|
الزقورة المهجورة
وأخيرا سمحت لي الظروف الحسنة بزيارة زقور الحضارة السومرية القديمة, والوقوف على أطلال أقدم معابد كوكب الأرض, وأكثرها أهمية منذ تاريخ فجر السلالات, كانت زيارتي الأولى لها عصر يوم مبارك من حيث الترتيب الزمني والرقمي, فقد جاءت زيارتي لها في اليوم العاشر من الشهر العاشر من العام العاشر بعد الألفين. أحسست برهبة كبيرة عندما وقفت خارج بوابة المنزل الذي ولد فيه سيدنا إبراهيم عليه السلام, فصحت بصوت مخنوق متهدج: السلام عليك يا أبو الأنبياء, السلام عليك يا خليل الله, السلام عليك يا عبد الله ورحمة الله وبركاته, ثم تسلقت السلم الملكي إلى أعلى الزقورة الهرمية الأضلاع, ووقفت في المكان الذي وقف فيه الملك و(الإله) السومري (أورنمو), ووجهت وجهي نحو القبلة حيث البيت الحرام, فقرأت هذه الآية من سورة البقرة: (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليمُ), وكأني أحاور الذين تآمروا هنا على سيدنا إبراهيم قبل أكثر من أربعة آلاف سنة, ورموه في النار التي أضرموها في هذا المكان, فكانت عليه بردا وسلاما, فأنزل الله عقابه على القرى العاصية, واهلك القرون الأولى, ولم يعد للإله (شولكي) أي أثر في معبد (دبلان ماخ), سوى عظامه البالية المبعثرة, أليس في ذلك ذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ؟, فوجدت نفسي من حيث لا أدري اردد قراءة الآية الأخيرة من سورة إبراهيم (هذا بلاغٌ للناسِ وليُنذروا به وليعلمُوا أنَّما هو الهٌ واحدٌ وليذَّكَّرَ أُولوا الألبابِ), ثم وقع بصري على الأفق الجريح لأرى بادية (تل اللحم) مازالت ترزح تحت أقدام الغزاة, وقد شقلبوا اسمها إلى (طُليل), من دون أن يعترض احد, فشعرت بحزن عميق عندما وجدت روائع آثارنا وكنوزنا ترتمي بين ثكنات الفيالق الأمريكية, التي تجحفلت في هذا المكان, فبنت لها معسكرات منظمة, وقاعات ومطاعم مرفهة, حتى بدت لي وكأنها منتجعات صحراوية كبيرة مقامة في العراء على مد البصر, شيدها أثرى الأثرياء في لتأمين راحة جند الاختلال, ترى ما الذي ستكون عليه أحوال أور وزقورتها لو حصلت مديرية الآثار في ذي قار على النزر اليسير من تلك الأموال المبعثرة في البراري ؟, وما المانع من أن تكون اهتماماتنا بتاريخنا وماضينا وحضارتنا بمستوى اهتمامات الامريكان بمتعتهم وراحتهم ؟؟. أنها مجرد تساؤلات عابرة حدثتني بها الأحجار المرمية في الحفر وفوق التلال. بيد أن دوي موسيقى الجاز, المنبعثة من مكبرات الصوت وسط معسكرات جنود المارينز قطعت سلسلة أفكاري وبددتها في الفضاءات المفتوحة, وكانت قعقعة أغاني الراب تنتهك حرمة المكان, فتسلخه من سكونه الأبدي الكامن في جوف الصحراء, بينما راحت طائرات الاستطلاع الصغيرة تحلق فوق الزقورة من دون طيار, لتستكشف المنطقة بعيونها الالكترونية المبحلقة, فتضيف للزقورة صخبا وضجيجا مزعجا بأزيزها وتبخترها. واصلت تجوالي حول بقايا المقبرة السومرية, وتنقلت بين غرف القصور الملكية المبنية بالقار والآجر, وكنت اشعر أثناء تجوالي بوجود من يراقبني من بعيد, ويرصدني ببصره الثاقب. كان الرجل يحوم حولي, ويتعقب تحركاتي خطوة خطوة من دون أن ينبس ببنت شفة, اقتربت منه وألقيت عليه التحية, فعرفت انه من حراس الموقع التابعين لمديرية الآثار, وان اسمه (غني بن محسن بن نعيس) من قبيلة (آل غزي) وهي من القبائل العربية الأصيلة, التي نزحت من الحجاز إلى جنوب العراق, وانه وأشقائه توارثوا الحراسة, وعملوا هنا منذ بدايات القرن الماضي, فطلبت منه مرافقتي في تجوالي, واكتشفت من خلال حديثي معه عن تاريخ الزقورة, أنه وعلى الرغم من بساطته وطبيعته البدوية, كان يتحدث بلغة العلماء, ويتصرف بأسلوب الخبراء, وانه يعرف الشيء الكثير عن خبايا وأسرار هذه الأماكن المزدحمة بالمشاهد التاريخية, فشعرت بفرح غامر, وشكرت مديرية الآثار على حسن اختيارها لهؤلاء الناس, الذين يتمتعون بالخبرة والأمانة, ويتميزون بالحرص الشديد في الحفاظ على هذه الكنوز الثمينة من العبث والضياع. كانت الزقورة شبه مهجورة, وشبه مهملة, فلم يكن بيد مديرية الآثار حيلة في غياب مستلزمات الدعم والإسناد والرعاية الكاملة, التي ينبغي أن توفرها الحكومة المركزية لهذه المديرية العتيدة, ثم ما الذي ستفعله هذه المديرية وحدها أمام هذا الكم الهائل من المواقع الأثرية, التي تعج بها ضواحي مدينة (ذي قار) ؟؟, وهل هي تمتلك الميزانية المالية, التي تؤهلها للنهوض بواجباتها, وتجعلها قادرة على تغطية نفقات صيانة القبور والقصور السومرية الضاربة في عمق التاريخ ؟؟, الجواب: كلا بالطبع, فلم اشعر خلال زيارتي للموقع بأي دعم مقدم إلى مديرية آثار ذي قار سوى مؤازرة قوة الإسناد والحماية, التي وفرها فوج طوارئ ذي قار الأول, بقيادة المقدم حازم محمد عبد الرزاق, ووحداته المدربة, التي ضربت طوقا أمنيا مسلحا حول مقتربات الزقورة, ووزعت نقاط الرصد والمراقبة المشددة خارج الموقع, ونشرتها في الطرق المؤدية إلى الزقورة, وسجلت بهذا العمل نجاحا كبيرا في منع الخروقات والتجاوزات والانتهاكات المحتملة. ختاما نناشد مجلس محافظة ذي قار بضرورة رفع درجة الاهتمام بالزقورة إلى المستوى الحضاري اللائق, آملين أن يتبنى أعضاء المجلس الموقر حملة شعبية وعلمية واسعة تسعى لمطالبة الحكومة بتخصيص نسبة من ميزانيتها لتوفير أقصى درجات الرعاية الشاملة لكنوزنا الأثرية وتراثنا السومري العريق, وتوفر الدعم المطلوب للقائمين عليها. ومن الله العون والتوفيق. . .
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |