|
نفط العراق ما بين الإعجاب والحساب
محمد عارف مستشار في العلوم والتكنولوجيا وصلتني قبل أيام رسالة تحطّم القلب، أو تجعله كالصخر الجلمود. كاتب الرسالة الدكتور محمد علي زيني، رئيس الفريق الذي اختارته وزارة الدفاع الأميركية قبيل الغزو لتشغيل وزارة النفط العراقية. وإذا كان ملايين الناس يرون بأعينهم آثار كارثة التسرب في خليج المكسيك، فلا أحد كالدكتور زيني يرى الحجم المهول لكارثة تسرب النفط العراقي القادمة، فهو يحمل شهادات في الهندسة، والقانون، والاقتصاد السياسي، وكان قد استقال من رئاسة الفريق بعد الغزو بخمسة شهور، وعرض في كتابه "الاقتصاد العراقي: الماضي والحاضر وخيارات المستقبل"، شهادة عن الخراب الذي أنزله الاحتلال بالعراق، وطرق الاحتيال والفساد والتبديد وضعف الإدارة، المسؤولة الحقيقية عن انقطاع التيار الكهربائي، وغير ذلك من مشاكل يومية يعاني منها العراقيون. ويعترف زيني بأن سعة العراق الإنتاجية للنفط الخام لا تزال، بعد إنفاق مليارات الدولارات على عمليات الإصلاح والصيانة الأمنية، 2,5 مليون برميل يومياً، أي أقل من 2,8 مليون برميل التي كانت عليه قبل الاحتلال مباشرة عام 2003. فلنقرأ رسالة زيني بعينين مختلفتين، كما يقول الروائي الإنجليزي شارلس ديكنز؛ "عين تشع بالإعجاب، وعين تومض بالحساب". وما بين الإعجاب والحساب يرسم زيني بالأرقام صورة مدهشة للعراق الذي يسميه "العملاق النفطي القادم". فـ"احتياطيات العراق النفطية المثبتة والمعلنة تبلغ نحو 115 مليار برميل"، ليحتل بذلك المرتبة الثالثة بين دول العالم الغنية بالنفط. لكن هذه الاحتياطيات نتاج استكشاف نحو 115 تركيبا جيولوجيا، وفي العراق نحو 400 تركيب جيولوجي لم تُستكشف بعد، قد تضمّ احتياطيات جديدة يبلغ مجموعها أكثر من 200 مليار برميل، وقد يتخطّى العراق بذلك إيران، "وربما حتى المملكة العربية السعودية ليصبح الدولة الأولى في العالم من حيث الاحتياطيات النفطية المثبتة". وتبدو هذه الاحتياطيات على ضوء جولات التراخيص التي صادق عليها مجلس الوزراء، أشد خطراً من المنصة النفطية التي تفجرت في خليج المكسيك. عشرة عقود تمت الموافقة عليها في غضون ستة أشهر فقط، بينها "جواهر حقول العراق غير المطورة أعطيت دفعة واحدة بدون مبرر". فهذه التراخيص التي قد تفجر أكبر تسرب في تاريخ النفط ستقفز بإنتاج العراق من النفط الخام إلى نحو 12 مليون برميل يومياً مع نهاية عام 2017. خسائر مالية فادحة ستلحق بالعراق نتيجة قيام وزارة النفط بالاتفاق مع الشركات الأجنبية لتطوير سعة إنتاجية قدرها 12 مليون برميل يومياً بدلاً من الالتزام بتوصيات الخبراء بإضافة ما بين 6 و8 ملايين برميل يومياً فقط. فالسعة الإنتاجية الفائضة عن حاجة العراق ستراوح ما بين 6 و4 ملايين برميل يومياً خلال السنوات بين 2017 و2030. ولا تقتصر الخسارة على كلفة تطوير سعة إنتاجية لا حاجة لها فحسب، بل تضاف إليها كلفة إدامة السعة الفائضة. والإدامة ليست مجانية أو "بلاش"، حسب التعبير العراقي الذي يستخدمه زيني الذي يقدر على أساس الأسعار الحالية كلفة إدامة البرميل اليومي الواحد المنتج للنفط الخام بنحو 300 دولار سنوياً. وتراوح بذلك كلفة الإدامة الكلية لستة ملايين برميل يومياً ما بين ستة وستة عشر مليار دولار خلال الفترة من 2017 إلى 2030، أي ستكلف العراق خلال الفترة المذكورة 22 مليار دولار لإدامة سعة أنتاجية لا حاجة لها. وتقفز الخسارة عند حساب مجموع كلف التطوير والإدامة إلى مبلغ خيالي قدره 75 مليار دولار. وكلفة كهذه لن تقبل بها حتى السعودية، وهي البلد الوحيد "الذي يحافظ على سعة إنتاجية فائضة لا تتجاوز مليوني برميل يومياً، ويتحمل تكاليف إدامتها للحفاظ على استقرار سوق النفط الدولية". ومتابعة السيرة الذاتية لزيني "بعين تشع بالإعجاب، وعين تومض بالحساب" تطلعنا على الغريزة السياسية التي لا تطيق البقاء على مسافة من الأحداث، ولعله التحق بركب الاحتلال باعتباره "الاستسلام الجميل" إلى ما كان يسميه الفيلسوف الألماني هيجل "اليأس الجميل". وبعد كوارث سبع سنوات من "الاستسلام الجميل" يتوقع زيني أن "الشعب العراقي المعروف بشدة مراسه، وقابليته لتحّمل الأهوال، سوف لن يوقف الإنتاج النفطي"، و"سيستمر أبناؤه الأشاوس بتشغيل حقولهم لتأمين أسباب العيش الكريم لشعبهم الأبي حتى لو تعرضوا إلى القتل الواحد منهم تلو الآخر"! هل هذه إذن كل حصيلة انضمام زيني إلى فريق المستشارين الذين اختارتهم "البتناجون" لـ"بناء الدولة العراقية"؟ كان واحداً من خمسة عراقيين أميركيين قبلوا الإعلان عن أسمائهم، في حين حرص على إخفائها آخرون، يعمل بعضهم حالياً سفراء للعراق، وكان زيني وحده بينهم يفكرّ بصوت عالٍ: "هذا وقتك يا محمد علي، ليس السعي وراء الراحة والمال كل شيء في الحياة. اترك كل شيء خلفك وعد من حيث أتيت". وعندما سأله مراسل صحيفة "نيويورك تايمز": لماذا قرر ترك حياته في الولايات المتحدة والمشاركة في المهمة الصعبة لتحويل العراق إلى دولة؟ أجاب: "أشعر أن بلدي يناديني". وقد اتبّع زيني هذا النداء مرة أخرى في العام الماضي، حين أضاف خمسة فصول إلى كتابه، وطبعه بألفي نسخة، وزعها مجاناً خلال حملة ترشيح نفسه للبرلمان. "وإذا كنتم راغبين بمعرفة النتيجة فقد خسرتُ طبعاً"! ويُعلل خسارته بترشيح نفسه في مدينته النجف، على قائمة "شيعية سنية علمانية ليبرالية وديمقراطية"، و"لعل جمهور الناخبين ليسوا مستعدين بعد لذلك"! وإذا كان زيني قد استجاب لنداء بلده بالانضمام إلى المحتلين، فإن سعد الله الفتحي، زميله وصديقه الحميم خلال أيام دراسة الهندسة في جامعة "برمنجهام" في بريطانيا، استجاب للنداء بالوقوف ضد الاحتلال. وهذه من أكثر قصص مجتمع النفط العراقي إثارة. حدث ذلك ربيع عام 2004 عندما كان الاحتلال ما يزال يعيش فترة "شهر العسل"، وكان الفتحي، الرئيس السابق لمؤسسة "مصافي النفط العراقية"، مدعواً للحديث في ندوة "فرص العمل في العراق" التي عُقدت داخل قبة البرلمان البريطاني. واستهل الفتحي حديثه بالشكل التالي: "أول خطوة على الولايات المتحدة وبريطانيا القيام بها هي الاعتذار للشعب العراقي والإعلان أن الحرب على العراق كانت خطأً، والتأكيد على أنهما ستنسحبان من جميع الأراضي العراقية، وتعوّضان العراقيين عن الخسارة في الأرواح والممتلكات، بما في ذلك آثار الحظر الظالم والعابث، المفروض منذ عام 1990، وأن تتعهدا بضمان استقلال العراق وسيادته، ودعم أي تغيير ديموقراطي يحقق المساواة بين العراقيين، بغض النظر عن انتماءاتهم الأثنية والدينية، واعتبار جميع التغييرات التي أدخلت على القوانين العراقية باطلة ولا أساس لها". "طبيعة المرء قَدَرُه"، كما كان يقول الفيلسوف الإغريقي هيراقليط. وقد نعثر على ما يميز طبيعة الفتحي وزيني في كتاب "تاريخ المصافي العراقية" الذي يصدره قريباً الفتحي، وفيه قصة عمله في إنشاء مصافي "بيجي" التي كانت تعتبر أكبر مصافي النفط في المنطقة خلال ثمانينيات القرن الماضي.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |