|
غالباً ما كان العلماء المتخصصون بالفلك والفيزياء الكونية وعلم الكون، يركزون أبحاثهم على المكان بأبعاده الثلاثة لا سيما في القرون الماضية، إلى أن جاء آينشتين ومنح الزمن قيمة جوهرية عندما اعتبره البعد الرابع للكون. وفي العقد الأخير من القرن العشرين كرس العالم الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء سنة 2006 ، جورج سموت George Smoot وقته وريشته لتأليف كتابه الجميل والممتع تجاعيد الزمن Les Rides du Temps حيث صدرت ترجمته الفرنسية سنة 1994 . وكان جورج سموت هو الذي أطلق جملته الشهيرة أمام حشد من العلماء والجمهور والإعلاميين المجتمعين في مقر الجمعية الأمريكية للفيزياء Société Américaine de physique في 23 نيسان 1992، وأثارت ضده الوسط العلمي إبان تعليقه على صور الكون التي أرسلها التلسكوب الفضائي كوب COBE- Cosmic Background Explorer ومن بينها أقدم أشعة قادمة من أعماق الكون، التي يعود تاريخها لأكثر من 13 مليار سنة، عندما عبر جورج سموت عن فرحته ودهشته قائلاً:" كأنني أرى فيها "وجه الله"، مما دفع نصف الحاضرين إلى مغادرة الصالة احتجاجاً على إقحام إسم الله في وثيقة علمية. وبهذه المناسبة علق العالم الحائز على جائزة نوبل للفيزياء روببرت ويلسون Robert Wilson كنت أفضل سماع العبارة البديلة التالية:" كأننا بصدد التأمل في عملية الخلق وولادة الكون"، علماً أن عبارة جورج سموت كانت مجازية ولا تتضمن أي فحوى دينية أو أية إشارة عقائدية أو إيمانية. وفي كتاب "الله والعلم" قال الفيلسوف الفرنسي جون غيتون jean Guiton :"إن من الممكن مقاربة الكون باعتباره رسالة مشفرة أو رسالة ذات شفرة سرية أو نوع من الهيروغليفيا الكونية حيث بالكاد بدأنا بفك طلاسمها. وتتضمن في طياتها جميع القوانين الفيزيائية الجوهرية الأربعة المسيرة للكون" . في حين أشار عالم الفيزياء الأمريكي بول دافيز Paul Davise سنة 2001 بهذا الصدد إلى :"أن القوانين الفيزيائية لا توجد مطلقاً في المكان و لا في الزمن ، مثلها مثل الرياضيات، بل لديها وجود تجريدي abstraite ، وهي تصف العالم بيد أنها ليست في داخله وهذا لا يعني البتة أن القوانين الفيزيائية ولدت مع الكون أو في لحظة ولادته و لو وجدت القوانين مع الكون في نفس الوقت لما لجأنا إليها لشرح وتوضيح وتفسير أصل الكون ومنشأه، وبالتالي، ولكي تتكون لدينا فرصة لنفهم وندرك علمياً كيف ظهر الكون، يتعين علينا تقبل فكرة أن القوانين نفسها تتمتع بخصائص مجردة وتجريدية لا زمنية و لا أزلية". جاء هذا الطرح في كتاب بول دافيز الذي يحمل عنوان "عقل الرب The Mind of God" الصادر سنة 1992 وأضاف في نفس الكتاب قائلاً :"إنني واحد من بين العديد من الباحثين الذين لا ينتسبون لأي دين تقليدي لكني أرفض الاعتقاد بأن الكون كان حادثاً عفوياً وقع بمحض الصدفة. فالكون الفيزيائي المادي المرئي مرتب Agencé بطريقة محكمة ومبهرة ومنظمة جداً ingéniosité إلى درجة تجعلني أرفض فكرة أن الكون مجرد عملية خلق création آلية mécanique تبدو كأنها حدث محض Fait Brut لذلك لا بد من وجود مستوى أرفع من الشرح والتوضيح وأكثر عمقاً، مهما أعطيناه من تسمية، وإن توصيفة الله ما هي إلا مسألة ذوق وتعريف gout et définition. ولكن هل يمكن للإله أن يظهر في هذا الكون بهيئة ما داخل الزمان والمكان الماديين؟ الجواب يوجد في طيات الميتافيزيقيا وليس العلم. كانت مسألة الأصل تؤرق بال العلماء خاصة بسبب اتصالها بأطروحة الخلق وحساسيتها عند مليارات البشر. ففي سنة 1929 تسلم آينشتين رسالة غريبة من نوعها أرسله له حاخام نيويورك هربرت غولدشتين Herber Goldstein يسأله فيها، بأسلوب يشوبه القلق، سؤلاً محرجاً ودقيقاً ومباشراً :"هل تؤمن بالله؟" وكان الحاخام المذكور قد تسلم بدوره رسالة من الكاردينال عن مدينة بوسطن الواسع النفوذ أوكونيل O’Connell هدد فيها باللجوء إلى الفاتيكان لإصدار تحريم ضد آينشتين باعتبار أن نظريته النسبية تنشر الشك بين الناس بأن وجود الله الخالق للكون لا لزوم له، وتساهم في انتشار الإلحاد. وسرعان ما رد آينشتين بعبارته الشهيرة التي قال فيها:" أؤمن بإله سبينوزا الذي تجلى من خلال الهارمونية السائدة في العالم وليس بالإله الذي يتدخل في شؤون وتحركات وتصرفات وأذواق كل فرد". فارتاح الحاخام لهذا الرد وأشاع بين الناس أن آينشتين ليس ملحداً وإن نظريته النسبية، لو دفعت نحو الاستنتاج المنطقي لنتائجها فإنها يمكن أن تعطي للبشرية صيغة علمية ستقف بلا شك لصالح الرسالات السماوية والأديان التوحيدية الثلاثة. ومن داخل الكنيسة الكاثوليكية، نشر الراهب والعالم الفيزيائي لوميتر Lemaitre نظريته عن الكون والتي قال فيها :"إن المكان والزمن، والمادة والطاقة، بدأت كلها في وقت واحد. وقد سبق لأحد أعمدة الكنيسة قد أعلن قبل قرون وبالتحديد سنة 354 ، أي في بداية القرون الوسطى، وهو القديس أوغسطين saint Augustin معبراً عن إلهامه، :"إن الكون لم ينشأ داخل الزمن بل نشأ مع الزمن". وهو نفس الشيء الذي ردده آينشتين بعد ألف وخمسمائة سنة من ذلك التاريخ. من هنا برزت فكرة وجود عصر أو حقبة لا أحد يعرف مداها، قبل خلق أو انبثاق المكان والزمن، والمادة والطاقة، أي فترة ما قبل الانفجار العظيم البيغ بانغ Big Bang . يعلم العديد من العلماء أن العالم الفيزيائي والفلكي الروسي الشهير جورج غاموف George Gamow كان أول من تجرأ في الحديث عن العهد ما قبل المادي époque pré matérielle للكون الذي هو عبارة عن حقبة غامضة ولغزية سبقت المكان والزمن الطبيعيين الماديين اللذين نعرفهما اليوم، وهي طريقة ذكية للقول أن المقصود من ذلك هو التعامل مع لغز مطلق ومغلق تماماً عن الإدراك لا يملك سره إلا الله أو العقل الأول على حد تعبير جورج غاموف. وفي سنة 1948 نشر هذا العالم الفذ مقالين قال فيهما :"إن الحدث العظيم أي الانفجار الأساسي الذي أدى ربما إلى ظهور الكون المرئي ، لا يمكن إلا أن يترك ورائه آثاراً وبصمات تدل عليه على شكل إشعاعات منخفضة الحرارة ـ بضعة درجات فوق الصفر المطلقZéro absolu تنتقل كالصدى لتلك البدايات الساحقة وتسبح في أرجاء الكون والتي صارت تعرف علمياً بالأشعة المتحجرة le rayonnement fossile . بدأت نظرية الإنفجار العظيم تشق طريقها منذ سنة 1948 وظهرت التسمية في 28 آذار / مارس 1949 في برنامج إذاعي لمحطة البي بي سي البريطانية على لسان العالم فريد هويل Fred Hoyle متهكماً وساخراً من فكرة ونظرية غاموف، وكان هذا الأخير قد صرح مداعباً ومازحاً :"أن الله يسكن على بعد 9 سنوات ضوئية عن الأرض" مما أثار حفيظة زملائه في الوسط العلمي. وكان من الصعب تقبل فكرة أن هذا الكون المرئي الشاسع بما يحتويه من مئات المليارات من المجرات وحشود المجرات ومئات الآلاف من المليارات من النجوم والكواكب، حيث تقاس المسافات فيه بمليارات السنوات الضوئية، كان مضغوطاً في نقطة غاية في الصغر أو اللاتمناهية في الصغر، ضائعة في العدم، فهذا أمر يستحيل تصوره ناهيك عن إدراكه أو تقبله والتصديق به، وأكثر العلماء كانوا يرفضون حتى مجرد التفكير فيه ومنهم فريد هويل المتحصن في قلعته المنيعة في كامبردج العريقة. وبالرغم من ردود الفعل العنيفة ضد نظرية البيغ بانغ أي الانفجار العظيم، كانت هناك شلة صغيرة من العلماء تثابر في البحث عن شبح ذلك الانفجار أمثال بونزياس Penzias و ويلسون wilson اللذين اكتشفا سنة 1964 الإشعاع المتحجر rayonnement fossile وكان العالم الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء سنة 1979 ستيفن وينبيرغ steven weinberg مقتنعاً أن هذا الاكتشاف للشعاع المتحجر يعتبر واحداً من أهم الاكتشافات العلمية التي حدثت في القرن العشرين كما ورد في كتابه الرائع المعنون "الدقائق الثلاثة الأولى من عمر الكون" الصادر سنة 1988 les trois première minutes de l’univers . وهناك إسم أخر لذلك الشعاع وهو العمق الكوني المنتشر fond diffus cosmologique وهو عبارة عن موجة باردة تتراوح درجة حرارتها بين 2 و7 درجات فوق الصفر المطلق، وقادمة من أعمق أعماق الفضاء ، أي من أقصى حدود الكون المرئي L’Univers Visible، وتسير تلك الموجة بسرعة الضوء ، أي 300000 كلم/ثانية، كشاهد ملموس على عملية الخلق أو البدء الكوني . الأمر الغريب اليوم هو أن الأشعة المتحجرة صارت موجودة في كل مكان وليس فقط في أماكن بعيدة في الكون. فهي موجودة في حديقة المنزل وفي داخل السيارة وفي الغرفة التي تجلس فيها وتصطدم في جسدك في كل لحظة دون أن تشعر بشبح الأشعة المتحجرة غير المرئية، وهناك مليارات الفوتونات الخفية غير المرئية، تخترق الكون برمته كالريح التي تلامس الوجه وتداعب الشعر في كل سنتمتر مكعب في المكان يوجد ما لا يقل عن 400 فوتون من الشعاع المتحجر. بعبارة أخرى هناك تحت اليد في هذه اللحظة حوالي المليار فوتون كوزمولوجي تتأرجح في كل الاتجاهات ولو قررنا تعدادها واحداً بعد الآخر فسوف نحتاج إلى 80 عاماً. إن الاكتشاف الأهم الذي توصل إليه آينشتين في نظريته النسبية هو أن الزمن، بالنسبة لجسم يسير بسرعة الضوء، يعادل صفر، بمعنى آخر لا وجود للزمن بالنسبة للأشعة المتحجرة القادمة من أعماق الكون منذ الانفجار العظيم قبل 13750 مليار سنة، لأنها تنتقل بسرعة الضوء. ففي الفراغ لا يحدث شيء وإن الزمن يتغير ويختلف باختلاف السرعة فكلما زادت سرعة الجسم كلما تباطأ الزمن بالنسبة لذلك الجسم، حسب مبدأ تباطؤ الزمن مع السرعة. نفس الأمر ينطبق على فوتونات الضوء التي تسير بسرعة 300000 كلم/ثانية حيث الزمن بالنسبة لها شبه متوقف إن لم نقل منعدم. فبالنسبة لنا، مر حوالي 14 مليار سنة على حدث البيغ بانغ الانفجار العظيم وانطلاق الضوء منه، في حين لم تمس الشيخوخة الفوتونات المهاجرة منذ تلك اللحظة الغارقة في القدم ولم تشخ ولا ثانية واحدة، وهذا ما يصعب تصديقه أو استيعابه وفهمه من قبل العامة من غير العلماء والمتخصصين. وليس فقط أننا نلمس توقف الزمن بالنسبة لفوتونات الضوء فحسب، بل إن المكان والفضاء نفسه لا يعني شيئاً بالنسبة لنفس الفوتونات الضوئية رغم ما يتمتع به المكان من مسافات وأبعاد مكانية. فالامتداد المكاني والفضائي غير موجود ومنعدم أيضاً منذ اللحظة التي غادر فيها شعاع الضوء العمق المنتشر للكون fond diffus على الطرف الآخر للكون المرئي، إلا أنه، من وجهة نظر الفوتون الضوئي، فإنه بلغ أو وصل للأرض في نفس لحظة الانطلاق لأنه لا توجد مسافة مكانية بالنسبة له ولا حتى جزء من مليار من الملليمتر.وهذا يعني نظرياً أننا يمكن أن نراقب ونرصد حدث الانفجار العظيم بصورة مباشرة بفضل اكتشاف وجود الإشعاعات المتحجرة ، وذلك وبفضل هذه الظاهرة العلمية الخارقة التي اكتشفها عبقري القرن العشرين آينشتين غادر الضوء موقع الانفجار العظيم واكتشفناه اليوم وكأنه في عمر يقل عن جزء من مليار من الثانية . في 14 آيار / مايو 2009 أطلقت وكالة الفضاء الأوروبية التلسكوب الفضائي في الفضاء الخارجي بلانك Planck ولكن بقدرة تفوق ألف مرة قدرة سلفه التلسكوب الفضائي الأمريكي كوب COBE المذكور أعلاه، وقد قدم تلسكوب بلانك لغاية نهاية سنة 2010 تقريباً معلومات علمية غاية في الأهمية والدقة العلمية وسيستمر في العطاء لعقدين قادمين، حيث بدأت الدراسات والتحليلات للصور المذهلة التي أرسلها تلسكوب بلانك لحد الآن وستظهر النتائج النهائية بعد عام 2012 . كان أول استنتاج علمي ثبتت صحته هو أن لكوننا المرئي الحالي، بداية يعود تاريخها إلى 13 مليار و 750 مليون سنة أرضية وربما يكون التاريخ أقدم من ذلك بكثير. والحال أن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هو: هل ظهر الكون هكذا فجأة وبالصدفة أم نتيجة لطبخة معدة سلفاً؟ وعندما يشاع أن مغامرة الحياة تنجم كما يبدو من توجه طبيعي للمادة نحو التنظيم الذاتي العفوي لتتحول إلى نظام أكثر تجانساً hétérogène وأكثر تعقيداً plus complexe يحق لنا أن نتساءل لأي سبب يحدث ذلك؟ هل هناك قانون أو عدة قوانين ماتزال مجهولة، تقوم، بفعل بعض الظروف الخاصة للطاقة، بدفع المادة إلى تنظيم نفسها لكي تصبح حية vivante ؟ مما لا شك فيه أن هناك نسيج ما يتكفل بالربط بين الجماد والمادة العضوية السابقة للحياة pré vivante ومن هذه الأخيرة إلى المادة الحية، وهذه الأخيرة تبدو كأنها التعبير الضروري لكون مرئي ينطوي تنظيمه الدقيق والممنهج والتراتبي،على نزوع الجزيئات الأكثر بساطة إلى تنظيم نفسها على شكل أنظمة أكثر تعقيداً إلى حد ولادة الحياة . وقد صرح عالم الفيزياء الأمريكي فريمان دايزون Freemen Dyson بهذا الخصوص " كلما حللت الكون أكثر فأكثر ودرست تفاصيل معماريته، كلما التقيت بأدلة وبراهين توحي لي بوجود معنى ما، حيث بت أشعر وكأن الكون " يعرف أو يعي" أننا سنظهر وسنولد على سطح عدد كبير من كواكبه أو مكوناته " فالكائنات الحية والمجرات والنجوم والكواكب مكونة من نفس المادة سواء أكانت حية أو جماد، وهذا يعني أن الكون "كائن حي" وهو في عملية خلق مستمرة منذ الأزل إلى الأبد، وننتمي نحن للمكونات الحية فيه . فهنالك أمثلة مثيرة ومدهشة عديدة داخل قوانين الفيزياء الذرية وعدد من الحوادث Accidents بصيغة رقمية numériques تبدو وكأنها تتواطأ لجعل الكون قابلاً للحياة . وفي مؤتمر علمي عقد في باريس بدا فريمان دايزون Freemen Dyson حائراً بشأن سؤال محرج وجهه إليه أحد المشاركين بشأن سر النظام الغامض الذي يتحلى به الكون ويبسط ويفرض حضوره على الواقع، وكانت إجابته علمية معقدة وتخصصية وكأنه يريد أن يتهرب من الرد حين قال :" إن القوة التي تتحلى بها قوى الجاذبية أو الثقالة الذرية تكاد تكون غير كافية لتعارض قوى الطرد الكهربائية التي تتفاعل بين الشحنات الموجبة للنوى في الذرات العادية كذرات الحديد والأوكسجين، كما توجد حوادث accidents محظوظة جداً في الفيزياء النووية physique atomique، وبدون تلك الحوادث والخروقات لن يكون بوسع الماء أن يوجد بهيئته السائلة ولن يكون بوسع حلقات ذرات الكربون أن تتحد وتتركب se combiner على شكل جزيئات أو خلايا molécules organiques عضوية معقدة ومركبة complexes ، ولن يكون بإمكان ذرات الأوكسجين أن تعمل كجسر بين الخلايا لذلك يمكن القول أنه بفضل تلك الخروقات والحوادث الفيزيائية والفلكية accidents physiques et astronomiques بات ممكناً توفر أمكنة حاضنة hospitalier للكائنات الحية . وبصفتي عالماً متعلماً ومشبعاً بنمط تفكير القرن العشرين وليس القرن الثامن عشر، لا أدعي أن معمارية الكون ، رغم عظمتها وهارمونيتها، يمكن أن تثبت وحدها وجود الله، بل يمكنني القول فقط بأن هذه المعمارية تتماشى وتتوافق مع الأطروحة القائلة بأن الروح L’esprit المجهولة الماهية ، تلعب دوراً أساسياً في طريقة عمل الكون ونظامه، وأعتقد أن الكون يميل بطبيعته وتكوينه نحو الحياة والوعي والذكاء وإن هناك معنى لوجوده والدليل أننا هنا موجودون لنراقب ونرصد وندرس ونحلل ونتأمل بجماله وهارمونيته، لكنني أشدد أن المقصود بهذا الكلام هو مجرد رهان ميتافيزيقي enjeu métaphysique وليس تفكيراً عقلانياً وعلمياً قحاً". وفي نفس السياق صرح العالم جورج سموت :"أن كوننا المرئي هذا، وقبل بدء التوسع والتمدد، كان في حالة توازن حراري équilibre thermique في مستوى اللامتناهي في الصغر، والمعروف أيضاً بمستوى بلانك échelle de Planck، رغم مروره بعدة تحولات قبل بلوغه التوازن الذي نراه اليوم. وبفضل رصد واكتشاف وتحليل الشعاع أو الضوء المتحجر rayonnement fossile أصبح بالإمكان رؤية أن الكون كان في حالة توازن، على الأقل بعد ساعة من بدء الانفجار العظيم البيغ بانغ ، والأكثر من ذلك أن التركيبة الذرية nucléosynthèse المرتبطة بالانفجار العظيم توفر دليلاً إضافياً مثبتاً على أن التوازن كان موجوداً حتى قبل ذلك الحدث المؤسس وبالتأكيد منذ الثانية الأولى للانفجار العظيم أو حتى جزء منها" ، وهو الموقف النظري الذي تبناه وأيده وأكده العالم البريطاني العبقري ستيفن هاوكنغ Stephen Hawking. وبعد أن ثبت علمياً ومختبرياً أن الكون كان في حالة توازن حراري على مستوى بلانك، فإنه بالضرورة كان في وضع خاص جداً وفريد من نوعه أسماه علماء الفيزياء والرياضيون physiciens et mathématiiens بحالة الـ " ك م س K ,M,S, " وهي نظرية كونية تحمل نفس الإسم وتحتاج لمئات الصفحات لشرحها وتوضيحها لكنني سأحاول تلخيصها قدر الإمكان في بضعة سطور لتقريب الصورة لأذهان القراء على أن نعود لها فيما بعد في بحوث قادمة بالتفصيل اللازم :" ففي عالم اللامتناهي في الصغر infiniment petit ، وعندما يكون النظام في حالة توازن حراري équilibre thérmique ، فإنه من البديهي بالضرورة سيكون النظام في حالة ك م س K ,M,S, وهناك عدد قليل جداً من العلماء من أطلع بالتفصيل على هذه النظرية النادرة والغريبة والمدهشة في آن واحد . وقد أتاحت هذه النظرية الفرصة لبعض العلماء والباحثين، ومن بينهم الأخوة التوأمين إيغور وغريشكا بوغدانوف IGOR et GRIHKA BOGDANOV التطرق لهذه النظرية والاستفادة منها وتطويرها عبر أطروحتيهما لنيل الدكتوراه في علم الكونيات cosmologie والقيام بمقاربة شجاعة وجريئة عن حالة الكون قبل ولادته أي قبل الانفجار العظيم البيغ بانغ وأثبت الأخوة بوغدانوف بأن الكون، على مستوى بلانك، أي في المستوى اللامتناهي في الصغر، كان في حالة ك م س K ,M,S, ، وهي الحالة التي كانت سائدة وتهيمن على الوجود الافتراضي للكون قبل نشأته المادية ـ الطاقوية أي قبل الانفجار العظيم. ولكن ما المقصود بحالة ك م س K ,M,S, بالضبط؟ إنها الحروف الأولى لأسماء ثلاثة علماء فيزياء هم أصحاب هذه النظرية التي تبلورت بين 1957 و 1959 وهم علماء فيزياء ورياضيات في نفس الوقت وهم كوبو KUBO وهو عالم ياباني حائز على جائزة بولتزمان prix Boltzmann ، و مارتان Martin وهو عالم رياضيات ضائع في بحر الحسابات والأرقام التي لاتنتهي، و شوينغر Schwinger الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء سنة 1965 ، ووضع العلماء الثلاثة نظرية الـ ك م س K ,M,S, بعد أن توصلوا إلى حقيقة أنه في مستوى اللامتناهي في الصغر تربط حالة الـ ك م س K ,M,S, التوازن الحراري équilibre thermique لنظام ما بتطوره son évolution . وعندما يكون نظام كمي أو كوانتي système quantique في حالة ك م س K ,M,S, ، أي عندما يجتمع توازنه الحراري مع تطوره ، عند ذلك يتوقف زمنه الخاص به عن الوجود، بالمعنى الدقيق لكلمة الوجود، ويغدو زمناً مركباً complex بالمعنى الذي يضفيه الرياضيون على مصطلح مركب. أي أن الزمن في حالة الـ ك م س K ,M,S, غير محدد فهو متشوه déformé ويغدو مضبباً flou ويمكن ان يتباطأ وتصبح الثانية ساعة أو يتسارع فجأة brutalement ويمر يوم كامل في خمس دقائق أو يقفز sauter التوقيت الزمني فجأة من منتصف النهار إلى منتصف الليل ــ على سبيل التشبيه لتقريب الصورة والتبسيط فقط ــ ويمكن تطبيق ذلك على الكون لأن لديه شرطين متوفرين ـ وهما كون الكون في مستوى بلانك، أي اللامتناهي في الصغر، أي كونه نظام كوانتي أو كمي، وأيضاً كونه في حالة توازن حراري في نفس الوقت . وهذا يعني أن التحديد الزمني للكون قبل الانفجار العظيم لم يثبت fixé ولم يحدد défini بل يكون خاضعاً لتباينات وتحولات وتأرجحات وتقلبات fluctuations بين الاتجاه الواقعي والاتجاه الخيالي direction réelle et direction imaginaire للزمن، وهذا الأخير، أي الزمن المتخيل، يقاس بالأعداد الخيالية nombres imaginaires . وقد أكد العالم البريطاني الفذ ستيفن هاوكينغ بأن الزمن المتخيل أو الخيالي كان هو الشكل الجوهري للزمن قبل ولادته، بعبارة أخرى إن الزمن قبل أن يصبح واقعياً être réel كان موجوداً قبل الانفجار العظيم على شكل تخيلي أو صيغة خيالية وفق تعبير الفيلسوف والعالم الرياضي ديكارت Descartes الذي ابتكر تسمية الزمن الخيالي أو المتخيل رغم إنه لم يعتقد بوجود الأعداد الخيالية حيث يؤكد علماء الرياضيات المعاصرين أن مربع عدد خيالي يكون دائماً سلبي négatif وهذه الأعداد لا تشبه غيرها وهي التي تستخدم لقياس الاتجاه الخيالي للزمن direction imaginaire du temps وهذا ما كان يقصده العالم جورج سموت عندما أطلق تعبير تجاعيد الزمن rides du temps وهو عنوان كتابه الجميل المشار إليه أعلاه
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |