|
فإن الحزب الشيوعي، وعلي الوردي أيضا، قد شغلا العراق، خاصة منذ ما بعد إنتهاء الحرب العالمية الثانية، في مجال الثقافة وتنوير العقل عبر نشر حقائق العلم مما يسهم في تنمية الوعي والمدارك - حتى وإن لم يكن ذلك في نية الكاتب وقصده - فللكلمة ضَرَمِيتها، ديناميكيتها الخاصة ، في خلق وتعميق الوعي اللازم من أجل تكون رأي عام ديمقراطي يفرض مشاركته في رسم سياسة البلاد ، ويقف على الأقل سدا في وجه سياسة رجعية تريد وقف التطور، من أجل مصالح القوى الرجعية، ومصالح الفاشية البعثية منذ ستينيات القرن الماضي، وبالتالي من أجل مصالح الامبريالية والصهيونية في العراق وفي العالم العربي، ومنطقة الشرق الأوسط.وهذه التشويهات من بعض القوى مقصودة، وما أكثرها، وذلك من أجل إضعاف، بل وإن كانت مقاصد تشويهات هذه القوى مفهومة، ولكن غير مقبولة غير أن بعض تلك التشويهات يمكن أن يكون سببها السقوط في شِرك محاولة الظهور بمظهر الموضوعية، وكأن الموضوعية هي حقا الوقوف على بعد واحد بين الصدق و الكذب، بين الحق والباطل، ناسين وصف علي بن أبي طالب لمثل هؤلاء بأنهم شرار الناس لم ينصروا حقا و لم يخذلوا باطلا، ناسين أن مثل هذا الموقف: نصرة الحق هو ما ينبغي أن يلتزم به المثقف ، في أي مكان وفي أي زمان، وإلا خرج من عداد المثقفين وإن ظل يتصف بصَنعَة الثقافة.وهذا الإلتزام كان قد دعا له وتبناه مثقفون عرب بقرون وقرون قبل أن يدعو لينين الى حزبية الأدب، أوسارتر الى الإلتزام، أويكون نتيجة تعميم موقف محدد غير سليم، من هذا الرفيق أو ذاك غافلا أن المرء يمكن أن يعرف شيئا ولكن تغيب عنه أشياء. فمثلا في عام 1996 كانت جريدة الحياة الصادرة في لندن قد نشرت مقالا لأحد محرريها الأخ وليد نويهض بعنوان " كيف قرأ علي الوردي الشخصية العراقية في ضوء منهج ابن خلدون.؟" كانت به بعض الاستنتاجات غير السليمة وإشارة الى كراهة الشيوعيين له، فناقشته بمقال نشره الأخ نويهض بعد بضعة أسابيع ذكرت فيه أن المقال كان أساسا قراءة لكتاب العلامة الكبير الأستاذ علي الوردي: " منطق ابن خلدون ". ولا تطمح هذه المقالة لمناقشة آراء الوردي ، إنما هي بعض ملاحظات سريعة على بعض ما ورد في قراءة الأستاذ نويهض. فالأستاذ نويهض يأخذ على المعارضة العراقية خطابها الذي صار " قراءات هي أشبه بالبكائيات "، انه محق الى حد ما من هذه الناحية فان البعض ينهج هذا النهج و لا يتعمق في البحث عن العوامل التي ساهمت في ظهور صدام حسين في العراق ، هذا البحث الذي هو ضروري ايضا لتفادي تكرر ظهور دكتاتورية جديدة بعد الخلاص من صدام.غير ان محاولة ارجاع ظاهرة صدام، و بشكل جازم، فقط الى ما يسمى بطبيعة الفرد العراقي، وفوق ذلك محاولة إسناد هذا التعليل الى الدكتور الوردي فأمر فيه غير قليل من التعسف ، و لا يسهم في تحقيق ما يرغب فيه الأستاذ نويهض من دعوة المعارضة العراقية الى " تكوين تصور عقلاني واجتماعي لظاهرة صدام"، خاصة و انه يشير الى ما في نظريات الوردي من ثغرات غير قليلة، إضافة إلى ان المعطيات التي يستند عليها قديمة تعود الى فترة أواسط الخمسينات، الى فترة سبقت صدور كتاب الوردي " علم المنطق الخلدوني " ، و كأن المجتمع العراقي بقي طيلة الزمن بلا حراك منذ العهد العثماني، و لم يتحول طيلة كل العقود. و هذه النظرة السكونية لا تتفق حتى مع منطق ابن خلدون نفسه الذي يؤكد على " ان اختلاف الأجيال في أحوالهم إنما هو في اختلاف أحوالهم في المعاش" ( المقدمة طبعة دار الجيل ص 2) ليس الجيل يختلف عن الجيل الآخر فحسب بل ان " الجيل الواحد تختلف أحواله في ذلك باختلاف الأمصار فكلما نزلوا الأرياف وتفتقوا النعيم و ألفوا عوائد الخصب في المعاش والنعيم نقص من شجاعتهم بمقدار ما نقص من توحشهم وبداوتهم " ( المقدمة ص 152) بمثال على هذا بذكره الفرق بين شأن مضر مع ربيعة المتوطنين أرياف العراق و نعيمه (ص153). و كذلك على تبدل نفس الشخص يمكن الإشارة الى ما يروى عن علي بن الجهم و كيف تحول في شعره و خلال بضعة اشهر فقط من خشونة اللفظ لبدوي جاف أول ما مدح الخليفة المتوكل بقوله انت كالكلب في حفاظك للود و كالتيس في قراع الخطوب أنت لا عدمناك دلوا كبار الدلا كثير الذنوب عيون المها بين الرصافة و الجسر جلبن الهوى من حيث ادري و لا ادري و علاوة على هذه النظرة الخلدونية يشير الدكتور الوردي نفسه الى " التحول الحديث في الحضارة الذي انتج في الناس نمطا من الاخلاق قد لا يستسيغه القدماء . انما هو على اي حال ملائم لتطور المجتمع الجديد." (منطق ابن خلدون ص 288). حقا ان الاكتفاء بترديد البكائيات ، و الركون الى تفسيرات الوردي الى درجة تقرب من افتراض حتمية ظهور شخصية كصدام حسين في مجتمع كالعراق لا يكفي لتفسير هذه الظاهرة . ثمة امور عديدة لا يجري التطرق اليها مثلا الدور الذي اسهمت فيه مختلف القوى السياسية في العراق في تثبيت نظام صدام في العراق بعد انقلاب تموز 1968، منها القوى التي دخلت مع النظام في تحالفات موقتة ، او هادنته حينا من الوقت، لربما تحت تأثيرات خارجية ، وواهمة بإمكان جر البعث الفاشي الى مواقع فكرية تقدمية او على الأقل لتنجو من بطش النظام الى حين فذكرى أعمال التصفية الجسدية التي طالت أنصار قاسم و الشيوعيين و الديمقراطيين في انقلاب شباط 63 ، و دماءهم التي سالت انهارا كانت ما تزال طرية بعد، و لا يجري تناول نشأة الدولة العراقية الحديثة تحت سلطة الانتداب البريطاني و تغليب العنصر العربي السني على الأغلبية الشيعية ، وما رافق العراق الحديث من تركيب قومي متنوع ، ولم يؤخذ الوجود القومي الكردي بما له من أهمية كبيرة، وكيف عمقت الحكومات الاختلافات الطائفية و العشائرية ، لكنها مع ذلك لم تستطع إيقاع العراقيين في حرب أهلية قومية أو طائفية قبل خروج العراق من طوق التبعية السياسية بعد ثورة 14 تموز 58 .كما و لا يجري التطرق الى العوامل الدولية ، وظروف الحرب الباردة التي كانت ما تزال قائمة و تفعل فعلها في الإسهام في خلق أنظمة تستند عليها ، و كيف كانت الأنظمة في بلدان العالم الثالث تستفيد من هذه الحرب الباردة ،كما ويجري اليوم تناسي الصراعات و المخاوف الإقليمية التي دفعت بالكثير من الدول خاصة دول الخليج إلى إسناد صدام ، خوفا من إيران في عهديها الشاهنشاهي و بشكل خاص إيران الخميني، و دفعت و ما تزال تدفع ببعض فصائل المعارضة العراقية الى الأجنبي ، القريب و البعيد،الإقليمي و الدولي. كم من القوى و الشخصيات العراقية التي عارضت نظام صدام لم تسهم الى هذا الحد او ذاك ، بتقوية و ترسيخ حكم انقلاب 17 تموز 68 ، وان كان ذلك بالتزام جانب الصمت، و كم صار الصمت جريمة؟ اي بلد من البلدان ليس فيه "عراق غيت ".؟ اعتقد ان مجموعة هذه العوامل إضافة الى شخصية صدام حسين بالذات هي من الظروف التي ابرزت هذه الظاهرة الاستثنائية في الاستبداد ، وليست "طبيعة العراق و شخصيته هي التي اسست لاحقا لنشوء ظاهرة صدام حسين و استبداده المطلق " كما أراد الاستاذ نويهض ان يقرأ الدكتور الوردي في تعليله لصدام. ان الاستناد على منطق الدكتور الوردي و تحليله للشخصية العراقية على ضوء الصراع بين البداوة و الحضارة لايكفي فقط لتعليل ظاهرة صدام . فالصراع بين البداوة و الحضارة في رأي الدكنور الوردي ليس جاريا في العراق دون غيره من الدول العربية ، و العراق قياسا الى بعض الدول العربية قد اخذ في تجاوز مرحلة العصبية القبلية منذ فترة ليست بالقريبة، و ضعفت خاصة بعد تموز 58 لكن نظام صدام عاد لتقويتها من اجل اسناد الحكم. و عندما يتحدث الدكتور الوردي عن " العصبية في المدن العراقية " ، والتي جاءت فقرة سادسة في مقالة الاستاذ نويهض ، لم يتناولها الدكتور الوردي كخاصية عراقية صرفة تسم الشخصية العراقية فقط بل باعتبارها ""نموذجا لما يجري في المجتمع العربي عموما من صراع بين البداوة و الحضارة "" (منطق ابن خلدون " صفحة 291 ،طبعة تونس 1988 الكتاب الذي إستعرضه النويهض) . فالشخصية العراقية التي يدرسها الدكتور الوردي عينة تطبيقية لدراسة الفرد العربي و ليس فقط " لقراءة شخصية المجتع العراقي و طبيعته البشرية في الزمن الحالي " كما يريد الاستاذ وليد نويهض ان يستنتج . فاذا كانت قراءة الاستاذ نويهض للوردي سليمة ، فلماذا اقتصرت ظاهرة صدام على العراق وحده ولم تظهرفي " البلاد العربية الاخرى التي مرت بمثل الظروف التي مر بها العراق في العهد العثماني"؟ ( منطق ابن خلدون ص 290). ثمة ملاحظات وردت في مقالة الاستاذ نويهض فيما يخص العلاقة بين الدكتور الوردي و الشيوعيين كانت تجانب الحقيقة . فالاستاذ نويهض يذكر ان الوردي " كسب كراهية كل الحزبيين من بعثيين و شيوعيين حين وقف ضد التيار ليشكل وحده مدرسة مستقلة تسخر من غوغائية البعثيين و بلادة فكر الشيوعيين "" فهل حقا ان الشيوعيين ناصبوه العداء و صبوا عليه كراهيتهم و انه سخر من بلادة فكرهم ؟ لا يذكر الاستاذ نويهض مصدرا يسند تهمته، انما يلقيها جزافا ، و هي بعيدة عن الواقع الذي اطلعت على بعضه. من المعروف ان الشيوعيين لم يتبنوا افكار الدكتور الوردي و لم يقبلوا التهم التي نسبها الى فكرهم ، و دخلوا معه احيانا في حوار يتسم بالتقدير و الاحترام و المناقشة العلمية ، و ليس هذا بعد ان فرض مكانته العلمية و اصبح علما بين علماء الاجتماع العرب ، بل منذ بداياته الاولى يوم لم يكن معروفا بعد اكثر من نطاق كليات بغداد في الخمسينات وقبل ان تتأسس اول جامعة في العراق ففي الخمسينات صدر للاستاذ الوردي كتابه ""وعاظ السلاطين "" وقام بمناقشته في ثلاث حلقات على صفحات جريدة الحرية- كما اظن- و هي جريدة قومية ، الاستاذ علي الشوك، و اتسمت بالمناقشة الموضوعية و العلمية ، وليس بالسخرية و الكراهية . ويشير الدكتور الوردي في نفس الكتاب الذي يعرضه الاستاذ نويهض الى حملة شنت عليه عام 59 عند صدور كتابه "" الاحلام بين العلم و العقيدة "" فيقول "" و كان من نتائج الجدل الذي نشب نقاش ظهر على صفحات مجلة ( المثقف ) البغدادية، بيني و بين احد الزملاء من اساتذة الجامعة"" ويذكر الدكتور ان هذا الجدل و النقاش استمر على اربعة اعداد (،19، 15،16،17 من السنة الثالثة 1960) ، ومجلة المثقف معروف عنها انها كانت من المجلات التي يشرف عليها الشيوعيون ، وكان الاستاذ علي الشوك لولب هيئة تحريرها ، و توقفت عن الصدور بعد انقلاب شباط 63 اثر اعتقال غالبية محرريها و كتابها ، فالوردي يتحدث هنا عن جدل و نقاش مع احد زملائه الجامعيين ، والحوار ينشر في مجلة للشيوعيين، فهل هذا هو تعامل من تسود بينهم الكراهية و السخرية ؟ . و في أواخر كانون أول1976 نشرت جريدة طريق الشعب، صحيفة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي ، مقالا لي نشر بإسمي الذي عرفت به يومذاك في العراق( حمدان يوسف ) تناولتُ فيه بعض المفاهيم الخاطئة التي ينسبها الدكتور الوردي ، كآخرين غيره ، للفكر الماركسي وبتناول اتسم بالاحترام والتقدير الكبيرين للعالم والشيخ الجليل، ولقد نال المقال يومها تقديرا كبيرا من لدن محرري الجريدة ، ورغم أني ما كنت إذ ذاك من الأسماء المعروفة بعد، اتصل الوردي في نفس اليوم تلفونيا مع رئيس التحرير الرفيق عبد الرزاق الصافي وحدد موعدا لزيارة الجريدة في اليوم التالي. و جاء العلامة الكبير بكل مهابته و بتواضع العالم الحق ، المنطلق في بحثه من ( ان العلم لا يعرف الجزم و اليقين و القطع . شأن العلم انه يشك و يظن، و لكنه لا يقطع و لا يجزم، لانه لا يعرف جميع أسرار الطبيعة، و ربما اكتشف في المستقبل من تلك الأسرار ما يجعلنا نغير كثيرا من أحكامنا الراهنة ) كما يقول الوردي في كتاب منطق ابن خلدون اياه (ص 42) بهذه الروحية تحاور الاستاذ الوردي معي حول مقال طريق الشعب و ذكر خلال الحديث انه لم يدرس الماركسية من مصادرها بل مما كتب عنها ، وازداد دهشة عندما ذكرت له مقالا كتبه انجلس يشير فيه الى تطور تاريخ المجتمع العربي كصراع بين البداوة والحضارة يتكرر دوريا، تقريبا مثلما يشرح ابن خلدون ذلك.وطلب مني أن أزوده بمقال انجلس إلا أن مشاغلي المهنية والحزبية شغلتني يومها عن تحقيق ذاك الطلب يومئذ لذاك العالم الجليل، الأمر الذي أسفت له فيما بعد. هذه امثلة ثلاثة للعلاقة بين الدكتور الوردي والشيوعيين في ازمنة ثلاثة مختلفة جد الاختلاف:الاول ايام العهد الملكي ، يوم كان الشيوعيون مضطهدين و في السجون، و الثاني قي عهد عبد الكريم قاسم ، ايام وصفت بالمد الاحمر، و الثالث عهد البعث يوم كان الشيوعيون في جبهة مع البعث لكنهم يتعرضون في نفس الوقت للرقابة و التضييق و الاغتيالات . وليس في واحد من هذه الأمثلة ما يمكن ان يستشف منه وجود كراهية او سخرية من رأي الآخر. وهذا لا ينفي إحتمال صدور بعض التعليقات التي كانت تقلل من العلامة الوردي بين بعض الشيوعيين، أو من بعض منظمي الخلايا و اللجان الحزبية فتاريخ الحزب لم يخلُ من بعض الحزبيين، الذين لقلة معارفهم الماركسية وقبل نضجهم كانوا يظنون أن المنهج الماركسي وحده النهج العلمي الذي يقود الى إدراك الحقيقة ومعرفتها، ولم ينتبهوا إلى أن ثمة طرق ومناهج أخرى تقود الى ذلك ، وأن من الضروري متابعة الانجازات العلمية لتطوير الماركسية. وأن بعض من الشيوعيين كان يقول أن الحزب قال هذا ليمنح رأيه قوةً ، وأن هذا رأي الحزب، على طريقة قراء المنابر عندما يتكلم فبطريقة توحي لمستمعه أن هذا هو رأي الله ، وأن من يشك بما يقول هو مثل الراد على المرجع، والراد على المرجع هو كالراد على الله ، كما يقول مثلا السيد الحكيم في منهاج الصالحين. وحتى هذه الأمثلة من الأقوال تجاه الوردي، إن وُجدت، لا يمكن مقارنتها بما تعرض له من تهديدات واعتداءات من قبل المعممين وأتباعهم في الخمسينات، او زمن فاشية البعث. وأتمنى أن يلقى هذا الموضوع صدى فيستثير من لديه معلومات عن هذه العلاقة ليصحح ما قد يكون فيها من خطأ أو عدم دقة ، ويضيف اليها معلومات لم أطلع عليها أو غابت عني، مثل صلته بماركسيين بولونيين كان يلتقي بهم أثناء زياراته الى وارشو في سنواته الأخيرة.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |