رحلة الصحفيين العراقيين..تَقليب الجَمرِ بأيدٍ عارية

محمود حمد

 mehmood.hamd@gmail.com

 

عندما يكتب المرء عن ذكرى فهو بلاشك سيستحضر صفحات من الماضي بكل أحماله..

اما الكتابة عن ـ يوم ـ الصحافة العراقية فإنه سيُقلِّب مجمرة متأججة بأيدٍ عارية!!

ولااقول ـ عيد الصحافة العراقية ـ لان العيد يولد من ترانيم البهجة..اما ـ اليوم ـ فيولد من مخاض الزمن بكل إصطخابه وتأملاته ومَنازفه!

فكرت بكتابة تهنئة لاثني عشر الف صحفي عراقي ـ حسب ماجاء على لسان الزميل مؤيد اللامي ( نقيب الصحفيين العراقيين ) ـ وتساءلت:

أما ـ نَسيَّ ـ الزملاءُ في النقابة إخوتهم الصحفيين المهاجرين؟!

اولئك الذين نفروا من العراق على موجات متعاقبة..

·       هرباً من سجون ومقابر الدكتاتورية!!

·       رَفضاً للإحتلالََ!!

·       خوفاً من التطرف!!

·       قَرفاً من التخلف!!

·       خشيةً من مزالق التزلف!!!

وهل عدد اعضاء النقابة هذا غير منقوص بفعل فاعل؟!

نتمنى ذلك..

في نهاية عام 1979 أبلغني أحد الزملاء بان (مجلس قيادة الثورة ) قد أصدر امراً ورد الى نقابة الصحفيين يقضي بشطب اسماء عدد كبير من الصحفيين مثلما صدرت لوائح مشابهة الى نقابة الفنانين وجمعية التشكيليين لشطب اسماء الفنانين من عضويتها..وكُنّا من بين تلك الاسماء المشطوبة حسب قرار (مجلس قيادة الثورة )!

وكان من واجب القائمين على سلطة النقابات والجمعيات بعد سقوط الدكتاتورية الكشف عن تلك اللوائح وعن المتورطين بكتابتها إنصافا لهؤلاء الضحايا وقطعا للطريق امام المتورطين في إعدادها وإرسالها الى (مجلس قيادة الثورة ) للعودة الى قيادة تلك النقابات والجمعيات!

عسى ان لاتكون النقابة بعد الغزو وسقوط الدكتاتورية قد وردتها لوائح بشطب اسماء صحفيين من اي جهة كانت بسبب مواقفهم الفكرية..كي لانحارب الإقصاء بالإقصاء وقمع الرأي باغتصاب الرأي!

دون ان يلتبس الأمر على غافل ويعتقد بأن دعاة الإرهاب ومؤججوا الكراهية ومنظروا التمييز العرقي والطائفي ومبرروا المفخخات في الشوارع ومدّاحوا سفك الدماء والمأجورون للأجنبي ـ داخل العراق او خارجه ـ..هم من الصحفيين؟!!!

لكني وانا احاول استحضار ماتستحقه ـ صاحبة الجلالة العراقية ـ في يومها..

أطَلَّ عَلَيَّ شهيد الصحافة العراقية ابو سعيد ( عبد الجبار وهبي ) من عليائه في ذاكرة الوطن..هذا ـ المنهج ـ الذي تعلمنا منه جدلية التنازع بين السلطة والبؤس والفكر..ذلك العمود المتماسك الذي إتكأ عليه أكثر من جيل من الصحفيين التقدميين!

وطرق باب ذاكرتي أبو كاطع وهو ـ يَتنَحنحُ ـ بنبرته القروية التي يألفها الرافدان..واقفا عند الباب الزجاجي الصغير لغرفة المصممين بدار الرواد..يُخرِجُ من جيب بنطاله كلمته الاسبوعية المكتوبة بالقلم الرصاص على ورق الجريدة، تلك الكلمة التي كنا نحرص على قراءتها من طاولة المصمم الشهيد والصديق الفقيد سامي حسن قبل ان تصل الى عمال اللاينو..حتى ان العديد من تلك الكلمات كنا نقرأها قبل ان يحجبها ـ حرص الرفاق على بقاء الجبهة الوطنية والقومية التقدمية!!ـ او تقمعها السلطة الفاشية باسم ـ الجبهة الوطنية والقومية التقدمية!!ـ...فنكون قد قرأناها واغترفنا منها مايبدد بعض الاحباط الذي فرضه علينا الموقف المتخاذل!

وفي هذا الخضم من حياة الصحفيين العراقيين يظل ( ابو الصحافة العراقية ) فائق بطي واحدا من الاعمدة مع اسرته الكريمة التي إنتصبت على مهنيَّتها وحرصِها وإستقامتها الصحافة العراقية المعاصرة..فتحية لاستاذنا فائق بطي هذا الصحفي الذي كلما اتذكره يوحي إليَّ بأن مَهَرَة الصحفيين يتباهون بإرتدائهم ثوب الصحافة جِلداً لهم..إلاّ فائق بطي فقد تلفعت به الصحافة ثوباً لها..العمر المديد لأستاذنا فائق بطي..الذي كنت أتمنى أن تحتفي به الأسرة الصحفية في يومها!   

ان مايميز الاسرة الصحفية العراقية ذلك الانشطار الدائم بين اجنحتها..ففي كل البلدان صحفيون موالون وآخرون معارضون لكنهم يلتقون تحت خيمة صاحبة الجلالة وتحت قبة نقابتها كأسرة واحدة!

إلاّ معشر الصحفيين العراقيين..الذين تمكنت السلطات من تشطيرهم تحت جزماتها او في قبورها ومقامعها..فهنالك دائما قومان متنازعان في خندقين متقابلين..دون ان يُدرِكا إن الصحفي لاخندق له غير الكلمة الحرة الشجاعة ولاقوم له غير الحقيقة وأهلها..ولاسلطة تَحميه أو تَفنيه غير قلمه!!

فالصحفي..قد:

·       يمتطي الثورة في رحلة الفكر!

·       يركب موج التطرف وجلاً من التطرف في وسط الاعصار المجنون!

·       يَحتمي بالسيّاف خوفاً من السيف!

·       يَشحذُ الكلمة في مواجهة المشنقة!

·       يَكسرُ الرغيفُ شوكته في معركة العيش!

·       تَنخرُ ديدانُ السلطة قلم زملائه على طاولات الاغواء!

·       يَستوطِن الوباءُ حروف الصحافة في نوبات الكراهية!

لكنه ـ إن كان صحفياً حُراً!!ـ..

لن يستطيع ان يكون إلاّ وَهجاً في حلك الاستبداد..يركب المخاطر كي تنجلي الحقائق وتستحيل الى طاقة للتغيير الإرتقائي!

تحية إجلال الى أرواح شهداء الصحافة الذين قضوا في سجون الدكتاتورية ومقابرها ومخابئها..او الذين استشهدوا برصاص المحتلين والارهابيين!

تحية اجلال الى روح الزميل الشهيد شهاب التميمي الذي استشهد وفي نفسه ( حلم ) ان يرى نقابه للصحفيين العراقيين يخشاها السياسيون؟! 

تحية إجلال الى ذكرى الصحفي الشهيد ( الحالم ) الشاب سردشت عثمان..الذي ترك في نفوسنا غصة الآباء بفقدان الولد العزيز!

تحية فخر الى آلاف الصحفيات والصحفيين الشباب في كل مكان ومنهم العراقيين..

الذين كلما نقرأُ لهم..وتُومِضُ افكارهم بعقولنا..وتَخفق حماستهم بأرواحنا..يُقَرِّبون لنا الفجر!

تحية تضامن الى جميع الصحفيين العراقيين داخل الوطن وخارجه!

تحية إعتزاز الى رئيس واعضاء مجلس نقابة الصحفيين العراقيين وجميع العاملين فيها!

لاشك إن ـ التنوع الفكري ـ بين الصحفيين فضيلة!

لانها إنعكاس لطبيعة الكون المتحرك بفعل صراع الاضداد والمُزدهي بتنوع الموجودات!

لكن الفضيلة الكبرى ان لايكون إنقساما انسانيا حول ـ حق الانسان الفرد ـ في:

·       الحياة الآمنة..

·       العيش الكريم..

·       المواطنة المتساوية..

·       التفكير الواعي..

·       التعبير الصريح!

صحيح القول ان..ليس هناك صحافة في اي بلد بل هناك صحافات..فالصحافة موقف مدافع عن مصالح مجموعة من الناس ، ومصالح الناس ليست واحدة ولكل تيار فيهم صحافته مثلما لكل مجموعة من الناس مصالحها..

لكن المثير للفزع هو تلك الصحافة التي يفرزها التخلف..وأولئك الصحفيون الذين يمتطون التطرف..وتلك النصوص التي تَختزن الضغينة الموروثة وتُفجرها في عقول العامة كبارود ساخن يوقد في النفوس الكراهية والتطرف وسفك الدماء..ويكرس التخلف..ويشيع الاذعان للاصنام السياسية..ويؤبد الخضوع للدمى المُجوفة ..او الذين يَطِنّون في مسامع الناس..قطعانُ ذبابٍ للسلطةِ المُستبدة!!

كلنا يدرك ان لا احد يمثل الصحفي الحر غير الصحفي الحر نفسه!

لكن ينبغي التمييز بين حياتنا واحتياجاتنا المهنية التي نشترك بها جميعا على اختلاف منابعنا ومواقفنا الفكرية واساليبنا المهنية واختصاصاتنا الحرفية..وبين مواقفنا الفكرية التي ينبغي ان لاتكون إلاّ إثراءً للفكر وإغناءً للحياة وتكريساً لدور الصحافة كـ ـ سلطة رابعة ـ تَستجوبُ جميع السلطات دونما خوف او إستحياءٍ او إسترخاص للكلمة إو انزلاق الى هاوية التزلف!!

ان واحد من اكثر السيوف المعلقة على عنق ( نقابة الصحفيين ) مثلما جميع النقابات ومنظمات المجتمع المدني هو:

الحاجة المالية لكي تستمر في الوجود!

ولما كان القانون يفرض على السلطة تخصيص موارد مالية ثابتة لتلك النقابات..فلماذا لا يصار الى ايجاد موارد مالية ثابتة لتلك النقابات من اصول تقدمها الدولة وفق القانون..

ولكن ليس بصفة مساعدات وهبات وصدقات ( مقابل شراء الذمم!).

وانما بصفة اصول لمشاريع استثمارية دائمة تعود ملكيتها لتلك النقابات وتشكل موردا دائما يُنجيها من التبعية للسلطة التنفيذية..

فيما بعد انجازاً تلك المشاريع؟!!

ان قانون حماية الصحفيين الذي قَبَرهُ المتحاصصون على اختلاف كهوفهم يجب ان تُعاد صياغته ليُلبي الإحتياجات الاجتماعية والمهنية والمعاشية الحقيقية لأسرة الصحفيين الاحرار وليس لطابور المُستَجدين في أبواب الحكام المتربصين للرأي الآخر..الباحثين عن ( قصيّة الغنم ) للإجهاز عليها!

لان وباء الإستجداء الذي تمتد جذوره الى اطوار العبودية الاولى مايزال ساريا في عقول العديد من صحفيينا..ومترسبا في اقلامهم..ومتأشناً في سلوكهم..ومُخزياً في مواقفهم!

الى جانب ( ثقافة المساءلة ) المتجلية في تلك الاصوات الفصيحة والاقلام الصريحة والمواقف الشجاعة لاجيال متعاقبة من الصحفيين الاحرار الذين تعلمنا منهم كيف تَزُجُّ الكلماتُ الحرةُ الطغاةَ في مأزق التأرجح المهلك عند حافات الهاوية!!

تحية لجميع الصحفيين العراقيين في داخل الوطن وخارجه..

على اختلاف افكارهم..الذين يُثرون بها وعي الانسان العراقي المتطلع للحرية والرخاء والمعرفة ..

الصحفيين الذين يبددون غبار التضليل عن وجه الحقيقة رغم سيوف القمع ، وفخاخ الخوف ، وأكوام الممنوعات ، ومهالك العوز ، وهجير الحاجة ، ويباب الغربة داخل الوطن وخارجه!! 

 العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 
في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com