هل سيسمح الوسط العلمي بتجاوز آينشتين يوماً ما؟الكون ذلك المجهول 2

 

د. جواد بشارة
jawadbashara@yahoo.fr

إن الجوهر التكويني للكون المرئي، ـ الذي ربما لا يمثل أكثر من جسيم صغير جداً "ميكروسكوبي" من بين عدد لا نهائي من الأكوان المماثلة أو المغايرة ـ لا يزال يشكل لغزاً يصعب اختراقه من قبل علماء الفيزياء الفلكية astrophysiciens حيث تقول تقديراتهم الحسابية والرياضية إن المادة التي نعرفها لا تشكل سوى 15% من مجموع محتويات الكون المادية وإن المتبقي، أي 85%، هو مادة سوداء matière noire مجهولة الماهية والتي تم التعرف على وجودها تم بفضل الجاذبية الثقالية المنبثقة عنها وتمارسها على ما حولها. ويعتقد علماء فيزياء الجسيمات physiciens des particules بأن هذه المادة السوداء تتكون من جسيمات من نوع جديد ومختلف وغير معروف لحد الآن ولكن بالإمكان رصدها وكشفها بواسطة أجهزة جديدة ومتطورة صنعت خصيصاً لهذه الغاية لأن هذه المادة السوداء باتت ضرورية ولا غنى عنها في الفرضيات والنظريات التي تتحدث عن الأنموذج الكوني modèle cosmologique لكوننا المرئي. فيمكننا تخيل مجرتنا درب التبانة La voie Lactée بأنها على شكل ديسك من النجوم والغازات تدور حول مركز مشترك. ولو طبقنا عليها قوانين نيوتن بشأن الجاذبية أو الثقالة فإن من المفترض أن تكون سرعة دوران النجوم والغازات الواقعة في ضواحي وأطراف المجرة أقل من سرعة النجوم والغازات الواقعة بالقرب من المركز، والحال أن العكس هو الذي يحدث، وهو الواقع الذي يفرض نفسه بفعل عمليات المراقبة والرصد التي كشفت عن أن النجوم والغازات الموجودة في الأطراف تدور بنفس سرعة باقي النجوم والغازات القريبة من المركز. والتفسير الوحيد المتوفر للعلماء هو القول بوجود كميات من المادة أكثر بكثير مما نراه، لذلك لجأ العلماء إلى فرضية وجود هالة Halo ضخمة مكونة من مادة غير مرئية أسموها المادة السوداء وظلوا يبحثون عنها منذ أكثر من ثمانين عاماً وافترضوا أنها تغلف المجرة ، وربما كذلك باقي المجرات، في كوننا المرئي، وتهيمن على ديناميكيته الداخلية sa dynamique interne كما أكدت عمليات المراقبة والرصد. ويؤكد العديد من العلماء أن أمامهم من 5 إلى 10 سنوات لاكتشاف المادة السوداء ومعرفة طبيعتها وكنهها ومكوناتها. وتجرى حالياً العديد من المختبرية للعثور على جسيمات هذه المادة الغامضة . ويرشح بعض العلماء جسيم يعرف باسم نوترالينوneutralino باعتباره المكون الأساسي لهذه المادة السوداء، وهو جسيم أولي أثقل بنسبة 40 إلى 100 مرة من البروتون proton وعديم الشحنة الكهربائية، وقد نوهت إلى وجوده نظرية التناظر أو التماثل الأقصى théorie de la supersymétrie التي تعتقد بوجو حالات ضبط قياسي وتناسب قصوى في الكون المرئي، ومن خصائصها أن لكل جسيم مادي ـ في الأنموذج المثالي للكون المرئي modèle standard ـ يوجد جسيم قرين يعرف بـ super partenaire ، أي الشريك المعادل والموازن والذي يمتلك نفس الخصائص مثل الكتلة وغيرها فيما عدا الـ spin ـ وهذه خصيصة ذات صفة كوانتية caractère quantique ـ وإن الجمع بين الجسيمات القرينة مع البوزونات ـ مثل بوزونات هيغز ـ ينتج أربع جسيمات جديدة، وإن الجسيم الأخف من بين هذه الجسيمات الأربعة يسمى غالباً نوترالينو neutralino، وهي جسيمات لا تتفاعل إلا نادراً مع المادة الطبيعية. وهناك جسيمات أخرى مرشحة نظرياً لتكون هي المكون الجوهري للمادة السوداء مثل فوتون ك ك ، ونوترينو ك ك، ونوترينو س ، وبرانون، وآكسيون، وماجورون، وغرافيتينو، وغرافيتون ك ك ، الخ ـ photon k k, neutrino k k, S neutrino, Branon, Axion,majoron,gravitino, graviton k k, ، إلا أنها تعاني من بعض المعوقات التقنية والخصائص المعقدة غير المناسبة كلياً. ونفس علامات الاستفهام والانشغالات تطرح بشأن الطاقة الطبيعية الملموسة والطاقة الداكنة أو السوداء، التي يعتقد البعض أنها هي التي تقف وراء سر تمدد وتوسع الكون المرئي والتي لايعرف أحد ماهيتها . وهناك مشكلة أخرى تتعلق بالتعويض عن نقص الطاقة الناجم عن عملية التمدد والتوسع الكوني وهو الأمر الذي يناقض مبدأ الحفاظ على الطاقة وفق القانون الفيزيائي الذي يقول بأن الطاقة لا تفنى و لا تستحدث أو لا تخلق من العدم وإنما يمكن تحويلها من نوع إلى آخرر. والحال أن التجارب الحديثة أظهرت أن الضوء القادم من المجرات البعيدة يفقد جزءاً من طاقته بسبب توسع وتمدد الكون المرئي الذي تسببه الطاقة الداكنة أو السوداء énergie sombre حيث أن طاقة الفوتونات تتناسب مع طول موجة الضوء وبالتالي فإن الكون بأسره يبدو وكأنه يفقط جزءاً من طاقته الملموسة بالنقيض من مبدأ الحفاظ على الطاقة conservation de l’énergie من هنا خرج من يقول أن هذا المبدأ يمكن أن يطبق على مستوى صغير كالأرض والمجموعة الشمسية ولكن ليس بالضرورة أنه يمكن تطبيقه على مستوى الكون المرئي بأسره. ومايزال الصراع بين قطبي الفيزياء الحديثة قائماً منذ بدايات القرن العشرين ولغاية نهاية العقد الأول من القرن الواحد والعشرين.
وهكذا يبدو أن مستقبل الفيزياء الجديدة سيتحدد بقدرتها على تجاوز نظرية النسبية الخاصة والعامة لآينشتين théorie de la relativité restreinte et générale ونظرية الكم أو الكوانتا théorie quantique واحتواءهما بدمجهما في نظرية واحدة جامعة وشاملة مما يعني، لو نجح هذا المسعى، تغير طريقة إدراكنا للمكان والزمن في كوننا المرئي. وقد حاول البروفيسور والعالم بيتر هورافا Petr Horava في سنة 2009 أن يقدم مفهوماً جديداً لشرح كيفية عمل الكون المرئي حيث يعتقد بعض المتحمسين لنظريته أنها ستزيح نظرية آينشتين عن عرشها وأنها سوف تلاقي نجاحاً ساحقاً في السنوات القليلة القادمة. بعد ثلاث سنوات من نشر نظرية آينشتين، وبالتحديد سنة 1908 حاول عالم الرياضيات الألماني هيرمان مينكوفسكي Hermann Minkowski عرض نظرية وأفكار آينشتين بطريقة أوضح وأبسط، وأوضح كيف أن الزمن يتباطأ مع تزايد السرعة وكيف يتشوه الزمن se déforme ، واليوم يعلن بيتر هورافا أن المكان أو الفضاء ذاته والزمن ذاته محكوم عليهما بالاضمحلال والتلاشي s’évanouir كما يتلاشى الظل، والشيء الوحيد الذي يحق له الادعاء بوجود مستقل هو نوع من الاتحاد والاندماج بينهما والمعروف في عالم الفيزياء بمفهوم الزمكان. إن هذا النسيج الطيع والمرن élastique الذي يمكن تغيير هندسته géométrie بفعل قوة ثقالة أو جاذبية النجوم والكواكب والمادة المرئية، هو الذي قاد إلى ولادة الزمكان وقد أسدى هذا المفهوم خدمة كبيرة خلال بضعة عقود بيد أنه ليس مستبعداً أن نكتشف أنه لم يكن في الواقع سوى وهم إذا ثبتت صحة النظرية البديلة التي يقترحها بيتر هورافا العالم والأستاذ في جامعة كاليفورنيا في بريكلي. فهذا العالم ينوي تمزيق هذا النسيج وهو بذلك يمزق وحدة الزمن والمكان ليخلق على أنقاضهما نظرية توحيدية تجمع بين عالم ميكانيك الكم ـ الكوانتا والثقالة أو الجاذبية. ويريد تسميتها بنظرية الثقالة الكوانتية La gravitation quantique وقد أحدثت النظرية الكثير من اللغط والسجال العلمي بين مؤيدين ومعارضين. فقد عانى الوسط العلمي منذ عقود طويلة من معضلة الجمع بين نظريتي النسبية ، التي تصف الجاذبية على مستوى اللامتناهي في الكبير ، وعلى صعيد الكون المرئي، ونظرية الكم أو الكوانتا التي تصف العالم ما دون الذري واللامتناهي في الصغر وتصف الجسيمات والقوى الذرية الجوهرية ما عدا الثقالة أو الجاذبية . فبالنسبة لنظرية الكوانتا، إن المكان والزمن يمثلان إطار ساكن statique تتنقل بداخله الجسيمات، أما في نظرية آينشتين النسبية ، فليس فقط يتعذر الفصل بين المكان والزمان فحسب، بل إنهما مرتبطان ببعضهما وإن للفضاء الناجم عن اتحادهما متغير variable لأنه مقولب أو منمذج modelé بالأجسام والأجرام التي يحتويها les corps وإن الربط بين النظريتين بنظرية واحدة هي الثقالة الكوانتية gravitation quantique ، وبطريقة محكمة ومقنعة، من شأنه أن يسمح لنا فهم ما حدث فور وقوع الانفجار العظيم، وكذلك ما يحدث بالقرب من الثقوب السوداء، حيث تكون قوة الثقالة أو الجاذبية هائلة . والمعروف أن إحدى نقاط الصراع بين النظريتين تتمثل بثابت الجاذبية أو الثقالةLa constante de gravitation والمعروف بحرف G الذي يمثل قوة الجاذبية التي تحصل بين جسمين فيزيائيين. وفي المستويات الكبرى مثل النظام الشمسي والكون المرئي، فإن معادلات النسبية العامة تعطي قيمة لـ G تتطابق مع نتائج المراقبة والرصد ولكن عندما نتواجد في المستويات الصغرى لم يعد بوسع النسبية العامة أن تغطي على التموجات والتقلبات الكوانتية fluctuations quantique للزمكان وعندما نأخذها بعين الاعتبار والحسبان فإن الحسابات المتعلقة بثابت الثقالة G تعطي نتائج شاذة bizarres وتجعل التنبؤات والتكهنات مستحيلة. وقد بحث هورافا عن وسيلة لتشذيب معادلات آينشتين وعثر على إلهامه في ميدان فيزياء المادة الكثيفة La matière condensée وفي مجال مادة قلم الرصاصLa Mine de crayon à papier فعندما نسحب مادة الغرافيت graphite الرمادية ونشذب أو نقلم tendre الرصاص min نعثر على طبقة رقيقة من ذرات الكاربون المسماة غرافين graphène تهرب أو تتسلل filent على سطحها الالكترونات بطريقة الانزلاق. وعندما نقرب الغرافين graphène إلى درجة حرارة قريبة من الصفر المطلق zéro absolu ـ C°– 273 ينجم عن ذلك شيء مدهش وهو تسريع الالكترونات لسباقها بصورة مثيرة جداً . وهذا ما شحذ مخيلة هورافا . فإحدى الأفكار المركزية لنظرية النسبية هي أن للزمكان خاصية تسمى تماثل أو تناسق لورنتز symétrie de Lorentz : حيث أن سرعة الضوء تبقى هي نفسها بالنسبة لجميع المراقبين مهما كانت السرعة التي ينتقلون بها في حين أن الزمن والمسافات تتقلص بنفس النسبة. وإن ما أثار هورافا في الغرافين graphène هو أن مبدأ تماثل أو تناسق لورنتز symétrie de Lorentz لايظهر دائماً. وتساءل هذا العالم الموهوب فيما إذا كان نفس الشيء لا يكون دائماً حقيقياً في كوننا المرئي، عند ذلك ارتكب ما لا يسمح التقرب منه أو يمنع التلاعب به ألا وهو المس بمعادلات آينشتين وتعديلها على نحو يقود إلى إلغاء تماثل أو تناسق لورنتز symétrie de Lorentz . ثم أجرى تعديلاً كبيراً آخر . فنظرية آينشتين لا تعطي اتجاهاً محدداً للزمن ، من الماضي نحو المستقبل على سبيل المثال، في حين أن كوننا المرئي كما نراه ونرصده ونراقبه يبدو أنه يتطور بهذا الاتجاه الوحيد فقط ، فتجرأ العالم بيتر هورافا أن يعطي للزمن اتجاهاً تفضيلياً ـ طبعاً على المستوى النظري ـ وبعد أن أنجز هذه التغييرات اكتشف أن بوسع ميكانيك الكم أو الكوانتا mécanique quantique أن يصف الجاذبية أو الثقالة في مستويات ميكروسكوبية بدون أن تظهر النتائج العبثية التي تم الحصول عليها في المحاولات السابقة. إن هذا التحول هو الذي شحذ مخيلة هورافا حيث صار يمتلك فجأة عناصراً جديدة لتغيير سلوك الثقالة أو الجاذبية على مسافات صغيرة جداً . كما أن من شأن نظرية الثقالة الكوانتية La théorie de gravitation quantique لهورافا أن تساعد على حل اللغز العتيد المتعلق بالمادة السوداء. إن حركة النجوم والمجرات المرصودة من قبل علماء الفلك والفيزياء الفلكية يبدو أنها تنطوي على وجود كميات كبيرة جداً من المادة في كوننا المرئي أكثر بكثير مما يبدو ظاهرياً بعبارة أخرى إن المجرات وحشود المجرات تتفكك se désagrégeraient إذ أن هذا الاستنتاج ناجم من معادلات أفرزتها نظرية النسبية العامة. وماذا لو كانت نظرية هورافا بعيدة عن الواقع؟ هذا ما دفع العالم الياباني شينجي ميكوهياما shinji Mukohyama من جامعة طوكيو إلى استخراج معادلات هورافا لفحصها وتجريبها رياضياً فاكتشف أنها تتضمن تنوعاً variable متغيراً غير موجود في المعادلات التي افرزتها نظرية النسبية العامة وإن هذا المتغير الإضافي variable supplémentaire ينتج بالضبط تأثيرات Les effets المادة السوداء . ووفق قيمته يمكننا ألا نأخذ بالحسبان إجمالي l’intégralité المادة السوداء في المعادلات. كما أن الطاقة السوداء L’énergie noire تشكل مشكلة عويصة وأكثر تعقيداً. فتمدد وتوسع الكون المرئي بدأ بالتسارع منذ مليارات السنين، ولتفسير هذه الظاهرة افترض العلماء وجود طاقة ملازمة inhérente لفراغ الزمكان أسموها بالطاقة السوداء . والحال أن هناك إشكالية. فحسب نظريات فيزياء الجسيمات فإن قوة الطاقة السوداء أكبر 120 مرة من قوة الطاقة المرصودة والملموسة ولم يكن بوسع نظرية النسبية العامة تفسير هذا الاختلاف الكبير في القوة بين نوعي الطاقة المذكورين. وهنا أيضاً يمكن لنظرية هورافا أن تنجدنا فهي تتضمن ثابتاً paramètre يمكن أن يشذب حتى نتمكن من أن نقلل أو نقلص الطاقة السوداء إلى قيمة إيجابية صغيرة petite valeur positive بالتوافق مع سرعة النجوم والمجرات. فهل سيسمح الوسط العلمي يوماً ما بتجاوز مسلمات ومعادلات نظرية آينشتين ونظرية الكم، خاصة فيما يتعلق بالثوابت كسرعة الضوء التي أثبتت تجارب مختبرية حديثة أنها يمكن تجاوزها ولكن ليس في إطار مجموعتنا الشمسية .
 

  العودة الى الصفحة الرئيسية

Google

 


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com