|
مع شهيد الطف (9) كربلاء كانت البداية أم النهاية؟ كربلاء كانت البداية أم النهاية؟
هل كانت فاجعة الطف الأليمة نهاية أم بداية؟ كثير من الناس يزعمون أن هذه الفاجعة كانت نهاية، لأن أهل البيت وفي طليعتهم حجة الله الإمام الحسين بن علي سبط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قد قتلوا بتلك الطريقة المأساوية الأليمة، التي لم ولن يأتي الزمان بمثلها، ولذلك يبنون كل حياتهم على هذا الاساس. فلأن الإمام الحسين عليه السلام قد قُتل واستشهد وسُبيت عياله وحريمه، اذن لا يمكن لأحد أن يجاهد في سبيل الله ويطالب بالحق لأن الإمام الحسين سلام الله عليه لم يستطع أن يقيم دولة الإسلام، فلن تقوم للإسلام دولة أبد الدهر. وهكذا تتسلسل في خيالاتهم حلقات الهزيمة والانطواء، ويكتفون بتخليد هذه الذكرى بأية طريقة ممكنة، لا لكي يتخذوا منها منطلقاً، وإنما لكي يتخذوا منها مبرّراً وعُذراً وتعلّلاً لكيلا يتحركوا ولا يعملوا شيئاً. فالإمام لحسين قُتل ونحن نبكي عليه ونقيم الشعائر المختلفة من أجل إحياء ذكراه ، ولا شيء وراء ذلك. تكامل مسيرة التاريخ ولكن الحقيقة هي على العكس من ذلك، ففاجعة الطف كانت البداية، فمنذ القطرة الأخيرة التي اُريقت من دم أبي عبد الله الحسين سلام الله عليه بدأت شجرة الاسلام بالحياة من جديد، وكان ذلك اليوم بداية الربيع، حيث إن عشرات الملايين من البشر اهتدوا بأبي عبد الله الحسين سلام الله عليه. وبدأت مسيرة التاريخ تتكامل وتتكامل، وتتحقق كلمة الرسول الأعظم، حيث قال صلى الله عليه وآله: "حسين مني وأنا من حسين". فالبداية كانت في تلك اللحظة التي وقفت فيها الصديقة الصغرى زينب الكبرى سلام الله عليها في يوم الحادي عشر من شهر محرم سنة احدى وستين للهجرة، على مصرع أخيها الحسين عليه السلام وألقت حديثاً أكّدت فيه على أن هذا المصرع سيكون عَلَماً وبدايةً للتاريخ، وسيجتمع المسلمون حول هذا المكان ليتخذوا منه منطلقاً للبعثة وتحولاً جديداً للاسلام، حيث قالت مخاطبة الإمام السجاد عليه السلام:(...لقد أخذ الله ميثاق أناس من هذه الأمة، لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض أنهم ... وينصبون لهذا الطف علماً لقبر أبيك سيد الشهداء، لا يُدرَس أثره، ولا يعفو رسمه على كرور الليالي والأيام، وليجتهدنّ ائمة الكفر وأشياع الضلالة في محوه وتطميسه، فلا يزداد أثره إلا ظهوراً وأمره إلا علواً...) وكانت سلام الله عليها صادقة، لأنها كانت تتحدث عن أبيها، عن جدها رسول الله، عن جبرئيل، عن الله سبحانه وتعالى، حديثاً ذا سلسلة ذهبية تتصل برب العزة. فبداية التحول أو التحول نفسه شمل قتلة الإمام الحسين عليه السلام، فهذا سنان، وهو أحد القتلة، يأتي برأس الحسين عليه السلام الى عمر بن سعد وهو يقول: أوقر ركابي فضـة أو ذهبـا إنـي قتلت السيـد المحجبـا قتلت خير الناس أمـاً وأبـا وخيرهم إذ ينسبون النسبا مما لا شك فيه إن هذا الرجل مصيره النار، وقد بدأ يعترف بجرائمه بحق خير الناس وهكذا تبدأ الاعترافات الواحدة تلو الاخرى، كلٌّ يقول ماذا فعل. ولذلك وبعد حوالي أقل من خمس سنوات من مقتل أبي عبد الله الحسين سلام الله عليه قام الصحابي الجليل سليمان بن صُرد الخزاعي بتلك الثورة العملاقة "ثورة التوابين". وكان سليمان عليه الرحمة آنذاك رجلاً طاعناً في السن، ناهز التسعين من عمره، ومع ذلك استطاع أن يعبئ أربعة آلاف شخص مستعدين للشهادة، وكانوا يجمعون السلاح في شوارع الكوفة، وينادون يا لثارات الحسين ، وكانوا أول من سقى الناس الماء مجاناً، وكانوا يقولون لمن يسقونه الماء: "إشرب والعن قاتل الحسين"، مع أن جلب الماء كان صعباً حينها لبُعد منابعه ومصادره عن المدينة، ولكنهم جمعوا -بهذا الاسلوب- الأنصار، وقرروا الذهاب الى الشام لمقاتلة الظلمة قاتلي الإمام الحسين عليه السلام، حيث استشهد معظمهم في معركة غير متكافئة. فهل كانت حركتهم بداية أم نهاية؟ إنها بداية تبعتها حركة المختار الثقفي، ثم حركة أهل المدينة التي عُرفت بواقعة "الحرة" والتي خلع فيها أهل المدينة بيعة يزيد والامويين من رقابهم، بعد أن عرفوا حقيقتهم، فأرسل إليهم يزيد عشرة آلاف رجل بقيادة "مسلم بن عقبة" أو كما يسميه المسلمون "مُسْرِف" لإسرافه في القتل واعتدائه على مدينة الرسول وصحابته والتابعين وهتك أعراضهم، فما استسلم أهل المدينة، بل حاربوا حرباً استشهادية فدائية؛ أي حرباً من نوع جديد، تعلّموها من ابي عبد الله الحسين سلام الله عليه. فـإذن هنا كانت البداية، ثم إنطلقت الثورات، والتي كان أبرز المشاركين فيها أعقاب الإمام الحسن سلام الله عليه، أبناء وأحفاد الحسن المثنى الذي شارك في معركة كربلاء ولم يُقتل، وإنما جُرح، فضلاً عن أبناء خاله وخالاته، وكان قد عولج وشفي. وقد نظم هؤلاء السادة الحسنيون حركات وثورات متلاحقة، لا يرد ذكرها في الأخبار عادة، وكانت الانظمة الحاكمة تُلقي هؤلاء الثوار في سجون رهيبة، هي عبارة عن حُفر يُلقى الطعام اليهم فيها من كوى صغيرة في الأعلى، وكانوا لا يميزون الليل من النهار في تلك الحفر، وكانوا يضبطون الأوقات عن طريق قراءتهم القرآن الكريم؛ أي إنهم كانوا يقرأون ثمانية أجزاء من القرآن مثلاً، حتى يحين موعد صلاة الظهر، ثم ثمانية أخرى حتى يحين موعد صلاة المغرب.. وهكذا فلا ليل ولا نهار، وإذا مات أحدهم لا يُدفن، بل يُترك في مكانه حتى يتحلّل، ثم يموت آخر، وآخر، يموتون جميعاً، فيهدم السجن على جثثهم ويصبح قبراً لهم. ورغم ذلك كانوا يثورون ويتحملون مسؤولياتهم الرسالية. حملة الرسالة وهكذا فقد حمل أولاد الإمامين الحسن والحسين عليهما السلام الرسالة والثورة، ليس من الجانب الجهادي وجانب حمل السلاح فقط، بل ومن جانب العبادة والعلم وتبليغ الرسالة وقيادة الامة في مختلف المجالات أيضاً. إذن؛ فكربلاء كانت البداية. والسؤال هو كيف أصبحت كربلاء البداية نهايةً في أذهان بعضنا مما جعلها وسيلة للتبرير والاعتذار عن العمل والتعلل؟ إنني أريد أن أستوحي الإجابة السليمة من خلال التدبر في بعض الآيات القرآنية. إن في كل حركة في التاريخ جانبين؛ جانب الهدم وجانب البناء، فانت إذا اردت ان تبني عمارة ضخمة، فلابد لك قبل كل شيء من أن تهدم العمارة السابقة المنهارة والخاوية على عروشها، وتسوّي الأرض وترسي القواعد وتبني تلك العمارة الضخمة التي تريدها، أليس كذلك؟ وكربلاء تضمنتى الرسالتين معاً؛ رسالة الهدم ورسالة البناء. وقد جاء الإمام الحسين سلام الله عليه بهاتين الرسالتين، فأعلن: لا ليزيد ولا لبني أمية ولا للطاغوت، وقال: "مثلي لا يبايع مثله"و"هيهات منا الذلة" وهذا يعني الهدم. أي هدم بناء بني أمية، ذلك البناء الجاهلي الفاسد. وكل حركة كانت في هذا الاتجاه كانت هدماً للطغيان الاموي، ولكن هل كانت كل الحركات للهدم فقط؟ كلا؛ بالطبع، فقد كان الى جانب هذا الهدم بناء، والبناء هنا يعني بناء الحركة. فالإمام الحسين أكد أيضاً أنه: لا ليزيد، نعم لولاية الله تعالى وولاية رسوله صلى الله عليه وآله، وولاية علي بن ابي طالب عليه السلام وولاية الإمام الحسن عليه السلام، وولاية الحسين نفسه، وولاية أولاده المعصومين. المشكلة أنه منذ ظهور الخوارج، ظهرت مجموعات من الناس لا تقول سوى "لا" وليس عندها "نعم" ! كانوا يقولون: "لا حكم إلا لله". ولكن الله هو الذي ينزّل الشرائع من السماء ويحكم، وقد لاحظنا عبر التاريخ أن الله يرسل أنبياءه ليحكموا ]وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بإِذْنِ اللّهِ [ (النساء:64)، ]وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَآءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً[ (النساء:64). إذن فالقصة قصة "لا" و"نعم"، لا للطاغوت، نعم للرسول، نعم للإمام. وحينما قال الخوارج: لا، حاربوا الإمام علي عليه السلام وحاربوا الإمام الحسين عليه السلام وحاربوا يزيد وحاربوا معاوية وحاربوا بني العباس… وبدا أنهم يجهلون ما يريدون! ثم حاربوا أنفسهم الى أن انتهوا وانقرضوا تقريباً. فلقد انهى السلب والنفي والرفض كل شيء لديهم حتى وجودهم. حركات ذات بعدين تعتبر حركة الاسلام حركة ذات بعدين، حيث بدأ الإسلام بكلمة "لا إله إلا الله". فحينما نقول "لا إله " فإننا نعني ألا يكون هناك وثن ولا صنم، ولا عبادة للشمس، ولا عبادة للنجم، ولا عبادة للطاغوت، ولا عبادة للقوم، ولا عبادة للعنصر، ولا عبادة للدم، ولا عبادة للوطن، ولا عبادة للأرض. أما حينما نقول: "إلا الله " فذلك يعني إننا نقول: نعم لله ورسوله وخلفائه وحزبه وجنده. في حين أن الخوارج أخذوا فقط "لا إله" وسكتوا، لأن الذي ينفي رسول الله ينفي الله، والذي ينفي خليفته علياً ينفي رسول الله، والذي ينفي الحسن ينفي علياً، والذي ينفي الحسين ينفي الحسن؛ أي ان الذي لا يقبل التالي ، إنما يرفض الاول تلقائياً، يرفضه ويتسلسل. وهذه الناحية الثانية ظلت عالقة في تاريخ الأمة مع الاسف، فقد تعمّقت حالة السلب دون تعميق حالة الايجاب، ولذلك أصبحت أمة سلبية، دون أن تكون أمة إيجابية بانية لتاريخها، اذن؛ كيف بُني التاريخ؟ أعلى درجات الإيمان لقد بُني التاريخ من خلال القرآن الكريم. فالقرآن الكريم يؤكد ويركز على حقيقة مهمة، وهي بصيرة التسليم. فلقد كانت من أعظم صفات النبي ابراهيم عليه السلام، صفة التسليم. والتسليم يعني القبول والرضا والطاعة والاتباع. ]وإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وإِسْمَاعِيلُ[ (البقرة:127) كان النبي إبراهيم يرفع القواعد واسماعيل يساعده ]رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ[ (البقرة:127-128)، والاسلام يعني التسليم والرضا المطلق. حينما وُضِع النبي إبراهيم عليه السلام في المنجنيق ورُمي به، تلقّاه جبرئيل في الهواء فقال: هل لك من حاجة؟ قال: أمّا اليك فلا، حسبي الله ونعم الوكيل، فاستقبله ميكائيل فقال: إن أردت اخمدت النار فانَّ خزائن الامطار والمياه بيدي، فقال: لا أُريد، وأتاه ملك الريح، فقال: لو شئت طيرّت النار، قال: لا أُريد، فقال جبرئيل: فاسأل الله! فقال: حسبي من سؤالي علمهُ بحالي. إن النبي إبراهيم عليه السلام يطلب من الله أن يجعله من المسلمين؛ فالإسلام درجة أعلى من كل الدرجات. ]رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا اُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْـتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَـةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَمَن يَرْغَبُ عَن مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ[ (البقرة:128-130). تُرى كيف اقتضى الاستنتاج القرآني أن من لا يرغب بسلوك طريق النبي ابراهيم عليه السلام أن يكون من السفهاء؟ الجواب: ]وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا[ (البقرة:130)، لأن الله اصطفى إبراهيم عليه السلام، وكان أفضل الخلق في عصره؛ ]وَإِنَّهُ فِي الاَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ[ (البقرة:130)، لانه حينما ]قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ[ (البقرة:131)، أي إرضَ بكلام الله، ]قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ[ (البقرة/131)، أي إنه لا يوجد لدي اعتراض على الله، فأنا مستعد لتنفيذ ما يأمر به. هكذا هي ملة النبـي إبراهيم، وهي ملة الانبياء جميعـاً : ]وَوَصَّى بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ[ (البقرة:132)، هذا الخط الممتد من النبي إبراهيم الى رسول الله، يدعو كله الى كلمة واحدة وهي كلمة الإسلام؛ أي التسليم والرضا المطلق. ]يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُسْلِمُونَ[ (البقرة:132). أي مسلمون لرب العالمين. وهكذا تتسلسل الآيات. وحينما تكون الأمة مسلمة، فهي تهدم العدو وتبني الصديق، لأن الاسلام يقتضي التسليم للقيادة والأوامر والاحكام الشرعية، وأيضاً رفع الاختلافات. وقد قال ربنا في آية اخرى: ]فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ[ (النساء:65)، أي يجعلوك حاكماً فيما نمى بينهم من الخلافات والصراعات، ]ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً[ (النساء:65). إن القضايا المتواضعة التي تفتّتنا هي سبب تخلفنا، وهي في الواقع جراثيم تتكاثر وتتكاثر الى أن تصبح خلافات وصراعات ضخمة. إن تعبير القرآن الكريم تعبير بليغ، فهو يقول: ]فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ[، ولو ان المتخاصمين ذهبوا منذ الوهلة الاولى لبروز الخلاف الى النبي صلى الله عليه وآله وحسموه، لما تحول هذا الخلاف الى أنهارٍ من الدم ومعولٍ لهدم الأمة والحضارة. نحن يجب ان نبني، وعلينا ان نأخذ من واقعة كربلاء منطلقاً للبناء، وذلك بتكريس حس الولاء لأهل البيت عليهم السلام في أنفسنا؛ بحيث نوالي أهل البيت عليهم السلام ونوالي أولياءهم، ونعادي اعداءهم.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |