حقوق الإنسان ثقافة إنسانية
 


محمد ناجي
muhammednaji@yahoo.com

على الرغم من كثرة ترديد مفهوم حقوق الإنسان ، إلا انه لم يترسخ بعد في المجتمع والعقل العراقي والعربي ، لأسباب عديدة عملت ولا زالت لصالح سيادة ثقافة السلطان . فلا يزال المجتمع يعيش ويتحرك على أساس أن (السلطان ظل الله في الأرض) . والسلطان ، كما هو معروف ، له أتباع وجلاوزة من الكتّاب والشعراء وغيرهم يدافعون عن سياساته ويروجون أفكاره ويزينوها للناس ، وهؤلاء يسميهم الكواكبي (المتمجدين) ، وهم ذات الذين تحدث عنهم الدكتور علي الوردي في كتابه (وعاظ السلاطين) .

تحالف المصلحة والمنفعة المتبادلة بين الطغاة ، كبروا أم صغروا ، ووعاظهم له دور مؤثر وحاسم في تشويه مفهوم وثقافة حقوق الإنسان ، وفي إشاعة كل ما ينفر ويبعد الناس عن هذا المفهوم والثقافة . ومن جملة ما أشاعوه ، مثلا ، أن حقوق الإنسان مفهوم غربي يتعارض مع ثقافتنا وتقاليدنا وديننا ، وهذا كلام غير صحيح ومردود عليهم ، ففي موروثنا الثقافي ما يؤيد أنها ثقافة إنسانية عالمية ، وأننا كعرب ومسلمين وشرقيين لنا دور ومساهمة في هذه الثقافة ، نجح الحكام ووعاظ السلاطين بمهارة في التعتيم عليه وتهميشه وتغييبه في خزائن موصدة الأبواب ، والويل لمن يجرأ على الإشارة إليه والخوض في تفاصيله . إن ثقافة حقوق الإنسان المعاصرة ، التي يمثل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر بتاريخ 10/12/1948 ، وبقية المواثيق والعهود والإتفاقيات التي تبعته ، ركيزتها الأساسية ، لم تظهر فجأة أو من الفراغ ، بل مرت بمراحل وتطورت مع تطور البشرية . والمتابع يجد إرهاصاتها لدى شعوب وحضارات العالم القديم ، وفي دياناتهم السماوية وغير السماوية ، فكانت على شكل أفكار وتعاليم وحِكَمْ ، دعت إلى الحق والعدل والمساواة بين البشر والحرية ومكارم الأخلاق ، تبلورت لاحقا في نصوص مدونات وشرائع ، وبعدها وثائق وإعلانات ، وصولا إلى نصوص قانونية واضحة تحدد شكل العلاقة ليس بين أفراد المجتمع فقط ، بل أيضا بين السلطة والمواطن ، تضمنتها دساتير الدول وقوانينها ، وأصبحت ملزمة لحكوماتها ، ومنها حكومات الدول العربية ، التي وقعت كلها من دون استثناء ، على الأقل ، على أحد مواثيق حقوق الانسان .

ففي الصين القديمة كانت هناك تعاليم كونفوشيوس قبل 2500 ق. م. والتي قال فيها (( لا تفعل مع الآخرين ما لا تريد أن يفعلوه معك )) . وفي سومر وبابل وجدت تعاليم أوركاجينا ، حاكم مدينة لجش ، التي وردت فيها كلمة " الحرية " لاول مرة في تاريخ البشرية ، كما سن قوانين حمى فيها الضعفاء من ضروب الابتزاز ، ووضع الشرائع التي تحول دون اغتصاب الأموال والأملاك . وجاءت (قوانين حمورابي) (2130- 2088) ق. م. واعطت الزوجة (مثلا) حقوقاً عديدة ، من بينها حقها في طلب الطلاق من زوجها ، وحقها في التجارة وتملك المال . وقد نصت المادة 148 (( ليس للزوج أن يطلق زوجته المريضة بل عليه أن يعيلها طالما هي على قيد الحياة ولكن له أن يتزوج بأمرأة أخرى )) . ومن النصوص المميزة ماورد في المادة 175 : (( يحق للعبد أن يتزوج امرأة حرة ويكون أبناؤهما أحراراً )) .

وإذا كانت شرائع بابل قد إفتقرت إلى ما يفيد وجود حق للفرد على الحاكم والدولة ، ولم يوفر القانون للناس الحماية السياسية ، فقد وفر لهم في عدد من المواد الحماية الاقتصادية : (( إذا ارتكب رجل جريمة السطو وقبض عليه ، حكم على ذلك الرجل بالإعدام . فإذا لم يقبض عليه كان على المسروق منه أن يدلي ، في مواجهة الإله ، ببيان مفصل عن خسائره ؛ وعلى المدينة التي ارتكبت السرقة في داخل حدودها والحاكم الذي ارتكبت في دائرة اختصاصه أن يعوضاه عن كل ما فقده . فإذا أدى السطو إلى خسارة في الأرواح دفعت المدينة ودفع الحاكم تعويضا إلى ورثة القتيل )) .
وفي مصر الفرعونية كانت مدونة أو (قانون بوخوريس) ، أحد ملوك الأسرة الرابعة والعشرين (718 – 712 ) ق. م. التي ورد فيها حق المرأة المتساوي مع الرجل في وجوب الموافقة والقبول في عقد الزواج ، والحق المتساوي في طلب الطلاق ، والمساواة في الإرث دون تمييز بين الذكر والأنثى ، وأيضا على إلغاء نظام إسترقاق المَدين بسبب الدَيْن ، وجعله مسؤولا عن دَيْنه في ماله فقط دون جسمه .

ويرى بعض المؤرخين أن بوخوريس قد تاثر بمدونات بلاد الرافدين ولاسيما شريعة حمورابي ، وأن (قانون سولون) اليوناني قد تأثر بمدونات مصر القديمة ولاسيما مدونة بوخوريس . وتبعه قانون (الألواح الإثنى عشر) الروماني الذي تأثر (بقانون سولون) واخذ منه .

وفي بلاد فارس هناك مدونة يعدها الكثيرون ، وفقا لما ذكرته الأمم المتحدة في الذكرى 60 لصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ، أول وثيقة لحقوق الإنسان ، وهي الوثيقة المسماة (مرسوم كورش) 529 ق.م. ورد فيها : (( الآن وقد وضعت فوق رأسي تاج مملكة فارس وبابل وأمم الأقطار الأربعة بعون من مازدا أعلن ما يلي : .... سوف احترم أديان وعادات ومعتقدات الشعوب التي نصبت ملكا عليها ، ولن أسمح أبدا لأي من حكامي والتابعين لي أن يتعالى على الآخرين أو يؤذيهم .... لن أفرض حكمي أبدا على أية أمة طوال حياتي .... وإذا كان هناك شخص ضعيف أو مضطهد فسوف أدافع عنه وسوف أسترد له حقه وأنزل العقاب بالمضطهِد .... لن أسمح ابدا لأي شخص أن يستولي على ممتلكات الآخرين بالقوة أو بأي وسيلة ظالمة أخرى دون تعويض مناسب ، إنني اعلن اليوم إن كل إمرؤ حر في إختيار الدين والعادات التي يفضلها وأن يحيا أينما شاء ، وأن يعبد ما يؤمن به ، وأن يقوم بخدمة معتقداته ، وأن يشغل وظيفته بشرط أن لا ينتهك أبدا حقوق الآخرين .... وطالما أنا على قيد الحياة لن اسمح لأحد أن يتاجر في الرجال والنساء كعبيد ، لابد من وضع حد لهذا العمل في العالم كله ....))

أما بالنسبة للعرب ، فكان لديهم (حلف الفضول) الذي أبرمته القبائل العربية في حوالي عام 590 الميلادي ، والذي ورد ذكره في أحد وثائق الأمم المتحدة كأول التحالفات المتعلقة بحقوق الإنسان . وقد ذكر حلف الفضول إبن الأثير في الكامل في التاريخ ، واليعقوبي في تاريخه وايضا جواد علي في المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام . وإذا كان هناك خلاف حول مناسبة وسبب التسمية فإن هناك إتفاق على إن المتحالفين قد إتفقوا (( على أن لا يظلم أحد بمكة ، وأن ينصروا المظلوم ويأخذوا له حقه ممن ظلمه)) ، وقال فيهم عمرو بن عوف الجرهمي :

إنَّ الفضول تحالفوا وتعاقدوا …. ألا يُقرّ ببطـن مكـة ظالمُ

أمرٌ عليه تعاهدوا وتواثقوا ….. فالجارُ والمعترُّ فيهم سـالمُ
وقد قال الرسول الكريم محمد (ص) في حلف الفضول ، بعد البعثة النبوية : (( حضرت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما يسرني به حمر النعم ، ولو دعيت إليه اليوم لأجبت)) .

وقد تطورت هذه الثقافة بعد ظهور الإسلام ، رغم أن بين حكام اليوم ورجال الدين ومثقفي الإسلام السياسي من يريد أن يضعه بالضد من هذه الثقافة والحركة ، أو يرونه سابق عليها وأكثر شمولا منها ، ويضعونه فوقها ، وهم في الواقع اليومي لا يؤمنون ولا يلتزمون حتى بما يدّعون ، بل يستخدمون هذا الإدعاء كمبرر لتجهيل المواطن ، وغطاء للتجاوز عليه وإنتهاك حقوقه ! فما ورد في كثير من آيات القرآن الكريم ، تدعو لإحترام الإنسان وكرامته والى العدل والمساواة ، وهي في الأعم الأغلب لا تتناقض مع المواثيق الدولية التي تحولت إلى نصوص قانونية محددة ، منها على سبيل المثال (( ولقد كرمنا بني آدم)) و(( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة )) و (( ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن اكرمكم عند الله اتقاكم)) وأيضا (( من قتل نفسا بغير نفس او فساد في الارض فكأنما قتل الناس جميعا ، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا)) وكذلك (( لا إكراه في الدين )) و (( إدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ) و (( إن الله يأمر بالعدل والإحسان )) ......

وللرسول الكريم مواقف وأحاديث كثيرة تعزز هذا الإتجاه منها : (( الناس سواسية ``كأسنان المشط )) وأنه (( لا فرق بين عربي وأعجمي إلاّ بالتقوى )) و (( لا فضل لابن البيضاء على ابن السوداء إلاّ بالحق )) و (( ما آمن بالله من بات شبعانا وأخوه جائع )) و (( لن‏ تقدس أمة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير متتعتع )) و (( كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته )) وايضا (( عدل ساعة خير من 60 سنة عبادة )) .
وتبعه الخلفاء الراشدون فجاء في خطبة أبي بكر عند توليه الخلافة سنة 11 هج (( أما بعد أيها الناس فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم ، فإن أحسنت فأعينوني ، وإن أسأت فقوموني ، الصدق أمانة ، والكذب خيانة ، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله ، والقوى فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله ...)) . وبعده عمر بن الخطاب ومقولته الشهيرة لعمرو بن العاص : (( متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ؟)) وكذلك عهده لأبي موسى الأشعري 14هج المتضمن شروط القضاء : ((أما بعد فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة فافهم إذا أدلي إليك فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له ، وأس بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك ، حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك . البينة على من ادعى واليمين على من أنكر ....)) .

أما علي فيعجز هذا المقال عن الإحاطة بمواقفه التي مثلت مدرسة للعدل والحق والإنصاف . وقد إشتهر بأكثر من قول وموقف ، منها ما تضمنته رسالته إلى مالك الأشتر حين ولاه على مصر ، والتي أصطلح على تسميتها - عهد الأشتر- والتي سماها جورج جرداق ( دستور ابن ابي طالب ) ومما جاء فيها : (( وأشعر قلبك الرحمة للرعية ، والمحبة لهم والالفة اليهم ، ولا تكن عليهم سبعاً ضارياً تغنم أكلهم فانهم صنفان : إما أخ لك في الدين أو نظير في الخلق .... وإنما يؤتى خراب الأرض من إعواز أهلها ، وإنما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع ، وسوء ظنهم بالبقاء ، وقلة انتفاعهم بالعبر ..... إياك والدماء وسفكها بغير حلها ، فإنه ليس شي‏ء أدعى لنقمة ولا أعظم لتبعة ولا أحرى ‏بزوال نعمة وانقطاع مدة من سفك الدماء بغير حقها والله سبحانه ‏مبتدى‏ء بالحكم بين العباد فيما تسافكوا من الدماء يوم القيامة . فلا تقوين سلطانك بسفك دم حرام فإن ذلك مما يضعفه ويوهنه بل ‏يزيله وينقله . وإياك والاستئثار بما الناس فيه أسوة ، والتغابي عما يعنى ‏به مما قد وضح للعيون فإنه مأخوذ منك لغيرك . وعما قليل ‏تنكشف عنك أغطية الأمور وينتصف منك للمظلوم . املك ‏حمية أنفك ، وسورة حدك ، وسطوة يدك ، وغرب لسانك )) . وله أيضا في إحدى خطبة : (( أيها الناس إن آدم لم يلد عبدا ولا أمه ، فالناس كلهم أحرار )) . وورد قوله أيضا : (( من أقر عن تجريد او حبس او تخويف او تهديد فلا حد عليه )) .
وعلى هذا النهج سار علي بن الحسين (زين العابدين) ، حفيد علي بن ابي طالب (ت95 هج) ، وتميز عن غيره بنص خاص يسمى (رسالة الحقوق) ضمنها 50 حقاً تبدأ بحق الله الأكبر وتنتهي بحق أهل الذمة ، الذي ختمه بذكر الحديث الشريف (( من ظلم معاهدا كنت خصمه)) .
وله غير هذا مواقف ومقولات تؤكد على قضية الحق والعدل منها : (( العامل بالظلم والمعين له ، والراضي به شركاء ثلاثة )) !
بمثل هذا وغيره الكثير ، تتواصل هذه الثقافة إلى ما كتبه أعلام (عصر النهضة) خاصة الشيخ الأزهري رفاعة الطهطاوي الذي ذهب في بعثة إلى فرنسا عام 1826 ، فكتب في (تخليص الإبريز في تلخيص باريز) عن الدستور الفرنسي : (( السجل المكتوب فيه الأحكام المقيدة ، فلنذكره لك ، وإن كان غالب ما فيه ليس في كتاب الله تعالى ، ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، لتعرف كيف قد حكمت عقولهم بان العدل والإنصاف من أسباب تعمير الممالك وراحة العباد ، وكيف إنقادت الحكام والرعايا لذلك ، حتى عمرت بلادهم ، وكثرت معارفهم ، وتراكم غناهم ، وإرتاحت قلوبهم ، فلا تسمع فيهم من يشكو ظلما أبدا ، والعدل أساس العمران )) . ثم يذكر عدد من مواد الدستور : (( المادة الأولى – سائر الفرنساوية متساوون قدام الشريعة . المادة الرابعة – ذات كل واحد منهم يستقل بها ، ويضمن له حريتها ، فلا يتعرض له إنسان إلا ببعض حقوق مذكورة في الشريعة وبالصورة المعينة التي يطلبه بها الحاكم . المادة الثامنة – لا يمنع إنسان في فرنسا أن يظهر رأيه وأن يكتبه ، ويطبعه بشرط أن لا يضر ما في القانون فإذا أضر أزيل)) . ثم يعود الطهطاوي ويكتب (( ولنذكر هنا بعض ملاحظات فنقول :
قوله في المادة الأولى : سائر الفرنسيس مستاوون قدام الشريعة ، معناه سائر من يوجد في بلاد فرنسا من رفيع ووضيع لا يختلفون في اجراء الأحكام المذكورة في القانون حتى ان الدعوى الشرعية تقام على الملك وينفذ عليه الحكم كغيره ، فانظر إلى هذه المادة الأولى فانها لها تسلط عظيم على إقامة العدل وإسعاف المظلوم ، وإرضاء خاطر الفقير بأنه كالعظيم نظرا إلى إجراء الأحكام )) .
وللأفغاني والكواكبي ومحمد عبدة وعلي عبد الرازق والشيخ محمد حسين النائيني ، وغيرهم كتابات لا تقل أهمية أكدت على مفاهيم العدالة والحرية والدستور وضمان الحقوق ، كان لها وقعها وتأثيرها ، رغم كل التهميش والتعتيم الذي مورس ضدها وضد رموزها .
في العقود الأخيرة ، وبتأثير التغيرات السياسية في المنطقة والعالم ، وتطور تكنولوجيا المعلومات ، التي حولت العالم بالفعل إلى قرية صغيرة ، تواصلت حركة وثقافة الحريات وحقوق الإنسان مع مثيلاتها في مختلف بقاع العالم ، ورغم ضعفها الذاتي ، فإنها ألقت بظلها على أكثر المتشددين والمعارضين لها ، الذين ليس لديهم غير إستخدام العنف ضدها حينا ، ورفع شعار الإسلام كلافته لا أكثر ، حينا آخر ، كمن رفع القرآن على رؤوس الرماح ! وهذا البيان الختامي للمؤتمر الخامس للفكر الإسلامي الخاص بحقوق الإنسان في الإسلام المنعقد في طهران شباط/فبراير 1987 ، نراه يتنقل بين التقليل من شان الحركة وبين إستخدام مفهومها والسعي للحاق بها ، في مفردات وفقرات طغى عليها بوضوح تأثير المكان والظرف السياسي ، وهو يعلن في التوصية (( اولا : لما كان الإسلام هو الدين الذي يوفر للمسيرة الحضارية سبيل سعادتها وحصولها على حقوقها كاملة – الأمر الذي لم توفره من قبل إعلانات حقوق البشر الأخرى – فإن المؤتمر يدعو كافة العلماء والمفكرين والمصلحين الإنسانيين لدراسة الإسلام دراسة متكاملة ليعوا الأسس الحقيقية للحقوق الإنسانية في الإسلام ، كما يهيب بالمجامع العلمية الدينية في البلاد الإسلامية وغيرها لفتح أقسام تحت هذا العنوان ويحبذ إنشاء معهد إسلامي عالمي لحقوق الإنسان في الإسلام )) . ويظهر هذا التأثير أكثر وضوحاً وإيجابية في توصيات ندوة حقوق الإنسان في الإسلام لمجمع الفقه الإسلامي – جدة 1996 ، حين توصي (( 1- التأكيد لأهمية مشاركة العالم الإسلامي بواسطة ممثليه وخبراءه في الملتقيات التي تتناول موضوع حقوق الإنسان ، للإسهام في صياغتها بصورة اساسية دون الإكتفاء بالنقد أو التعليق على التصورات الدولية بشأنها )) . والتوصية (( 9 – دعوة منظمة المؤتمر الإسلامي إلى النظر في إستصدار ملحقات لإعلان القاهرة الذي صدر عن المؤتمر الإسلامي لوزراء الخارجية سنة 1990 ، والذي حظي بالموافقة في مؤتمر القمة الإسلامي السادس بدكار ، ومؤتمر القمة الإسلامي السابع بالدار البيضاء ، تتناول تلك الملحقات الآليات والحقوق التي لم ترد فيه ولا في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ، مما يثبت تميز الإسلام وشموله واستيعابه لمراعاة الحقوق الإنسانية كافة)) . وعلى المستوى القومي العربي فقد صدر الميثاق العربي لحقوق الإنسان بموجب قرار من مجلس الجامعة العربية في 15 أيلول/سبتمبر 1997 ، وهو من 43 مادة وبخطاب وصياغة تقترب كثيرا جدا من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان .
وإذ وصلنا إلى قضية صياغة وكيفية صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ، فإن السجل التاريخي يكشف إن مسودة الإعلان قد حظيت بنقاشات جدية ومستفيضة شارك فيها عدد كبير من الدبلوماسيين من دول عديدة من بينها مصر والسعودية وسوريا ولبنان والباكستان والفليبين وكوبا وبولونيا والصين والهند والإتحاد السوفييتي . وكان شرف تقديم مقترح ميثاق حقوق الإنسان إلى الأمم المتحدة يعود إلى ريكاردو الفارو ، ممثل بنما في الجلسة الإفتتاحية للأمم المتحدة عام 1945 ، وحضر ومعه مسودة قانون للحقوق الدولية إقترح دمجه مع ميثاق الأمم المتحدة ، إلا أن الرأي إستقر على إصدار إعلان دولي للحقوق ، فتشكلت لجنة برئاسة اليانور روزفلت في كانون الثاني/يناير 1947 وعضوية 18 شخص من بينهم اللبناني شارل مالك ، مقرر اللجنة . وقامت اللجنة بتعديل نص المسودة وتدقيقه وتقديمه لمندوبي الدول للنقاش في جلسات يومية ، وتمت مناقشة كل تعديل ، وتم تقديم كل مادة في المسودة للتصويت المنفصل . وقد إمتد النقاش حول المادة الأولى مثلا لمدة 6 أيام ، والسجل الرسمي لمناقشات اللجنة يضم 900 صفحة ! وبعد سنتين أكملت اللجنة عملها في أوائل كانون الأول / ديسمبر 1948 ، وأحالت الإعلان العالمي إلى الجلسة الشاملة للجمعية العامة للأمم المتحدة لإجراء مراجعة إضافية قبل التصويت ، الذي حصل ليلة 10/12/1948 . وقد تم قبول 23 مادة من مواد الإعلان الثلاثين بالإجماع ، في حين إمتنعت دول جنوب افريقيا والمملكة العربية السعودية والكتلة السوفيتية عن التصويت ، وصوتت عليه بالتاييد 48 دولة ، ولم تعترض أي دولة عليه . وكما تكتب سوزان ولتز الأخصائية في حقوق الإنسان والشؤون الدولية في جامعة ميشيغان (( وإذ لم يلبّ مشروع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أحلام المتفائلين ، فإنه تجاوز توقعات المتشائمين )) .

ولم يكن العراق بعيدا عن هذه الحركة ، فقد كان حاضرا في جلسات النقاش والتصويت على الإعلان العالمي عام 1948 ، ووقّعت مختلف الحكومات العراقية على عدد من المواثيق الدولية ، آخرها إتفاقية مناهضة التعذيب عام 2008 . كما إن الدستور العراقي الذي تصدرته الآية الكريمة (( ولقد كرمنا بني آدم )) ، تضمّن الحقوق والحريات في 32 مادة وردت في الباب الثاني ، من المادة 14 ولغاية المادة 46 .
ومن نافلة القول فإن وجود المواثيق الدولية ومواد الدستور لا يعني وجود الحريات فعليا ، كما لا يشكل ، بحد ذاته ، ضمانة للحقوق ، بل لابد من آليات وحضور فاعل ، كأفراد ومنظمات ، لديها القدرة على الضغط ومواجهة نزعات التسلط وإنتهاك الحقوق ، التي يمكن أن تتغير حسب الظروف ، وتأخذ مسارات ومبررات متنوعة ، وطنية - قومية - دينية ، وحتى دستورية ، ولكنها حتما لن تتوقف ..... فالمال - والحق - السائب يعلم السرقة ويدعو للفساد والطغيان !



العودة الى الصفحة الرئيسية

Google

 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com