قطاع التعليم العالي والبحث العلمي في العراق
 

د.عامر صالح

لقد أثار استلام وزارة التعليم العالي والبحث العلمي من قبل احد زعامات حزب الدعوة وهو المعلم علي الأديب الكثير من الملاحظات الانتقادية والتوجسية والشبهات على شخصه وجذور ولائه " ابتداء من جنسيته الإيرانية وانتهاء بمحاولاته لتأسيس دولة طالبان في وزارة التعليم العالي " وتطلعاته الميدانية لهذا القطاع المهم والحيوي في مستقبل البلاد, وقد بدأ "مباركا " بالتماسه لأراء المرجعية الدينية المتمثلة في المرجع الديني بشير النجفي ليرسم له الملامح العامة لاتجاهات تطور هذا القطاع, وقد بدأ المرجع الديني " مشكورا " بأبرز ملاحظاته " المهمة والمفصلية " لهذه المؤسسة, بوضع حدا " لثقافة الاختلاط والميوعة " , تاركا الوزير العتيد خيرة الكادر العراقي المتخصص في هذا المجال وراء ظهره ليستنجد بآراء ومقترحات من لم لهم خبرة ودراية بشؤون التعليم العالي والبحث العلمي والمنزوين في عقر ديارهم, وهي بداية موفقة وأول الغيث قطرة, ولكنه غيث ملوث بالغبار الأسود....فهل من جديد يثير الاستغراب في الأمر لقد تعرضت العملية التربوية والتعليمية بكل مراحلها بدءا من رياض الأطفال إلى الجامعات والمعاهد ومؤسسات البحث العلمي إلى تصدعات خطيرة ما بعد 2003, وهي في بعض من ملامحها امتداد للتدهور الذي حصل لهذه العملية في عهد النظام السابق على صعيدي الكم والكيف, وقد تطول قائمة ذكر الملامح العامة لهذا التدهور والانحلال الذي أصاب نظام التربية والتعليم بمختلف مراحله, إلا إن ما يعنينا في هذا المقام هو قطاع التعليم العالي والبحث العلمي, على الرغم من أن مشكلاته جزء من مشكلات العملية التربوية والتعليمية بصورة عامة, فقد ارتبطت مؤسسات هذا القطاع ما بعد السقوط أسوة بغيره من القطاعات بالمؤسسة الدينية ـ السياسية الحاكمة وبسلطات المساجد في المحافظات, ولم يعد للسلطات المركزية المتمثلة بوزارتي التربية والتعليم العالي أي دور يذكر إلا في الشكليات العامة التي لا تتعارض مع السلطات الدينية في المحافظات.

أن السلطات الدينية في المحافظات لها اليد الطول في تقرير سياسات هذه المؤسسات الخطيرة والهامة على مستقبل البلاد وأجياله وتنميته, فقد تحولت هذه المؤسسات من الرياض إلى الجامعات إلى مراكز وأبواق للدعاية الطائفية وللصراعات الدينية والسياسية والفئوية ولفرض النفوذ, وتحويل هذه المؤسسات إلى ملكيات خاصة للكيانات الطائفية السياسية, فقد تحولت مؤسسات التعليم العالي إلى مؤسسات دينية تجري فيها المراسيم الدينية على نسق ما يجري في المساجد والجوامع العامة, وقد شكلت هذه الطقوس عبر الفتاوى الناقصة أرضية خصبة لانتعاش الفساد في أروقة الجامعات ومؤسسات البحث العلمي لتتحول بدورها إلى بؤر مستشرية لكل مظاهر الفساد.

فقد تحولت مؤسسات التعليم العالي إلى إحدى قلاع التضييق على الحريات الخاصة والعامة, من فرض الحجاب ونوع اللباس إلى التضييق على حرية إبداء الرأي وممارسة النقد, كما أصبحت هذه المؤسسات مصدرا لسرقة المخصصات والأموال العامة المخصصة لهذا القطاع من الميزانية, وإفساد العلاقات الاجتماعية بين الطالب وزميله لاعتبارات طائفية, وإفساد العلاقات الإنسانية النزيهة بين الطالب وأستاذه, وخاصة عندما يقوم الطالب بابتزاز أستاذه والتضييق عليه مستغلا انتمائه الطائفي والسياسي, وسرقة الأسئلة الامتحانية وإصدار الشهادات الجامعية المزورة, وترويع الهيئات التدريسية وقتل الأكاديميين, وانتعاش ظاهرة التعليم الخصوصي, وفساد الدولة الفكري والعلمي في إهمال التعليم الجامعي وعدم استيعاب وتفهم دوره في التنمية الاقتصادية والاجتماعية, وبالتالي سوء فهم ما ينفق عليه هو على انه من باب الاستهلاك والكماليات لا من باب الاستثمار طويل الأمد كما هو متعارف عليه في الدراسات الاقتصادية للتعليم.

لقد وصل الحد بالفاسدين في هذا القطاع وقياداته الإدارية من منع وعدم السماح للمنظمات الدولية والمؤسسات التعليمية العالمية لمراقبة التعليم العالي والاطلاع على أوضاعه, كما أطال الفساد المناهج الدراسية من خلال فرض الكثير من المواد الدراسية والمناهج التعليمية ذات الصبغة الطائفية وخاصة في المناهج الإنسانية وهي ممارسات من " التبعيث الجديد " والتي تستهدف تغير الحقائق العامة في ذهن الدارسين وتأهيلهم نفسيا ومعرفيا لمزيد من الاحتراب الديني والطائفي الدموي القادم, وتسمية الكثير من مؤسسات التعليم العالي بأسماء رموز تنتمي بذهنية مسميها إلى رموز دينية ـ طائفية, دون العودة إلى السلطات التربوية العليا ذات الصلة بهذا الشأن وخاصة اللجان التربوية والتعليمية في البرلمان " إن كانت حيادية ".

ان تعيين الكادر التدريسي لم يتم إلا بتزكية من إمام المسجد أو الجامع الواقع في المنطقة أو المحافظة التي يسكن فيها مقدم الطلب " وهي تجربة إيرانية بامتياز في تسهيل المعاملات ", فلا حياة للأستاذ الجامعي بدون شهادة حسن السلوك والسيرة من المسجد. لقد حاول الكثير من الأساتذة الجامعيين والأطباء إلى العودة إلى العراق محبة في خدمة الوطن وأهله ولكنهم لم يصمدوا أمام الإجراءات الإدارية التعسفية ذات الصفة الطردية والابعادية لهم فرجعوا إلى دولهم المضيفة حفظا لماء الوجه والكرامة. وقد صاحب كل ذلك تدمير البنية التحتية لمؤسسات التعليم العالي من مختبرات ومكتبات ولوازم وخاصة في الاختصاصات العلمية البحتة كالهندسة والطب والعلوم وغيرها, وكذلك الفوضى في بناء مؤسسات التعليم الأهلي وعدم تنسيقها مع المؤسسات الحكومية وتحولها إلى تجمعات لذوي التحصيل الدراسي المتدني, لكي تكون مستقبلا رافدا من روافد بطالة الخريجين في هذا البلد, إلا إذا تدخلت المرجعية وأئمة المساجد في تعين خريجيها !

وإذا كانت لغة الكلام في أحيان كثيرة تصمت عن الجرائم والفضائح فأن لغة الأرقام سريعة على استيعاب الحدث واختزاله, وهنا انقل ما ورد في صحيفة ديلي نيوز الباكستانية في تشرين الثاني ـ نوفمبر 2008حيث نشرت قائمة بأسماء 154 من كبار الأكاديميين في بغداد , الذين لهم صيتهم الذائع في اختصاصاتهم, واغتيلوا جميعا. وأجمالا هناك ما يقرب من 281 مثقفا معروفا من التدريسيين في الجامعات الكبرى داخل العراق وقعوا ضحية فرق الموت. ومن هؤلاء الذين قتلوا 25% وهم 21 من ابرز الأساتذة والمحاضرين في كلية الطب ـ جامعة بغداد, وهي أعلى نسبة سجلت مقارنة بأي كلية أخرى. وأما ثاني نسبة من أعضاء هيئة التدريس الذين قتلوا وذبحوا فهم 12 من مشاهير أساتذة وباحثي كلية الهندسة بجامعة بغداد, يليهم 10 من كبار الأكاديميين المتخصصين في العلوم الإنسانية, وبواقع ثمانية أكاديميين من كلا اختصاصي العلوم الطبيعية والاجتماعية, وخمسة في ميادين التعليم, أما ما تبقى من كبار الأكاديميين في جامعة بغداد الذين قتلوا فيتوزعون على كليات الزراعة والتجارة والتربية البدنية, والاتصالات, والدراسات الدينية. وفي ثلاث جامعات أخرى في بغداد جرى ذبح 53 من كبار الأكاديميين, بينهم 10 في مجال العلوم الاجتماعية, و7 في كلية الحقوق, و6 في كل من كلية الطب والعلوم الإنسانية, و9 في العلوم الطبيعية و5 في العلوم الهندسية. كما وقعت عمليات تطهير وإبادة في صفوف الأكاديميين في جامعات المحافظات العراقية بلا استثناء, فقد جرى اغتيال 127 من كبار الأكاديميين والعلماء في مختلف الجامعات ذات المستوى الراقي, في محافظات الموصل وكركوك والبصرة وديالى والانبار. والى جانب ذلك فأن إحصائيات اتحاد أساتذة الجامعة العراقي بأن أكثر من 10000 من الكفاءات العليا يضمنهم الأطباء قد هربوا من البلاد منذ عام 2003

وهنا نؤكد أن على السيد علي الأديب الوزير الجديد لهذا القطاع أن يعي حقيقة هذه الصورة القاتمة التي تخيم على وزارته وان يتحمل مسؤولياته أمام الشعب وأمام الله, وان لا يهرول إلى المرجعيات الدينية للبحث عن الحلول لهذا القطاع , فالمرجعيات ابعد ما تكون عن فهم هذا القطاع ومشكلاته وكما يقال " رحم الله امرئ عرف قدر نفسه ", فحل المشكلات ليست بفتوى " جرة القلم " وإنما بالحلول العلمية الصائبة وبحسن وأدب الإصغاء إلى ذوي الاختصاص قي المجالات المختلفة, فالتعليم العالي وإصلاحه يستند إلى الكثير من المبررات والأهمية, لعل أبرزها الثورة العلمية والمعرفية وما تفرضه من زخم التحديات والسرعة الفائقة في إنتاج هذه المعرفة وتطبيقها في مناحي الحياة لا الفتاوى الجاهزة السهلة على الابتلاع ولكنها عسيرة على الهضم, وعالم العولمة ووجود البيئة الدولية المعاصرة التي تشهد ازديادا مضطردا في دور العلم والمعرفة وهيمنة ثورة المعلومات, وضرورة التنمية البشرية وإعادة تأهيل أفراد المجتمع وخلق الكوادر العلمية والتقنية في مختلف المجالات والإطارات, الربط المحكم للتعليم العالي مع حاجات السوق المحلية والعالمية عبر إعادة هيكلة التعليم واختصاصاته المختلفة, إعادة بناء وتنشيط مؤسسات البحث العلمي لكي تسهم بشكل فعال في حل المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الكبرى في البلاد, والعمل على تشجيع الكادر العلمي في الداخل والخارج للعمل في مؤسسات التعليم العالي عبر التنشيط والعمل بمنظومة الحوافز المالية والاعتبارية التي تشجع الكادر للعمل في هذه المؤسسات, والعمل النزيهة والمخلص لتحييد هذه المؤسسات من الصراعات الطائفية والمذهبية والعرقية احتراما لمكانة هذه المؤسسات في المجتمع, والعمل على محاربة الفساد في هذه المؤسسة بعيدا عن مزاج الخندقة الطائفية المسببة للفساد واستفحاله!

وختاما نقول أن إصلاح التعليم العالي ومؤسساته لا يحتاج إلى فتوى من أي كائن من كان, بل يحتاج إلى قيادات سياسية وإدارية وجامعية تفهم قيمة الإصلاح وضرورته وتدرك الحاجة إلى مراجعة نظام التعليم العالي بكل تركيبته المكونة : من مؤسسات وبرامج وأهداف ومناهج ومن منظور الجودة الشاملة والاستجابة لاحتياجات السوق المحلية والدولية في عراق منفتح على الداخل والخارج وكذلك الحفاظ على ما تبقى للجامعة العراقية من دور في التنوير والتثقيف ضد الأفكار الظلامية والتعصب الطائفي والسياسي والعرقي, فهل يصغي السيد الوزير لأراء ذوي الاختصاص لإنقاذ هذا القطاع, أم لمرجعيته لكي ينتكس هذا القطاع !!

   
العودة الى الصفحة الرئيسية

Google

 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com