كيف نصنع ديكتاتورا؟
قد تبدو هذه المقالة أغرب من عنوانها، ولكن هذا ما خلصت إليه بعيدا عن الإيديولوجيات والفذلكات. ولمَ الإستغراب ونحن نرى ديكتاتورا يحرق شعبه ويدمّر ثرواته ويفني أبنائه والعجب ألا تتعجّب هذه الأيام.
هتلر حرق أوروبا، بوش أشعل العراق، أما هذا القذافي فانه أضرم النار في بيته. وعندما تتأمّل أمثالهم من نوع ستالين أو ريغان آو مبارك يصيبك نوع من الفضول إن لم يكن الفزع لتتساءل كيف جاء هذا المعتوه؟، وكيف وصل هذا المهرج إلى هذا الموقع؟ أو كيف سيطر هذا الغبي على كل الملايين كلّ هذه السنين؟ يا إلهي إنهم كلّهم مجانين.
وتوافقني أنهم قفزوا للقمة لا لإبداع ولا لحِدّة ذكاء ولا لفضيلة، ولم يبزّوا أقرانهم بشيء يذكره لنا التاريخ، ولا يمكن التصديق أن أمّة مثل الأمة الألمانية أو الأمريكية أو الروسية افتقرت للأفذاذ، ولا العرب ينقصهم العلماء والمفكرين والكتّاب والمبدعين والفلاسفة والإعلاميين والفقهاء واللاهوتيين، لا في حقبة الانحطاط ولا في أيام النهضة ولا في العصر الحديث.
على العكس اينشتين رفض رئاسة دولة، ولاو تسو ترك منصب القضاء ولم يصمد أكثر من يوم، وفورباخ لم ينجح في انتخابات برلمانية، ولا احد من المسلمين الأفذاذ تبوّأ منصبا رفيعا، بل من المصيبة المضحكة أن الفارابي طورد حتى عاش في البساتين، ومات طارق بن زياد شحاذا معدما بعد أن نُتفت لحيته، وابن رشد حرّقت كتبه وكذلك مارتن لوثر كنچ اغتيل، وتاريخنا وتاريخهم مليء بهذه المآسي.
إلاّ أن الحقيقة مُرّة والاعتراف أمرّ، وهي انه هنا وهناك وصلت مسوخ من البشر وكتل من الغباء إلى سدّة الحكم، لدرجة تدعوك للاستغراب، ولا يمكنك إلا أن تسْتَتْفِه عِلمك وتستحقر ذكاءك لعدم فهمك هذا اللغز، وسيبقى جهلنا ماثلا أمام جنونهم ما لم نفكّ الأحجية وراء كل هذه القاطرة من الطغاة.
الناس عادة تلعن المستبد وتتساءل كيف تسلّل هذا الفرعون حتى تربّع على رؤوسنا، وما أصبحنا إلاّ وقد صادر أرواحنا وثرواتنا، وعبث بكل ما هو جميل في حياتنا وحياة أجيالنا.ومع ذلك؛ تبقى مفاتيح المسألة شاخصة لمَن يريد أن يفهم ويتعلم ويعتبر، فشعارات الثورة نفسها تقدّم قواعد اللعبة.
ماذا يقول الناس في ساحات التغيير والتحرير والتعبير لغاية الآن ؟، ولمَ الخوف من الثورة المضادة؟
ملخّص الشعارات؛ إسقاط النظام برموزه المادية وشعائره المعنوية، حريات مساواة عدالة وصياغة دستور، أي تجديد العقد الاجتماعي والسياسي والاقتصادي لتوزيع الثروات والمشاركة في السلطات لاتخاذ القرارات وإطلاق الحريات. كل هذا يعني شيئا واحدا؛ أنهم يريدون أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم وأن يقرروا مصيرهم بأيديهم، وما هذه التظاهرات إلا إشعار بالاستعداد لتحمّل المسؤولية، وهذا ما في... وما كان في كلّ الثورات.
وفي المقابل يخاف الثوار من الثورة المضادة، لأن القائمين عليها يعرفون أن هبّة الجماهير لن تستمر إلى الأبد على نفس الوتيرة، وان الانتباه يتراخى وان الكل ليس مستعدا لمتابعة إنهاء المهمة، وهذا مفهوم، فالملايين لن تبقى ملايين في الميادين، والحشود لن تثور في كل الثغور مَرّة ومرة بعد كل مرّة، فالطاقات والأعباء ليست موزعة بالتساوي على البشر، فللناس أعمال وأشغال وأحمال وأحوال.... من هنا يأتي الخوف على الثورة.
الناس ثارت لتسترد روحها أولا، وتنقذ كرامتها ثانيا، صحيح أن في الواجهة الخبز والبطالة، لكن من أشعل الثورة ليس الأكثر جوعا ولا الأعطل عن العمل ولا الأقل تعليما، بل هم الأرقى علما والأوفر عملا والأوسط معاشا. وجوهر الأمر أن من أهم صفات الوعي: انه حر وقد يتكاسل حينا أو يُكبت أحيانا أو يُجبر على التخفّي سنينا، لكنه يبقى حرا ليثور مستردا اعتباره، وإلاّ مَن هذا الذي يثور الآن؟، هذا هو الوعي.
ولو فكّرت بالكلمات التي تحتها خط لاستنتجت انك أمام مسؤولية: إمّا خائفة من الوعي، أو خوف واع بالمسؤولية أو وعي خائف من المسؤولية. وهذا يعتمد على الزاوية التي تقف عندها ملتقطا الصورة ونوع الفلم والعدسة التي تزوّدت بهما، ويبقى الموضوع كامن في إرادة الناس.
يا صاحبي تعريف الحرية هي تحمّل المسؤولية طواعية .
ومسؤولياتك ليست منفصلة عن حرّياتك ومتى أسقطتها على شخص آخر تكون أنت قد اختصرت كيانك إلى لا-كيان...، طبعا لن يلومك الآن احد إذا جرت الأمور للكارثة!، فهو الملام...، لكنك تكون قد جُرّدْت من روحك.
يا سيدات، ويا سادة، كل الدكتاتوريين في هذا العالم من صنيعنا، لأننا نريد أحدا آخرا ليُملي علينا ما يجب أن نعمله. فلا احد يريد تحمّل المسؤولية، لأننا نخاف من النتائج غير المضمونة لكل فعل نقوم به، وهذا مصدر القلق والتردد في تصرفاتنا سواء ايجابيا أم سلبيا.
عندما يُقال لنا ما يجب أن نعمله فإنه يُهيّأ لنا أننا أحرار من التبعات، وأحرار من أعباء التفكير، وأحرار من القلق والتوتر فكل المسؤولية تُلقى على أكتاف هذا الآمر.
نحن من يصنع الديكتاتور لنلقي عليه اللوم بسبب هروبنا وخوفنا وانسحابنا من ساحات المسؤولية، ولا ندري أننا بذلك نفرّط بفردانيّتنا وبديمقراطيتنا فنتخلّى عن حرياتنا، ونسلّم حقوقنا في التمثيل والتعبير والنشر والرسم والضحك واللعب، إننا نعطيه كل شيء.
طغاتنا وجدوا أنفسهم هناك لان ملايين الناس أرادت أن تُأتمر....وبغيابه تشعر هذه الملايين بالضياع. وهذا وضع غريب بعض الشيء، فملايين لا تريد مسؤوليات وقلائل مجانين مستعدون لتحمّل كافة المسؤوليات. والسّر وراء التّباكي، أنهم يأخذون حريتك مع مسؤولياتك، يأخذون كل ما لديك، حتى اخصّ خصوصياتك. هم من طابع بشري مختل، وأتجنّب واعيا كلمة إنساني، إنهم ذوو إرادة سلطوية رهيبة يدفعون أي ثمن في تحقيقها، لأنهم مجانين. على مرّ التاريخ كان الوضع مشابها...انتظرَ الناس السياسيين او القديسين او المجانين الذين يدّعون سلطة الله على الأرض بعد النبيين...وحيثما ظهر
أحدهم نقع في شراكه. وقد يُهيّأ لك في مرحلة ما أنهم شجعان لكنهم دائما كانوا متخفّين بأسماء وعناوين مختلفة ومتسلّقين قاصدين السلطة، وما يحدث الآن هو أحسن برهان.
إلاّ أن هذا يبقى اتّفاق خفيّ أبرم حينها بين ملايين فضلوا بعض قشور الموقع الاجتماعي والوظيفة والمصالح والمكتسبات فتخلّوا عن أرواحهم وبين أوغاد أو مجاذيب لديهم رغبة جامحة بالحصول على شيء واحد - السيطرة.
أعرف انك قد تتنّطح لإثبات غير ذلك فأهلا وسهلا، ألَمْ نعد نعيش عهدا عنوانه حرية الرّأي؟
العودة الى الصفحة الرئيسية
في بنت الرافدينفي الويب