|
مفكر آخر من العمالقة الذين خسرهم العراق وأساء معاملتهم, اسمه المثبت في بطاقته الشخصية : عبد الرحمن بن عبد اللطيف بن حسن بن حمادي المعاضيدي. اغلب الظن أنكم لا تعرفونه, وربما سمعتم به من قبل, لكنكم لا تعلمون انه حل عميدا لمعهد الدراسات العربية العالي خلفا لعميد الأدب العربي الأستاذ الدكتور طه حسين, ولا تعلمون انه كان في يوم من الأيام أمينا عاما لمنظمة الأقطار المصدرة للنفط (أوبك) في اجتماعها التأسيسي, وأكاد اجزم أنكم لن تصدقوني أبدا إذا قلت لكم أن الرجل نفسه كان في القرن الماضي رئيسا للعراق في أعقاب وفاة الرئيس عبد السلام عارف, لكن رئاسته لم تدم سوى ثلاثة أيام فقط, وكان رئيسا للوزراء لعام كامل في أصعب المراحل, التي مرت بها السياسات العربية الناشئة, وعمل قبل هذا وذاك مدرسا ومحاميا, وقاضيا, وعميدا لكلية الحقوق, وعميدا لكلية التجارة والاقتصاد, ورئيسا لمحكمة البداءة في بغداد, ومستشارا قانونيا في الأمم المتحدة بنيويورك, ثم صار سفيرا ووزيرا, لكنه لم يكن بمنأى من بطش السلطات الحاكمة في العراق, ولم يكن بمنأى من ظلمها وافتراءاتها وتنكيلها وتعسفها, على الرغم من كل المواهب المعرفية الفذة التي يمتلكها, وعلى الرغم من مواقفه الوطنية المخلصة ونزاهته واستقامته, فقد انتهى به المطاف مرميا خلف قضبان معتقلات مدينة (الفاو) الغارقة في لجة البحر, وأمضى هناك ثلاث سنوات تعرض خلالها إلى أسوأ أنواع التعذيب والنفي والحرمان, غادر بعدها السجن ليواصل كفاحه الوطني الشاق, حتى ارتقى سلم المناصب الإدارية العليا, فتقاطعت أفكاره التطويرية وطموحاته الوطنية مرة أخرى مع أهداف المؤسسة العسكرية المتشددة, وتطلعاتها الضيقة, وتعرض إلى حملات قاسية من التجريح والاتهام بالرجعية شنها عليه خصومه, ولم تشفع له المناصب التي شغلها, ولا المراتب التي تبوئها, ولا الانجازات التي حققها, ولا المواقف التي سجل فيها تقدما عراقيا ملحوظا, فقد كانت مقصلة الإقصاء والنفي والتهميش بانتظار هذا المفكر الكبير, والعالم الجليل, والسياسي المحنك, والقائد المتزن, والإنسان المتفتح الذهن. كان هذا الرجل معروفا في المحافل السياسية والأكاديمية والمهنية باسم (عبد الرحمن البزاز), وهو من مواليد بغداد من عشيرة (الأسلم) من (شَمّر), وكان والدة من تجار القماش (بزاز), وكان عبد الرحمن, خلال مراحل دراسته الثانوية والجامعية, معروفا بين أقرانه من أبناء الكرخ بأفكاره الوطنية التحررية, وكان متمسكا بالقيم الدينية والمبادئ الأخلاقية التي نشأ عليها, مميزا بتواضعه, وبساطة مظهره ونمط حياته, ما أعطى الانطباع بان الرجل صادق في ما يدعو إليه. تأثر في سنواته المبكرة بآراء العلامة (محمد جواد الجزائري), والذي يقول عنه: انه أول زعيم روحي وضع مقدمات الثورة العراقية الكبرى, ودعا إلى تأسيس دولة عراقية مدنية مستقلة موحدة قائمة على القواعد الدستورية الرصينة. عُُرفَ عبد الرحمن البزاز بحرصه الشديد على إشاعة الحريات بين الناس, وسعيه الجاد للذود عن الحق, ورغبته الأكيدة نحو إرساء قواعد العدل والإنسانية, وكانت هذه المشاعر الوطنية الصادقة هي الروافد التي غذت أفكاره السياسية, وأنضجتها على الصعيد المحلي, وكان يرى أن ضمان حقوق الناس, وتوفير أمنهم واستقرارهم وسعادتهم هي البوصلات الاجتماعية التي تحدد مسارات الأحكام المنصفة, وترسم صورة القضاء العادل, ويرى في الحرية السلاح الذي ينبغي أن يتسلح به المعلم في مواجهة التحديات التربوية, وظلت هذه الشخصية المزدوجة (القاضي المعلم), أو (المعلم القاضي) تلازمه طوال حياته, وتكاملت نظرته النهضوية الصحيحة من خلال عمله المضني في سلك التعليم, وعمله التشريعي في أروقة القضاء, فصقلها على ارض الواقع بتنقلاته الوظيفية بينهما, حتى صار يرى أن الحق ينبغي أن يقال, لا في المحاكم أثناء النظر في القضايا فحسب, بل وفي كل قضية أو معضلة كانت تُعرض عليه, وفي أي موقع من المواقع الإدارية التي كانت تسند إليه, وحمل معه بذرة الحرية التي كان يعشقها, ويؤمن بها, حملها معه من المرحلة النظرية إلى المرحلة التطبيقية, وكان حين تتعرض الحريات المدنية لخطر جسيم يجد نفسه مطالبا في التصدي لذلك الخطر, مهما كانت النتائج المتوقعة. أني لأغضب للكريم ينوشه من دونه وألوم من لا يغضب لقد غضب عبد الرحمن البزاز لكل مواطن كريم, ولكل مطلب كريم, ولام من لم يغضب لغضب الناس ويتفاعل معهم, فاغضب بسلوكه السلطات الحاكمة في كل العهود, واستفزها بمواقفه الإنسانية النبيلة, فتعرض لسخطهم ونقمتهم وانتقامهم, وربما لتصفيته جسديا, لكنه أراح ضميره, وشعر بأنه أدى واجبه الوطني, وسلك سبيل الحق والحرية. فهل نستفيد من فكره وخبرته وتوجهاته المستقبلية, التي كان يسعى من خلالها لبناء العراق الحديث وفق رؤية تجمع بين الأصالة العراقية والحداثة بمعناها الايجابي ؟.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |