الأدميرال ألن" المشرف على أعمال السيطرة. أبلغ "ألن" اجتماعاً في "البيت الأبيض" بأنهم يحاولون "التكيف مع عدو يتغير". فالتسرب يتناثر إلى تسربات أصغر تتحدى جهود إبعاده عن السواحل التي يهاجمها الآن النفط الخام من لويزيانا إلى فلوريدا. والاختلافات كبيرة في تقدير كلفة التسرب النفطي، وتراوح ما بين 10 مليارات و20 مليار دولار. وتجاوزت نفقات الحادث التي تدفعها شركة "النفط البريطانية" المليار دولار، ويتوقع أن تبلغ الأرقام المستمرة في التصاعد 23 مليار دولار. وإذا أضيف مبلغ 14 مليار دولار تعويضات لضحايا الحادث فإن الخطر يهدد بقاء الشركة البريطانية على الرغم من أنها حققت، وهي تحتفل بعمرها المئوي في العام الماضي، أرباحاً بلغت 17 مليار دولار. وأعمار الشركات الصناعية بيد الأسواق المالية التي تبحث الآن فرص الاستحواذ على شركة هبطت ثلث قيمتها المالية خلال خمسين يوما. وبانتظار ابتلاعها تلعق شفاهها شركات منافسة، بينها "شيل" و"إكسون موبيل"، حسب الأوساط المالية الأميركية. ويتوقع السيناريو المطروح أن يسبق دمجها إعلان إفلاسها لتحرير ذمتها القانونية من المسؤوليات المالية عن حادث التسرب. ولن يفوت أي رئيس دولة، مثل أوباما، فرصة التصريح في مقابلة تلفزيونية برغبته في "قضاء قدر كبير من وقته في التنفيس عن غضبه والصراخ بالآخرين". وهو يفعل ذلك مع شركة "النفط البريطانية" التي وبخها على دفع أكثر من عشرة مليارات دولار لحملة أسهمها، وإنفاقها 50 مليون دولار على إعلان تلفزيوني لتحسين صورتها، لكنها تبخل بدفع تعويضات متواضعة إلى صيادين وعمال مطاعم دمّر التسرب النفطي موارد رزقهم. لكن ملاحظات أوباما لم تنجح في تحويل سخط 70 في المئة من الرأي العام الأميركي الذي يعتبر أداء إدارته سيئاً في مواجهة التسرب النفطي، مقابل أكثر من 80 في المئة يعتبرون أداء الشركة البريطانية المالكة للمنصة النفطية بالغ السوء. وسَجّل الرقم القياسي في سوء الإدارة مدير الشركة توني هايوارد، الذي تثير السخرية الساخطة حتى ملامح وجهه الوسيمة ووجنتاه الورديتان. وهايوارد نموذج لانفصام الشخصية الذي تعانيه قيادات بيروقراطية في شركات النفط العالمية، بسبب ازدواجية النفط نفسه، كسلعة مادية وكموجودات مالية. تكشف ذلك تصريحاته التي استهلها بالتأكيد على أن آثار التسرب على البيئة "متواضعة جداً جداً"، و"المحيط واسع جداً"! وعندما أراد إبداء تعاطفه مع عوائل 11 عاملاً قتلوا بالحادث، قال: "تعلمون، أنا أود لو أستعيد حياتي". وطمأن الجمهور في إعلان احتل صفحة كاملة بأن "كل شيء سينجز، وبشكل صحيح"، فيما نشرت في اليوم نفسه صحيفة "الفاينانشيال تايمز" اعترافه بالعجز عن مواجهة التسرب، قائلاً: "لا شك أننا لا نملك الأداة التي نود لو تكون ضمن طاقم أدواتنا"! والتفكير في النفط بما لم يفكر فيه أحد يكشف عن تغيرات سريعة الالتهاب كالنفط نفسه تلاحقت منذ عصر "الأخوات السبع". ويطلق هذا الاسم على شركات نفط أميركية بريطانية كبرى شكلت "الكونسوريوم الإيراني" المشهور لإدارة النفط بعد الانقلاب الذي دبرته المخابرات الأميركية والبريطانية ضد حكومة مصدّق وإلغاء قرار تأميم النفط الإيراني. لقد تغير ميزان القوى النفطي العالمي مع صعود الشركات الوطنية التي تسيطر حالياً على ثمانين بالمائة من النفط العالمي. ويشكل النفط الذي تعود ملكيته للدول جزءاً أساسياً، بل الجزء الأساسي من اقتصادها الوطني. أكبر ثلاث دول مالكة للنفط هي أكبر دول منتجة له، وترتيبها حسب كميات إنتاجها الحالية: السعودية، وروسيا، وإيران. مقابل ذلك لا تملك الإدارة الحكومية في واشنطن أي قوة نفطية، وقد احتاج الأمر إلى كارثة ليكتشف أوباما أنه يفتقر حتى إلى وحدة خاصة بأمن النفط والطوارئ. وهل التفكير بما لا يفكر فيه أحد دفع المخرج السينمائي المشهور جيمس كاميرون إلى اقتحام مشهد الصراعات السياسية التي فجرتها المنصة النفطية الغارقة؟ جمع كاميرون في "ملتقى عقول البحر العميق"، الذي عقده في واشنطن، خبراء مرموقون بينهم علماء من "إدارة المحيطات والأرصاد" الأميركية، و"معهد شيشروف" الروسي المختص بعلوم البحار والمحيطات. وخبرة كاميرون نفسه بأعماق البحار يشهد لها فيلمه المشهور "تايتانيك" الذي عرض مشاهد تبهر الأنفاس عن كارثة غرق السفينة المنكوبة في رحلتها "العذراء" الأولى من بريطانيا إلى أميركا عبر الأطلسي في أبريل 1912. "لماذا يغوص كاميرون عميقاً في خليج النفط"؟ تستفهم بهذا العنوان صحيفة "نيويورك تايمز" عن سر اهتمام كاميرون بكارثة المنصة النفطية. وقد نجد الجواب في الجزء الثاني الموعود من فيلمه الأخير "أفاتار" الذي حقق أعلى الأرباح في تاريخ السينما العالمية. مشاهد فيلم "أفاتار" الساحرة كالأحلام تروي قصة مقاومة كائنات فضائية زرقاء اللون قوات عسكرية أميركية غزتها بحثاً عن معدن نفيس في كوكبها. وقد أشار كثير من النقاد إلى أوجه الشبه بين قصة الفيلم والغزو الأميركي للعراق. فالنفط الذي أضاء العالم كان خلال قرن من الزمان ناراً اكتوت به المنطقة، والطاقة السحرية الكامنة في النفط اليوم تتحدى الخيال العلمي الجميل الذي صنع "أفاتار". مقابل ملايين البراميل التي تحملها الناقلات عبر الخليج العربي، تحرك التجارة مليارات البراميل "الورقية" بالسرعة الإلكترونية حول الكوكب الأرضي. وأكاد أرى بعين الخيال الذي أثاره "أفاتار" كائنات آسرة الجمال تطلقها براميل أسطورية تحرك الاقتصاد العالمي بمنتجاتها "الخيالية" من الأسهم والسندات والعملات والأوراق المالية.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |