بعثي ... لم تتلطخ أياديه بدماء عائلتي ( 20 )

 

رزاق كاظم مطر ألحسناوي

 

 أضع ذكريات الآلام التي مرت عليّ أمام الشعب العراقي لتضاف إلى سجل القصص التي نشرتها الحركة الشعبية لاجتثاث البعث لبعض الضحايا والشهود الذين قُدر لهم أن يبقوا ليشهدوا على اكبر جريمة مرت على الإنسانية في بلاد مابين النهرين .القصة :

في نهاية العام الدراسي 1985 تخرجت من دار المعلمين ، وفور تخرجي صدر قرار انتدابي للتدريس في مدرسة ابتدائية تابعة إلى ناحية أبو غرق في محافظة بابل  .

ذهبت إلى المدرسة احمل كتاب التعيين ونفسي حلقت في أعلى درجات السعادة ، حيث سيتحقق حلمي بمزاولة التدريس مما سيساعد على اختار شريكة الحياة التي لا تفارقني أحلام الاقتران بها ...وها أنا في أول خطوات طريق تحقيق الأحلام والأماني .

تم تنسيبي على تدريس الشعبة ( أ ) صف أول ابتدائي ومادة الجغرافية للصف السادس الابتدائي ، شرعت بالتدريس ونفسي في منتهى الغبطة والفرح ، انقضى الشهر الأول من أحلى أيام حياتي وفي يوم الخميس 31/10/1985 وبعد انتهاء الدوام بعشرة دقائق تقريبا وخروج آخر تلميذ من الصف رأيت خمسة من الشباب أعمارهم مابين 20 – 25 سنة يركضون بخوف شديد من جهة تلاحقهم ولما اقتربوا مني حاولت أن استفسر عن الخبر ، أجابوني بأنهم زوار أبي عبد الله الحسين عليه السلام وهناك مفرزة من قوات الجيش الشعبي تلاحقهم وقد دخلوا القرية لأجل الاختفاء بين بيوتاتها المبعثرة , فبادرت وبسرعة إلى إخفاءهم في الصف وأقفلت الباب وذهبت مسرعا إلى غرفة الإدارة للتظاهر أمام مدير المدرسة بوضع المفاتيح في محلها , إلا إني لم أضعها بل أخفيتها في جيبي لأجل الرجوع إلى الشباب وتحريرهم بعد زوال الخطر .

لم يكن للمدرسة سور يفصلها عن الجوار وبمجرد خروجنا من الإدارة متوجهين إلى بيوتنا حيث كان مدير المدرسة يوصلنا بسيارته الخاصة مقابل أجرة شهرية ندفعها له وبعد اقل من مئة متر عن المدرسة باتجاه الشارع العام استوقفتنا مفرزة من البعثيين بلباس الجيش الشعبي كانوا يحتجزون مجموعة من الزوار المتوجهين إلى كربلاء لأداء مراسيم زيارة الأربعين وكانوا ثلاثة نساء وأربعة رجال مع أربعة أطفال احدهم كان رضيعا   .

قال رئيس المفرزة لمدير المدرسة هل رأيتم ( زوار ) في جوار المدرسة وحولها ؟

أجاب المدير بأنه لا يعلم بحركة الزوار في جوار المدرسة ولم يرى أحدا منهم .

قال له : بل نحن رأينا مجموعة اختفت قرب المدرسة ، فلابد من رجوعكم لأجل التفتيش .

قال المدير : لايمكن إجراء تفتيش للمدرسة لأنها مبنى حكومة .

قال له الظاهر انك تتفلسف هواية ... ارجع وافتح جميع غرف المدرسة لأجل التفتيش وألا ( امرغطك بهاي الجيحة ) – يقصد من هذه العبارة ( ألوثك  ببركة الطين ) .

فأضطر مدير المدرسة الى العودة لأجل إجراء التفتيش .

بقيت مع زملائي المعلمين في السيارة ونزل المدير ليفتح الصفوف وكان يرافقه لإجراء التفتيش سبعة بعثيين من قوات الجيش الشعبي ففتح جميع الصفوف إلا الصف الخاص بيّ لان المفاتيح كانت لازالت في جيبي ، حيث خططت للرجوع بعد الافتراق عن باقي زملائي المعلمين لأجل فتح الباب للزوار الذين أخفيتهم في الصف .

بعد إتمام التفتيش جاء المدير وسألني عن المفتاح فقلت له انه ليس معي وبعد جدال بين البعثيين والمدير جاء لي الرفيق خالد مشكور وسحبني من السيارة وأمر رفاقه بتفتيشي .

بمجرد أن وجدوا المفتاح هرولوا إلى فتح الصف ليجدوا الشباب المساكين الذين أخفيتهم فيه ، فصرت أنا المتهم بأخفاءهم .

حملوني مع الشباب في سيارة الدورية وتوجهوا بنا إلى مبنى المنظمة الحزبية في ناحية أبو غرق  وهناك تم التثبت من هويات جميع المعتقلين والتحقيق معنا .

مورست معي كل أنواع التعذيب التي تفنن البعثيون بابتكارها وبقيت عندهم إلى يوم السبت المصادف 2/11/1985 وفي الساعة العاشرة تقريبا حملوني في سيارة وتوجهوا بي إلى المدرسة التي اعمل فيها وأمروا مدير المدرسة بتجميع الطلاب والمعلمين في ساحة المدرسة وبعد أن تجمعوا ألقى المسؤول ألبعثي خطاب ذكر فيه خيانتي للوطن وللحزب والثورة وأمر أن يمر الطلاب فردا فردا أمامي للبصق على وجهي بما فيهم مدير المدرسة وزملائي المعلمين .

فباشروا بافتتاح حفل البصاق وصار التلاميذ الذين كنت أعلمهم القراءة والكتابة قبل يومين ، يبصقون في وجهي وأنا اقرأ الحسرة والدموع التي كانوا يكابدون من اجل إخفاءها وبعد ذلك أمر مدير المدرسة بانصراف الطلاب إلى صفوفهم من دون اخذ الإذن من المسؤول ألبعثي ، فاستشاط غضبا وأمر بإعادتهم ليضربوني بأيديهم على رأسي ( كفخة ) وفعلا تم مراده وبعد ذلك حملوني إلى مديرية امن بابل ليعيدوا عليّ كرّة التعذيب وليؤلفوا لي إفادة بأني كنت أقوم بنشر الفكر الخميني في العراق وأتعاون مع أعداء الحزب والثورة لتحكم عليّ محكمة الثورة بـ 15 سنة سجن .

قضيت سنة وأربعة اشهر في مديرية امن بابل رأيت فيها العجب العجاب من القصص المليئة بالآلام والعذاب منها ذلك السيد الوقور ( سيد هاشم ) لا اذكر بالضبط اسمه الكامل أوقفوه في الأمن على انه مشتبه بأنتماءه إلى منظمة العمل الإسلامية ، كانت نوبات التعذيب تنفذ عليه بعد الساعة العاشرة مساء كل يوم وبعد خمسة أيام من التحقيق مات السيد هاشم ذو الخمسين عام وبقيت جثته في باحة المديرية يوما كاملا ثم بعد ذلك قُطّعت أجزاء أمام مرأى جميع الموقوفين وأطعمت أوصاله إلى الكلاب .

بعد الانتفاضة الشعبانية أطلق سراحي بالعفو العام ورُحّلت إلى مركز تدريب الديوانية وبعد شهرين هربت إلى إيران ومنها إلى الصين وألان أعيش في شنكهاي الصينية منذ عام 1992 أكابد عذاب الغربة والحسرة على العمر الذي ضاع بين السجون وعذاب البعد عن الأهل والوطن

 
 

 العودة الى الصفحة الرئيسية

Google

 


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com