العراق: تقدم الديمقراطية وتأخر الاعمار!
د. كمال البصري :talsaadi815@yahoo.co.uk
رغم التقدم النسبي في الحالة الاقتصادية منذ عام 2003 والذي تجسد في انخفاض نسبة البطالة من 51% الى 18%، والفقر من 54% الى 27%، ونسبة التضخم 65% الى 6% ، وارتفاع نسبة المستفيدين من المياه الصالحة للشرب من 30% الى 70%، وخدمات الصرف الصحي وشبكة المجاري من 6% والى 36%، وارتفاع انتاج الطاقة الكهربائية من 3500 الى 7500 ميغاواط، وارتفاع حصة الفرد من الناتج المحلي الاجمالي من 3000 الى 4000 دولار، ... ألخ، الا أنه لازالت شريحة واسعة من المجتمع تعاني من شحة الخدمات. ومؤخرا طفحت معاناة المواطنين بالتظاهر والمطالبة بتحسين ظروف معيشتهم. فيا ترى لماذا تلكأ العراق في قطع الشوط المطوب في مسيرة الاعمار؟
الحقيقة ان العراق حقق تقدما سياسيا من خلال الممارسات الديمقراطية، واصبح علامة فارقة في المنطقة العربية. وعلى نقيض ذلك عجزت المؤسسات الحكومية عن تقدم الخدمات الاساسية بالقدر المطلوب. ان التجارب والادبيات الاقتصادية تشير الى ان هناك تناسب عكسي بين تحقيق المشاركة السياسية وبين الاداء االكفوء، اذ ان المشاركة تجعل الخيارات المتاحة في استقطاب الكفاءات لادارة العجلة الاقتصادية محدودة.
بعد التغيير السياسي في 2003 حصلت المشاركة في الجهاز التنفيذي والتشريعي، الا ان ثمنها كان غياب وجود حكومة تكنوقرطية ذات مواصفات الفريق الواحد. واصبحت المشكلة اكثر تعقيدا بسبب غياب سيادة القانون ومانجم عنها من محاصصة بغيضة. نعم نتفهم الحاجة للمشاركة في السلطة، غير ان أستمرارها بشخصيات غير مؤهلة في ادارة ملف اعادة الاعمار أمر غير مقبول. اذ سرعان ما وجد العراق نفسه في مأزق "فاقد الشئ لايعطيه". وهذا ما دعى رئيس الوزراء المالكي الى المطالبة بحكومة تكنوقراطية، ولكن الدعوة ضاعت في ظلام التنافس السياسي، وغياب الضغط الجماهيري، وغياب تفعيل دور المؤسسات الفكرية و منظمات المجتمع المدني.
ادت مشكلة ضعف الخدمات الى اختناقات حادة، واثارت تساؤلات متعددة، بل تعدت الى مصداقية التشكيل السياسي المكون للحكومة. ومن هذه التساؤلات: الجدية والاخلاص والشعور بالمسؤولية، المعرفة الفنية والادارية، توفر التخصيصات المالية، الاجراءات البيروقراطية والتعقيد الاداري. ويجيب البعض باجتهادات مختلفة ومتباينة بحيث يصعب على المواطن الوصول الى الاسباب الحقيقية. في هذه الدراسة سوف نعتمد على الحقائق الاحصائية في التدليل على اسباب.
عند تفحص الامر منذ 2006 ولغاية 2009 نجد ان التخصيصات المالية لم تكن بالمشكلة. لقد وفرت الموازنة الفدرالية للفترة 2006- 2009 المبالغ التالية (بالمليار دولار): على الانفاق التشغيلي 153 (وكانت نسبة الانفاق منه 91%)، وعلى الانفاق الاستثماري 58 (وبلغت نسبة التنفيذ المالي منه 70%). وعليه يتضح ان التخصيصات المالية هي ليست مشكلة معيقة للاداء الاقتصادي. وابتعادا عن الرأي والحدس غير الدقيق من الضروري دراسة الامر من خلال استبيان لوجهات نظر المسؤولين في المؤسسات المختلفة. وهذا ما تطوعنا بالعمل به من خلال استطلاع أراء المفتشين العامين في الوزارات عن العوامل المؤثرة على تأخر المشاريع (باعتبارهم جهة اكثر الماما بمشكلات الاداء في مؤسساتهم). ومن ابرز نتائج الاستبيان العوامل التالية:
1. عوامل خارجية (بمعنى خارج قدرة المؤسسة في التأثير بها): وتتمثل بتأثير الظروف الامنية، وقيود ضوابط مؤسسات الرقابة، وغياب البنى التحتية الضرورية لاداء الاعمال، وضعف سيادة القانون والتجاوز على تقاليد العمل وشياع الدعاوى الكيدية ... الخ.
2. عوامل داخلية (بمعنى خاصة بالمؤسسة المنتجة للخدمات): وتشمل التنظيم واجراءات العمل داخل المؤسسات المختلفة وضعف المعرفة الفنية في ادارة المشاريع، وغياب حوافز الشعور بالمسؤولية ومركزية النظم الادارية وتعقيداتها. لقد ادت هذه العوامل الى تأخر وعدم الاتقان بالعمل، وتعدى تأثير هذه العوامل لتجعل العراق دولة طاردة للاستثمارات الاجنبية التي يعد وجودها امر ضروري لنقل التكنولوجيا ولتطوير عمل القطاع الخاص المحلي (من خلال التوأمة والاساليب الاخرى).
3. عوامل ضعف العمل التكاملي بين المؤسسات المختلفة: تتمثل بالعوامل المتعلقة بالتنسيق بين دوائر الدولة المختلفة، وتشمل على سبيل المثال: ضعف تعاون اجهزة الدولة فيما بينها في موضوع تخصيص الارض، وفي قرارات اطلاق صرف التخصيصات المالية(وزارة التخطيط)، وصرف التخصيصات الحكومية (وزارة المالية)، وفتح الاعتمادات (البنك المركزي والمصرف التجاري العراقي) ... الخ.
ومما تقدم يظهر ان العوامل الداخلية تشير الى عدم ممارسة العاملين لادوارهم بالكفاءة المطلوبة، وان ضعف التنفيذ يمكن ان يفسر: بالتقصير الذي يستلزم ايجاد الحوافز الضرورية (المعنوية والمادية)، اوبالقصور الذي يتطلب تدريب وتأهيل ووضع الشخص المناسب في الموقع المناسب. لاشك ان نسبة عالية من ضعف الاداء تعود الى غياب الشعور بالمسؤولية. أضف الى ما تقدم ان تقاليد العمل في الدوائر الحكومية تمثل تقاليدا قديمة وشاذة عن الانماط السائدة في الدول الاخرى. لهذا يأتي تسلسل العراق في مجال تعقيد الاجراءات الحكومية بتسلسل 153 من بين 183 من دول العالم. ومعلوم ان وجود بيئة صعبة ومعيقة لسرعة الانجاز تعد مرتعا لنمو الفساد. ولهذا تبين مؤشرات مؤسسة الشفافية العالمية الى ان العراق ثالث اسوء دولة. ان الامانة في الحديث تتطلب الاشارة الى اننا على ما نحن عليه هو نتيجة للتركة الثقيلة للنظام السابق التي طالت نسبة كبيرة من المجتمع العراقي.
فكانت الحكومة أنذاك مصدرا لخسارة المال والحياة لمعظم العراقيين. ونجم عن ذلك هبوط في الشعور بالسؤولية تجاه المصالح العامة وغلبة المصلحة الخاصة على العامة. انها مشكلة في غاية من الاهمية باتت تفسر معظم اخفاقاتنا السياسة والاجتماعية والاقتصادية. وحل هذه المشكلة يتوقف على الجهود المشتركة لممثلي مؤسسات الدولة والدين والمجتمع، والتي هي في حقيقة الامر غير مفعلة. ان الأداء الاقتصادي الحكومي بشكل عام يعتمد الى حد كبير على ثلاثة عوامل هي: وجود التخصيصات المالية، المعرفة الفنية لادارة التصرف بالمال
العام، توفر البيئة الاقتصادية – الاجتماعية المناسبة. ومما تقدم ان المشكلة ليست بالعامل الاول المتمثل بالتخصيصات المالية، بل هي في العوامل الاخرى. اما عامل المعرفة والدراية في مجال السياسة المالية (على سبيل المثال) فأنها تحتاج الى كفاءة متقدمة لاغراض التفاوض مع العالم الخارجي وعقد
الاتفاقيات الضرورية، والتعامل مع ملف الديون، ولمعالجة الاختناقات في تلبية المتطلبات المالية للقطاعات المختلفة، والمعرفة بالاسواق العالمية. ان التجربة العالمية تؤشر بوجود علاقة وثيقة بين الادارة السياسية المالية السليمة والرفاهية الاقتصادية (ولعل تجربة تشيلي وماليزيا وسنغافورة والهند والامارات العربية خير مثال).
وعلى الرغم من ان الادارة السياسية قد انتقلت الى الزعامات السياسية العراقية بعد منتصف 2004 الا انه ولحد الان لانجد هناك خطط اقتصادية محكمة، فالموجود مجرد رغبات فردية للمسؤولين ولمشاريع محددة، يضاف الى ذلك الافتقار الى دراسة الجدوى الاقتصادية للمشاريع المختلفة. كما لايوجد مجلس اقتصادي يستنير بالطاقات العراقية (في الداخل والخارج) لرسم السياسات المالية والاقتصادية.
ومع ان العراق كان ولا يزال مؤهلا للاستفادة من الخبرات الاجنبية، الا انه كان يفتقر لاقتطاف هذه الفرص بشكل سليم. فبالرغم من وجود عدد كبير من الاستشاريين التابعين للمؤسسات الدولية، الأ انهم يفتقدون التوجيه والمتابعة السليمة، الامر الذي ادى الى هدر كثير من الطاقات والامكانات. اما فيما يتعلق بالجانب الاستشاري للحكومة فبدلا من ان تكون هناك جهة مركزية تضم قيادات متمرسة في التخطيط والعمران، نجد ان كثير من
القيادات السياسية أرتأت ان يكون في مكاتبها جهازا استشاريا مبنيا على اسس المحاصصة (لا يتمتع بالكفاءة والخبرة). والغريب ان اجهزة الرقابة تقف متغاضية عن الامر ولا تتحدث عن الهدر بالمال العام في هذا الامر (كما هي قادرة وجادة على تشخيص الهدر في مرافق اخرى). ان وجود جهة استشارية كفوءة من شأنها ان تحقق كثير من المكاسب. فعلى سبيل المثال مع شحة التخصيصات المالية الضرورية لتغطية برنامج
اعادة الاعمار وضعف الامكانات الفنية البشرية اللازمة، لم تكن لدى المسؤولين المعرفة الفنية لمواجهة وتقليل من طول فترة معاناة المواطن مثلما شرعت كثير من الدول (كالاردن ومصر والسعودية وتركيا والهند ... الخ) مواجهة هذا التحدي من خلال تبني عقود "مشاركة القطاع الخاص للعام". فالاردن الان تمول بعض مشاريعها الاستثمارية عن طريق هذا اللون من العقود لانشاء مطار جديد، ومد خطوط السكك الحديدية ...الخ. ان من متطلبات تحسين الاداء العام في انتاج الخدمات الحكومية، هو وجود بيئة تخدم سيادة القانون تتضمن حماية الحكومة بحماية تطبيق القانون
(دون تمييز) ووضع الفرد المناسب بالموقع المناسب. ان غياب الامانة في تطبيق القانون يؤدي الى غياب الشعور بالمسؤولية وتغييب المواطنة الصالحة وتفعيل الانقسام الاجتماعي. وهي مواصفات لاتتناسب طرديا مع حالة الرفاهية الاقتصادية.
ان التشكيل الحكومي على اسس محاصصة او ما يسمى بالمشاركة هي مغامرة ثمنها رفاهية المواطن. ان الحكومة التي تخدم سياسة الاصلاح الاقتصادي هي حكومة تكنوقراطية بحتة. نعم ان تردي ظروف العراق لاتسمح بقيام حكومة احزاب متنافسة ومتنافرة لاتتمتع بالكفاءة الفنية الضرورية. وهنا يأتي ضرورة تمكين المؤسسات الدينية ومنظمات المجتمع المدني بتسخير امكانياتها و تعاليمها لتعزيز وترسيخ الشعور بالمسؤولية وتشجيع
مبادرات العمل الطوعي على صعيد المناطق السكنية او دوائر العمل وعلى صعيد التجمعات الاخرى كمؤسسات المجتمع المدني والمراكز الدينية. وهنا لابد ان يكون هناك دعم حكومي مالي (منح) لتمكين تلك المؤسسات من أداء دورها في تعزيز التلاحم الاجتماعي والتأخي الوطني ومن ثم سيادة القانون ومن خلال ماتقدم نجد هناك ضرورة في : • تشكيل حكومة تكنوقراط تهدف الى: تحقيق سيادة القانون ومعالجة النقص في الخدمات الاساسية من خلال فتح باب الاستثمارات من خلال عقود مشاركة القطاع الخاص للعام ( وذلك بسب صعوبة البيئة الاستمارية). • اعتماد سياسة تربوية وتعلمية متطورة تساهم في رفع مؤشرات التنمية البشرية وتوفير كل التخصيصات المالية الضرورية (ولو على حساب القطاعات الاقتصادية المنتجة). • تفعيل دور مؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الدينية بما يضمن تعميق الشعور بالمسؤولية وتشجيع والعمل الطوعي (من خلال المنح المالية) من خلال تمويل المشاريع المطلوبة. • تأسيس هيئة استشارية رفيعة المستوى تضم الكفاءات المتميزة ( من داخل وخارج) تأخذ على عاتقها الاشراف على سياسة الاصلاح. • التأكيد على التدريب في مجال تنمية القيادة الادارية والفنية لتجاوز اساليب وتقاليد العمل البالية التي تعيق عجلة النشاطات ورفع نسب التنفيذ في المشاريع الاستثمارية.
العودة الى الصفحة الرئيسية
في بنت الرافدينفي الويب