|
حقوق الإنسان ثقافة إنسانية
على الرغم من كثرة ترديد مفهوم حقوق الإنسان ، إلا انه لم يترسخ بعد في المجتمع والعقل العراقي والعربي ، لأسباب عديدة عملت ولا زالت لصالح سيادة ثقافة السلطان . فلا يزال المجتمع يعيش ويتحرك على أساس أن (السلطان ظل الله في الأرض) . والسلطان ، كما هو معروف ، له أتباع وجلاوزة من الكتّاب والشعراء وغيرهم يدافعون عن سياساته ويروجون أفكاره ويزينوها للناس ، وهؤلاء يسميهم الكواكبي (المتمجدين) ، وهم ذات الذين تحدث عنهم الدكتور علي الوردي في كتابه (وعاظ السلاطين) . تحالف المصلحة والمنفعة المتبادلة بين الطغاة ، كبروا أم صغروا ، ووعاظهم له دور مؤثر وحاسم في تشويه مفهوم وثقافة حقوق الإنسان ، وفي إشاعة كل ما ينفر ويبعد الناس عن هذا المفهوم والثقافة . ومن جملة ما أشاعوه ، مثلا ، أن حقوق الإنسان مفهوم غربي يتعارض مع ثقافتنا وتقاليدنا وديننا ، وهذا كلام غير صحيح ومردود عليهم ، ففي موروثنا الثقافي ما يؤيد أنها ثقافة إنسانية عالمية ، وأننا كعرب ومسلمين وشرقيين لنا دور ومساهمة في هذه الثقافة ، نجح الحكام ووعاظ السلاطين بمهارة في التعتيم عليه وتهميشه وتغييبه في خزائن موصدة الأبواب ، والويل لمن يجرأ على الإشارة إليه والخوض في تفاصيله . إن ثقافة حقوق الإنسان المعاصرة ، التي يمثل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر بتاريخ 10/12/1948 ، وبقية المواثيق والعهود والإتفاقيات التي تبعته ، ركيزتها الأساسية ، لم تظهر فجأة أو من الفراغ ، بل مرت بمراحل وتطورت مع تطور البشرية . والمتابع يجد إرهاصاتها لدى شعوب وحضارات العالم القديم ، وفي دياناتهم السماوية وغير السماوية ، فكانت على شكل أفكار وتعاليم وحِكَمْ ، دعت إلى الحق والعدل والمساواة بين البشر والحرية ومكارم الأخلاق ، تبلورت لاحقا في نصوص مدونات وشرائع ، وبعدها وثائق وإعلانات ، وصولا إلى نصوص قانونية واضحة تحدد شكل العلاقة ليس بين أفراد المجتمع فقط ، بل أيضا بين السلطة والمواطن ، تضمنتها دساتير الدول وقوانينها ، وأصبحت ملزمة لحكوماتها ، ومنها حكومات الدول العربية ، التي وقعت كلها من دون استثناء ، على الأقل ، على أحد مواثيق حقوق الانسان . ففي الصين القديمة كانت هناك تعاليم كونفوشيوس قبل 2500 ق. م. والتي قال فيها (( لا تفعل مع الآخرين ما لا تريد أن يفعلوه معك )) . وفي سومر وبابل وجدت تعاليم أوركاجينا ، حاكم مدينة لجش ، التي وردت فيها كلمة " الحرية " لاول مرة في تاريخ البشرية ، كما سن قوانين حمى فيها الضعفاء من ضروب الابتزاز ، ووضع الشرائع التي تحول دون اغتصاب الأموال والأملاك . وجاءت (قوانين حمورابي) (2130- 2088) ق. م. واعطت الزوجة (مثلا) حقوقاً عديدة ، من بينها حقها في طلب الطلاق من زوجها ، وحقها في التجارة وتملك المال . وقد نصت المادة 148 (( ليس للزوج أن يطلق زوجته المريضة بل عليه أن يعيلها طالما هي على قيد الحياة ولكن له أن يتزوج بأمرأة أخرى )) . ومن النصوص المميزة ماورد في المادة 175 : (( يحق للعبد أن يتزوج امرأة حرة ويكون أبناؤهما أحراراً )) . وإذا كانت شرائع بابل قد إفتقرت إلى ما يفيد وجود حق للفرد على الحاكم والدولة ، ولم يوفر القانون للناس الحماية السياسية ، فقد وفر لهم في عدد من المواد الحماية الاقتصادية : (( إذا ارتكب رجل جريمة السطو وقبض عليه ، حكم على ذلك الرجل بالإعدام . فإذا لم يقبض عليه كان على المسروق منه أن يدلي ، في مواجهة الإله ، ببيان مفصل عن خسائره ؛ وعلى المدينة التي ارتكبت السرقة في داخل حدودها والحاكم الذي ارتكبت في دائرة اختصاصه أن يعوضاه عن كل ما فقده . فإذا أدى السطو إلى خسارة في الأرواح دفعت المدينة ودفع الحاكم تعويضا إلى ورثة القتيل )) . ويرى بعض المؤرخين أن بوخوريس قد تاثر بمدونات بلاد الرافدين ولاسيما شريعة حمورابي ، وأن (قانون سولون) اليوناني قد تأثر بمدونات مصر القديمة ولاسيما مدونة بوخوريس . وتبعه قانون (الألواح الإثنى عشر) الروماني الذي تأثر (بقانون سولون) واخذ منه . وفي بلاد فارس هناك مدونة يعدها الكثيرون ، وفقا لما ذكرته الأمم المتحدة في الذكرى 60 لصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ، أول وثيقة لحقوق الإنسان ، وهي الوثيقة المسماة (مرسوم كورش) 529 ق.م. ورد فيها : (( الآن وقد وضعت فوق رأسي تاج مملكة فارس وبابل وأمم الأقطار الأربعة بعون من مازدا أعلن ما يلي : .... سوف احترم أديان وعادات ومعتقدات الشعوب التي نصبت ملكا عليها ، ولن أسمح أبدا لأي من حكامي والتابعين لي أن يتعالى على الآخرين أو يؤذيهم .... لن أفرض حكمي أبدا على أية أمة طوال حياتي .... وإذا كان هناك شخص ضعيف أو مضطهد فسوف أدافع عنه وسوف أسترد له حقه وأنزل العقاب بالمضطهِد .... لن أسمح ابدا لأي شخص أن يستولي على ممتلكات الآخرين بالقوة أو بأي وسيلة ظالمة أخرى دون تعويض مناسب ، إنني اعلن اليوم إن كل إمرؤ حر في إختيار الدين والعادات التي يفضلها وأن يحيا أينما شاء ، وأن يعبد ما يؤمن به ، وأن يقوم بخدمة معتقداته ، وأن يشغل وظيفته بشرط أن لا ينتهك أبدا حقوق الآخرين .... وطالما أنا على قيد الحياة لن اسمح لأحد أن يتاجر في الرجال والنساء كعبيد ، لابد من وضع حد لهذا العمل في العالم كله ....)) أما بالنسبة للعرب ، فكان لديهم (حلف الفضول) الذي أبرمته القبائل العربية في حوالي عام 590 الميلادي ، والذي ورد ذكره في أحد وثائق الأمم المتحدة كأول التحالفات المتعلقة بحقوق الإنسان . وقد ذكر حلف الفضول إبن الأثير في الكامل في التاريخ ، واليعقوبي في تاريخه وايضا جواد علي في المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام . وإذا كان هناك خلاف حول مناسبة وسبب التسمية فإن هناك إتفاق على إن المتحالفين قد إتفقوا (( على أن لا يظلم أحد بمكة ، وأن ينصروا المظلوم ويأخذوا له حقه ممن ظلمه)) ، وقال فيهم عمرو بن عوف الجرهمي : إنَّ الفضول تحالفوا وتعاقدوا …. ألا يُقرّ ببطـن مكـة ظالمُ أمرٌ عليه تعاهدوا وتواثقوا ….. فالجارُ والمعترُّ فيهم سـالمُ وقد تطورت هذه الثقافة بعد ظهور الإسلام ، رغم أن بين حكام اليوم ورجال الدين ومثقفي الإسلام السياسي من يريد أن يضعه بالضد من هذه الثقافة والحركة ، أو يرونه سابق عليها وأكثر شمولا منها ، ويضعونه فوقها ، وهم في الواقع اليومي لا يؤمنون ولا يلتزمون حتى بما يدّعون ، بل يستخدمون هذا الإدعاء كمبرر لتجهيل المواطن ، وغطاء للتجاوز عليه وإنتهاك حقوقه ! فما ورد في كثير من آيات القرآن الكريم ، تدعو لإحترام الإنسان وكرامته والى العدل والمساواة ، وهي في الأعم الأغلب لا تتناقض مع المواثيق الدولية التي تحولت إلى نصوص قانونية محددة ، منها على سبيل المثال (( ولقد كرمنا بني آدم)) و(( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة )) و (( ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن اكرمكم عند الله اتقاكم)) وأيضا (( من قتل نفسا بغير نفس او فساد في الارض فكأنما قتل الناس جميعا ، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا)) وكذلك (( لا إكراه في الدين )) و (( إدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ) و (( إن الله يأمر بالعدل والإحسان )) ...... وللرسول الكريم مواقف وأحاديث كثيرة تعزز هذا الإتجاه منها : (( الناس سواسية ``كأسنان المشط )) وأنه (( لا فرق بين عربي وأعجمي إلاّ بالتقوى )) و (( لا فضل لابن البيضاء على ابن السوداء إلاّ بالحق )) و (( ما آمن بالله من بات شبعانا وأخوه جائع )) و (( لن تقدس أمة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير متتعتع )) و (( كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته )) وايضا (( عدل ساعة خير من 60 سنة عبادة )) . أما علي فيعجز هذا المقال عن الإحاطة بمواقفه التي مثلت مدرسة للعدل والحق والإنصاف . وقد إشتهر بأكثر من قول وموقف ، منها ما تضمنته رسالته إلى مالك الأشتر حين ولاه على مصر ، والتي أصطلح على تسميتها - عهد الأشتر- والتي سماها جورج جرداق ( دستور ابن ابي طالب ) ومما جاء فيها : (( وأشعر قلبك الرحمة للرعية ، والمحبة لهم والالفة اليهم ، ولا تكن عليهم سبعاً ضارياً تغنم أكلهم فانهم صنفان : إما أخ لك في الدين أو نظير في الخلق .... وإنما يؤتى خراب الأرض من إعواز أهلها ، وإنما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع ، وسوء ظنهم بالبقاء ، وقلة انتفاعهم بالعبر ..... إياك والدماء وسفكها بغير حلها ، فإنه ليس شيء أدعى لنقمة ولا أعظم لتبعة ولا أحرى بزوال نعمة وانقطاع مدة من سفك الدماء بغير حقها والله سبحانه مبتدىء بالحكم بين العباد فيما تسافكوا من الدماء يوم القيامة . فلا تقوين سلطانك بسفك دم حرام فإن ذلك مما يضعفه ويوهنه بل يزيله وينقله . وإياك والاستئثار بما الناس فيه أسوة ، والتغابي عما يعنى به مما قد وضح للعيون فإنه مأخوذ منك لغيرك . وعما قليل تنكشف عنك أغطية الأمور وينتصف منك للمظلوم . املك حمية أنفك ، وسورة حدك ، وسطوة يدك ، وغرب لسانك )) . وله أيضا في إحدى خطبة : (( أيها الناس إن آدم لم يلد عبدا ولا أمه ، فالناس كلهم أحرار )) . وورد قوله أيضا : (( من أقر عن تجريد او حبس او تخويف او تهديد فلا حد عليه )) . ولم يكن العراق بعيدا عن هذه الحركة ، فقد كان حاضرا في جلسات النقاش والتصويت على الإعلان العالمي عام 1948 ، ووقّعت مختلف الحكومات العراقية على عدد من المواثيق الدولية ، آخرها إتفاقية مناهضة التعذيب عام 2008 . كما إن الدستور العراقي الذي تصدرته الآية الكريمة (( ولقد كرمنا بني آدم )) ، تضمّن الحقوق والحريات في 32 مادة وردت في الباب الثاني ، من المادة 14 ولغاية المادة 46 .
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |