|
توفيق ابو شامة استيقظ الحاكم بأمره من سرير مُلكه البالغ مائة ألف ميل عرضا ، وثلاثمائة ميلٍ طولا، وأحسَّ بالانتشاء، وهو يتحسّس طرف مقبض سريره الملكي الذهبي ، وأزاح غطاءه الوردي الحريري، الذي كان يلمع ويضيء المكان، ثم فرد يديه أمام غرفة نومه، وأرسل يده اليمنى نحو الشمس، واختار من أشعتها ، شعاعَ الصباح، أما يدُهُ اليسرى ، فجاست زوايا مُلكه الواسع، تُحصى الثمار والأشجار والشوارع والديار، هكذا كانت عادة الحاكم بأمره عندما يصحو من فراش نومه . فقد كان متواضعا يكره الكبرياء والخُيلاء، يتفقد مدنه وقراه عندما ينهض كل صباح، يحصي المحاصيل والغلال، ويطمئن على الحال،وقف بين يديه ملايين العمال ، ينظرون إلى حركات أصابعه ، فقد كانوا يفهمون لغة الأصابع اليدين، وإيماءات الحاجبين، وغمزات العينين. حرّك الحاكم بأمره شعاعه المسلول من الشمس، وصوّبه نحو خاصرة الوطن اليسرى، وأخذ يرى ما يكشفه شعاعُ الصبح من مناظر وألوان . ركَّزَ الحاكمُ بأمره شعاعَه على أجساد النافقين، ففهم الخدم أنها تصلح سمادا للبساتين، لكي تُزهر الأشجار وتربو الثمار. وكعادة الحاكم كل يوم، فإن المتسابق الأول، يَمثُل أمامه في موكب كبير، ويتحول من عدّاء إلى وزير، في بلاطه الواسع الكبير. وكان أول الفائزين في مسابقة الحاكم عدّاءٌ سريع ، يفهم لغة الشعاع ، وكيف يقتل منافسيه والأتباع، فمَثُل أمام السلطان، وأسماه الحاكمُ (المهرجان) حامل حقيبة المُلك، ومسؤول شؤون السكان. ومن منطلق الاعتراف بالجميل للحاكم بأمره ، قبَّل المهرجان طرف أصبع أحد قدمي الحاكم بأمره سلطان الزمان، ومكافأة له على حسن تقبيل طرف الإصبع، أصدر الحاكمُ بأمرهِ مرسوما يقضى بأن يصبح كلُّ المتسابقين، الذين اشتركوا في السباق، وعددهم ثلاثة عشر مليون متسابق، تحت إمرة المهرجان .قفز المهرجان ووقف بجوار طرف الأذن اليمنى للحاكم بأمره وقال: كلنا فداك، والله يرعاك ، وسأنشرهم في البلاد يجوسون الشوارع والديار، من لحظة توقيع القرار، حتى يطهروا الأرض من أعداء الله وأعدائكم، ليصبح الشعب كله جديرا بأظافر قدمي سلطان الزمان . وهبط المهرجان ، وودع السلطان بقبلة سريعة على كعب الحذاء ، ونظر إلى جيشه الجديد، وشرع يتفقد وجوههم وأقفاءهم، واختار منهم عشرة ملايين، وهم الناجحون في امتحان المهرجان، وكان الامتحان يقضي بأن يسير المتسابقون على رؤوسهم مقلوبين من الصباح إلى المساء ، وأن يصنعوا للرؤوس أغطية من الحديد ، وأن يضعوا في رأس كل مولود جديد صندوقا حديديا، للحد من نمو خلايا العقل. قسَّم المهرجان أتباعه إلى فرق وجماعات، وجعل على رأس كل فريق أميرا من الأمراء، ممن نجحوا في تدريب الأتباع ، وألقوا ببقايا أجساد الفاشلين على تلة الجماجم في المكان ، وابتدع المهرجان اختبارا للأمراء، في فن الرياء، ففاز بالمرتبة الأولى رجلٌ نحيل فأسماه (الشخفاق) أي شيخ النفاق ، لأنه تمكن من اختراع عطرٍ ورديٍّ من بين أصابع قدمي السلطان، وأنه ينوي أن يؤسس مصنعا مخصوصا لبصمات أفواه الرعية، وسينتج المصنع فور تأسيسه قفلين لكل فم، قفلا في الصباح، وقفلا في المساء. وفاز بالمرتبة الثانية (الصرصار) لأنه اخترع تطعيما ملكيا يشل حركات الرؤوس ، ويحصر الحركات في حركتين فقط ، المضغ والبلع. وسيُقيم الصرصار كذلك مصنعا كبيرا مُخصَّصا لتدريب وترويض الهواء، في مملكة الحاكم بأمر الله، ليتصدى لكل هواء فكري وافد من بعيد ، ويُفجِّره قبل أن يصل إلى أرض المملكة، باستعمال خليط جديد، ينفجر، ثم يُبيد . واختلى المهرجان بالشخفاق ، ثم بالصرصار كلٌ على حده، وأمر كل واحد منهما بأن يُقطِع أتباعه وأنصارَه وأبناءه الممتلكات، ويعززهم بالمكاسب والأرباح ، وأن يجري عليهم الحوافز والجوائز، بشرط أن تكون أرض الشخفاق في الشمال، وأرض الصرصار في الجنوب ، مع إبقاء منطقة الخصب والثمار بين الإقليمين، كمنطقة محايدة مرهونةٍ بعقود الدَّيْن، ووقع الصرصار والشخفاق على هذه الوثيقة وتعهدا بتنفيذها مدة قرنين. ومما قاله المهرجان للشخفاق سِرَّا: احذر الصرصار، فإنه ينوي أن يستولي على أملاكك ونسائك، ولتكن رسائلك إليّ أنا فقط ، بحيث لا تقل عن ستة رسائل في اليوم الواحد . وقال للصرصار سرا: فلتعلم بأن الشخفاق أعدَّ فرقة لاغتيالك فاحذره وحذِّر أتباعك من جيشه، واكتُب لي ستة عشر تقريرا في اليوم عن الحركات والسكنات في ولايتك أمضى المهرجان الليلة في صياغة تقرير مفصل عن إنجازاته ، وأودعه بريد الحاكم بأمره ، ومما جاء في التقرير السري: " إنني من منطلق حرصي على راحة موطئ قدمي سعادتكم، شققتُ أتباعي إلى ولايتين، واحتراما لإيماءات جلالتكم، ولفتات سموكم ، وتوجيهات معاليكم ، وغمزات فخامتكم ، قسمت الصحراء الشرقية قسمين متناقضين متنافسين متصارعين، سيجلبان لجلالتكم الخير والرضى والمسرة " وفي المساء أراد الحاكم بأمره أن يتأكد من تقرير المهرجان، فسحب شعاعا من القمر الفضي،وصوبه على أتباع الشخفاق ، فابتسم وهو يرى أتباع الشخفاق يسجلون أعداد الطيور وأعداد الثمار على الأشجار، من اليمين إلى اليسار، ويدونون سلالات الحيوانات، ويتابعون البصماتِ والآثار ، ويضعون عند كل مجموعة من المجموعات أرقاما وعلامات، مختومة بخاتم المهرجان ، وموقعة بتوقيع الشخفاق، وعلى لوحات العلامات صورة مصغرة من طرف إبهام الحاكم بأمره. نقل الحاكمُ الشعاعَ إلى حيث يجلس أحد أتباع الشخفاق بعيدا، وكان ينبش بأصبعه في الأرض، فأوقف الحاكم بأمره الشعاع، وأخذ يتابع ما يفعله هذا الباحث في ثقوب الأرض بطرف إصبعه، وأضاء الحاكم بشعاعه وهو يعتدل ويبتسم، فقد استرقَّه المنظر، وأطربه المشهد، فقد كان الرجلُ مشغولا بإحصاء الحبوب التي ينقلها النمل إلى جحوره في الصباح والمساء، ليكتب تقريرا مفصلا مشفوعا بالأرقام عن خسائر الحبوب في مملكة الحاكم بأمره . أحضروا لي هذا النمليَّ في الحال . ولما مثُل أمام الحاكم ، رفعه بطرف إصبعه حتى يراه. وشرع النمليُ في قراءة تقريره المرفوع للشخفاق بصوت عال: "صاحب الرفعة والسمو، صاحب العز والكرم والأخلاق، صاحب النخوة والإباء ، سليل الشرف والوفاء، رضوخا لتوجيه إظفر إصبعكم الأيسر ، واقتداء بإيماءة الرمش الثالث من عينكم ، وامتثالا لرعشة أنفكم، وتنفيذا لأوامر نُطَفكم، شرعتُ في وضع الحواجز على جحور النمل ، من لحظة بدء العمل ، وأحصيت سرقات النمل من حقولنا، فكانت الخسارة كبيرة تقدر بعشرة مليارات وخمسمائة وثلاثين دينارا في كل عام، وإمعانا في الدقة، أسست معملا خاصا لتحليل براز النمل، لحساب الفرق بين الحبوب قبل أن تهضم، وبعد أن تُهضم، كما أنني وضعت الأقفال والموازين على أبواب جحور النمل، لأكون دقيقا في عملي، ليرضى عني السلطان" . وعندما أنهى الحاكم بأمره القهقهة التي كانت تطوح بمن حوله وتهز الأرض والجبال والأنهار،أصدر أمرا بأن يعين النملي خبيرا ومستشارا للشؤون المالية والاقتصادية في قصر الحاكم بأمره . (2) صوَّب الحاكم بأمره شعاعه القمري نحو الشرق حيث جيش الوالي المهرجانَ ومعاونه الصرصار، فقد كان المهرجان يجلس على محفة يرفعها رجالُ الصرصار على رؤوسهم ، وهو يستمتع بمسابقةٍ في الشِّعر الغناء، يُنظمها كل يوم ثلاثاء، أثناء الغداء، فكان يأكل ثم يلقي بقايا الأكل فوق الرؤوس، وكانت المسابقة في أروع أغاني الحب والوفاء للمهرجان، وأجمل الكلمات في جمال وجهه ،وبهاء طلعته، وسماحة إشراقته، ورقة كلماته، وقوة حجته، وكان يقف بين رجليه عددٌ كبير من الشعراء والدعاة والمفكرين والمبدعين، وهم يستعدون للحفل الكبير، فصعد أحدُ الشعراء المنبرَ، واحتبى تحت نعلي المهرجان وقال: لستَ بشرا أيها المهرجان، فأنت سيد الأكوان . وكان الفنانون والمثَّالون مشغولين بنحت تمثال كبيرا للحاكم بأمره، مصنوعا من الفيروز والدر والياقوت، مطليا بالذهب والألماس. قطَّب الحاكم بأمره طرف حاجبيه، فجيء بالمهرجان مكبلا، وكان يبكي وينتحب بين يديه، ويقول: المجد كله للسلطان، وما أجمعه من رفعة ومدح وإطراء، أسبكه في سبيكة، تصلح نعلا لحذاء فخامتكم. وعاد الحاكم بأمره يفحص بشعاعه المكان، فرأى نهرا يجري فصاح: يا نمليُّ مَن أجرى هذا النهر في مملكتي ، ولماذا يجري من اليمين إلى اليسار، ولماذا يصبُّ ماء النهر خارج مملكتي؟ فصاح النملي: هل نُحضرُ لك النهر يا مولاي مكبلا بطينه، مقيدا بمائه الغزير، ونجعله أضحوكة الزمان؟ قهقه الحاكم وهو يسمع النملي يغرد بأحلى الكلام، ثم اقترب النملي من طرف حذاء الحاكم وهو يقول : الأمر يا مولاي لا يستقيم في مملكتكم إلا بالحرب والطعان ، وهي تبدأ بغمزة في حق المهرجان، ليهتف الجميعُ : فليسقط المهرجان ! فهم النملي من ضحكة الحاكم بأمره، بعدما هزَّت المكان ، أنه موافق على الحرب والطعان . ومن يومها صار هَمُّ المهرجان أن يبني قصرا حصينا منيعا إلى جوار النهر، محروسا بالحديد والنار يستعصي على العتي الجبار! وشرع الصرصار في إرسال الوفود ليشتري كل أنواع السلاح ،وصارت مهنة الشعب الطعنَ والنزال. أما عن الشخفاق فقد أسس مملكة من العبيد والجنود، وصارت الصناعة الوحيدة فيها تفصيل الأصفاد والقيود، واستراق السمع على الشفاه والأبواب والأفواه، ونجح الشخفاق في ابتداع جهازٍ جديد يلتقط ذبذبات أفواه الحالمين من رعيته، قبل أن يستيقظوا من نومهم ، ثم يرسلها في الوقت نفسه إلى مخزن سريٍّ في القصر يتبع جهاز مخابرات الأحلام . أراد الحاكم بأمره أن يستمتع في يوم ميلاد ابنته الصغرى بالحرب والطعان، فجهزوا له المكان، واجتمعت حاشية القصر، حول قدميه، وافترش أقاربُ الحاكم الوسائد المحشوة برموش الرعية، واضطجعوا محمولين على محفات الذهب، التي يحملها الخدم والأتباع على رؤوسهم، وأخذوا يتفرجون على النزال والقتال، بين جيش الشخفاق، وجيش المهرجان يراقب من قلعة القصر، لون مياه النهر. ولما رأى المهرجان الشعاع سجد للحاكم بأمره، ثم تلا صلاة الخنوع، وقال : لقد أثمرتْ المنطقة المحايدة الخاضعة لحكمكم شرارة الصراع، وهي مخزن الذهب والنحاس، والحديد والرصاص ، وأسست لكم فيها مصانع السلاح..... لهذا اليوم يا مولاي ! أرسل الصرصارُ رسالة تجاوز بها السلم الإداري، فأرسلها إلى ديوان الحاكم بأمره، بدلا من أن يرسلها إلى ولي أمره المهرجان، فأعاد النملي إرسالها كما هي إلى المهرجان وقال : أرسل لكم نسخة من رسالة تابعكم الصرصار، الذي يشتكي من اعتداء جنود الشخفاق على حدود مملكته، وهو يسرد فيها كل مفاسد الشخفاق ، وكيف أنه استأثر بكل الأقوات والأرزاق له ولعشيرته ولمقربيه، وذلك لاتخاذ الإجراءات المناسبة بحقه. وعندما وصلت الرسالة إلى المهرجان كتب فوقها العبارة التالية الموت للصرصار ، وأرسل النسخة الأصلية للحاكم بأمره. وأرسل النملى التقرير السري اليومي للحاكم بأمره ، ومما جاء فيه: بين أرجلكم رسالة الصغار، حيث يشتكي الصغار من الصغار، وهم لا يعلمون أن الحرب لعبةٌ الكِبَار،وهي بساطٌ يسير فوقه النُبلاء. ما أبشع الصغار حين يظنون أنهم كبار ! فأومأ الحاكم بأمره بطرف إظفره، وفهم النملي رسالته : شراء السلاح مُباح، بشرط أن تتضاعف الأرباح ! السعسبان، والعنصل والمرقبان، والحمرجل والشقشق، وكلها لا يعرفها أحدٌ غير الحاكم بأمره، ولا يعرف أسماءها إلا هو، والضالعون في فقه قصر الحاكم بأمره . وتمكّن الشخفاقُ من تدمير جيش الصرصار،واحتفل جيش الشخفاق بإعدام الصرصار وكل جنوده وأتباعه بالسفود، وهو سيخ من النار، يُدخل من الفم ، ويخرج من الأدبار. لكن لون حمرة ماء النهر، لم تكن كافية لكي ينتعش الحاكم بأمره ، وينعم بالجِنان، فاستُدعي الشخفاق لقصر الحاكم بأمره، وكان النملي حاضرا، فقال للشخفاق: المهرجان نذلٌ جبان، يشترى السلاح ، ويستعدُّ للنزال، ويظن بأنه سيعيش في أمان، وينازع السلطان ! واقترب النملي من أذن الشخفاق ، وقال : سمعتُ المهرجان، يقول: الآن اقتربت ساعة الشخفاق، فسوف أصنع من عظام جيشه ، جسرا تمرُّ فوقه الحمير والبغال، وأجعل من نسائه خادماتٍ لكنس القصر وإزالة الأبوال. فتحوا مصانع السلاح والذخيرة، لنستمتع بمباراة الحرب، بين الأهل والعشيرة، فغدا سنعرف كفاءة السلاح في الشدائد والأهوال، ونملأ الخزائن بالأموال . ولما مُثل المهرجان أمام النملي، قال له النملي: الشخفاق، شيخ النفاق، يقول: سيجعل قصر المهرجان، قصرا للبوم والغربان، بعد أن يستولى على النساء والغلمان. فانتصب المهرجان وصاح: إليّ بالسلاح، فالحرب ستبدأ في الصباح، وسأهدي النصر المبين، لابن الأكرمين سلطان الزمان، الحاكم بأمره . وكان مجلس الحاكم بأمره في اليوم التالي مكونا من النملي الملازم لإصبع قدمه اليمنى، ووزير المصانع الحربية، الذي كان يقف إلى جوار كعب رجله اليسرى، والمحظيات على الأرائك، وألف من الخدم يناولون الحاكم بأمره المشروبات، في الأباريق المصنوعة من الألماس ، وأمر الحاكم بعضَ النجوم أن تضيء المكان ليشاهدوا القتل والطعان . وقسم حريمه قسمين، قسمٍا يشجع جيش المهرجان، وقسما يشجع جيش الشخفاق . وفهم النملي أن السلطان يأمر ببدء الطعان، فأرسل صوت امرأة تصيح في إذاعة النسوان، وهي أقوى إذاعات السلطان: وامهرجاناه ! وكان المهرجان يتابع الحرب من برجه الحصين فوق التلال، وكان برجه مشغولا من الحديد القوي والفولاذ . ولما عبر جيشُ المهرجان نهرَ الدماء على أجساد قتلى جيش الشخفاق، ابتسمت محظية الحاكم بأمره وقالت: انظروا ماذا يفعل السلاح الفتاك ... فقهقه الحاكم بأمره حتى سمعه الجيشان المتحاربان وصاح: أغبياء يحاربون بسلاح مصنوعٍ في مصنع واحد ، فإذا انتصروا نسوا السلاح ونسبوا النصر إلى شجاعتهم، وإن هُزموا أرجعوا الهزيمة للسلاح. وصفَّقَ النمليُ لكلام السلطان، حتى أن السلطان أحس بذبذبات تحت قدميه كأنها طنين ذبابة ، وطلب الإذن بالكلام فقال: رعى الله السلطان، وأدام عزه ، وأطال عمره، إن المتحاربين الأغبياء، يا عظيم الجاه والبهاء، يكونون بعد الهزيمة أذلاء، أما إذا انتصروا ، فهم يحلمون باحتلال الضياء ، ويظنون أنهم سينتصرون بسلاحنا علينا، أي غباءٍ ... أي غباء !! وحاول جيش الشخفاق أن يصل إلى قصر المهرجان ، عبر الطرق والأنفاق، لكن المحظية أمرت وزير الصناعات الحربية، أن يمنع الذخائر عن جيش الشخفاق، فتحولت المدافع والأسلحة، إلى حقائب وأمتعة ينوء تحت ثقلها جيش الشخفاق، فناشد الحاكم بأمره أن يأمر بوقف القتال. "تنفيذا لمراميكم السامية، وغاياتكم الوطنية، وانطلاقا من رأفتكم، وحلمكم وعطفكم ورقتكم، فإن خدمكم، جيش الشخفاق، يأملون في أن توقفوا المجازر التي يرتكبها جيش المهرجان في حق أهلنا وربعنا، من خدمكم وحشمكم .... واحاكمـــــــاه" رقصت المحظية وهي ترى أكوام الجثث في الطرق والمزارع والأنهار، وما أن أوشك جيش الشخفاق على الانهيار، حتى أصدر الحاكم بأمره آخر قرار، يقضي بحظر تصدير السلاح والذخائر كذلك لجيش المهرجان ، فانقلب الحال والميزان، وأرسل المهرجان برقية استعطاف إلى جلالة السلطان يرجوه العطف والرأفة والحنان . وكان الحاكم بأمره يعلم بأن المهرجان بنى قصرا كبيرا في المنطقة المحايدة، وحفر نفقا من قصره إلى قصره السِّرِّي في المنطقة المحايدة. ولما أرسل الحاكم بأمره شعاعه، يجوس وسط النفق الطويل، رأي المهرجانَ ، وهو يزحف في النفق عاريا، ليصل إلى قصره في المنطقة المحايدة، فاكتأبت المحظية، وهي ترى المهرجان حافيا عاريا زاحفا، وقررتْ أن تكف عن تشجيع المهرجان، فأمر السلطان بأن يموت المهرجان خنقا في النفق قبل أن يصل إلى القصر الذي ظنَّ أنه سيكون قصرا لنجاته ! وأشار الحاكم بأمره بطرف إظفره إلى النملي حتى يختار الميتة المناسبة للمهرجان، فابتسم النملي، وطلب من المهرجان، أن يسبح عاريا في نهر الدماء، حتى يصل إلى مقر السلطان، وردَّ المهرجان بأنه لا يعرف السباحة ، فرد عليه النملي وقال: تتعلمها بإذن الحاكم بأمره عندما تقفز عاريا في النهر . ولما ألقى بنفسه عاريا في النهر، ظل الحاكم بأمره يضحك من الصباح وحتى المساء، على الجهل والجُبن والغباء ! وفي المساء خطب الحاكم بأمره،خطبته العصماء وقال: يا شعبي الجبار، يكفي ما حدث من عار، وأنا أعدكم بأن أمحو كل آثار الدمار، وسأشرف بنفسي على خطط الإعمار، سأُمتعكم بالحرية ، وسنبني المدارس والمصانع، ونُقطعكم الأراضي والمزارع، فمن اليوم سيعم العدل والإنصاف، وسنقضي على جذور الخلاف، وسنعين الرجال الصالحين، والأتقياء الأوفياء، لتنعموا بالسعادة والرخاء. وكان إظفر قدمه ينخس ُ النملى ، فيبتسم ويضحك ! انتقل النملي إلى قصر بناه من المرمر والمرجان ، وأخذ يجمع الأتباع والأعوان والغلمان والنسوان، في إمارة جديدة أسماها ( جواري الحاكم بأمره). وقسم أيامها إلى أعياد ، ففي كل يوم عيد، عيد الفقيد والشهيد، وعيد بزوغ الثمر، وعيد الجلوس على العرش، وعيد الزواج والطلاق، وذكرى مرور الأعوام على ميلاد اليعسوبي جد النملي ، وميلاد ابنة النملي، صاحبة العطوفة والسعادة، ويوم شفاء والده الدبور، من مرض النقرس، وللعلم فإن سلالة الدبور تعود إلى النسل الأول من الأشراف. ولما خطب النملي خطبته الأولى ، كان يوجه بصره نحو الشعاع حتى يراه الحاكم بأمره، وقف وهو يتمنطق بالدروع، ويتزين بالنياشين، ويحمل كل ألوان السلاح وقال: باسم الجلالة والمعالي، والرفعة والسيادة، والعطوفة والسماح، والعفة والقيادة ، باسم سيدنا ومولانا، ومالك أمرنا، أعزه الله وأيده بنصره وعافيته ، الحاكم الجليل، النبيل ابن النبيل، وحفيد الخليل التقي الوفي ، الحاكم بأمره أقول: لا حرب بعد اليوم، لقد وكلني الحاكم بأمره لأجلب لكم الخير، وأملأ الوطن عدلا ورحمة ، وسأبدأ من الغد بأمر سيدنا ومولانا بإجراء انتخابات حرة نزيهة، لتقولوا كلمتكم كما تشاؤون، فأنا من اليوم قد رشحت نفسي للإمارة، فمن يجد في نفسه الكفاءة، فليتقدم !! وفي الصباح اخترع رئيس لجنة الانتخابات ورقتين، الأولى بيضاء مكتوبٌ فوقها نعم للوالي النملي، والثانية سوداء مكتوب عليها لا . وشرح رئيس لجنة الانتخابات طريقة الانتخاب واختيار الأوراق السوداء والبيضاء في الساحة العامة، وفق ما يلي : أن يلبس كل من سيكتب في ورقة الانتخاب (نعم) ثوبا أبيض، وأن يلبس كل من سيكتب (لا ) ثوبا أسود. أن يمر حامل الورقة البيضاء أمام مسؤولي لجنة الانتخابات، وهو يحمل ورقته البيضاء في يده، ثم يضعها في صندوق يجلس عنده مندوب الوالي النملي. أما حامل الورقة السوداء، فسيذهب بورقته إلى صندوق الجماجم، حيث يجلس الجلاد ! وأعلنت إذاعةُ النملي نتائج الانتخابات في المساء، وفاز النملي بجميع أصوات الأحياء منهم والأموات. وجاء في خطبة الفوز: لقد حصحص الحق وانجلى، وهُزم الباطل وامَّحى، نهنئكم بنصرنا الساطع وبفوزنا الرائع، سيروا ونحن نرعاكم، وشرعت إذاعة النملي في بثِّ برقيات التهنئة ، طوال اليوم والليل ،وكانت البرقيات تحمل أسماء أفراد القبائل والأسر والعشائر والبطون والأفخاذ،واستغرب أصحابُ الأسماء ورود أسمائهم في إذاعة النملي، فهم لم يرسلوا البرقيات. وظلتْ مراكز البريد والبرق والهاتف مفتوحة بالمجان في الليل والنهار. وطلب النملي إذنا من الحاكم بأمره، أن يحتفل بالنصر المبين، فأرسل له الحاكم إشارة الموافقة.استيقظ الحاكم بأمره في الصباح بعد الانتخابات الحرة النزيهة التي جرت في سلطنة النملي، وفرد كفيه واستلقى على فراشه المحشو بالحرير والورد الناعم الطري المجلوب من أقاصي البلاد،والمخصوص بجلسة الصباح ، وأرسل الشعاع، يتفقد الأوضاع ، فرأى جنود النملي يتدربون على الغناء ، ويحفظون النشيد والإيقاع ، وشاهد الجنود يجلدون المتلكئين عن الحضور من الأنصار والأتباع.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |