عندما يختلط النفسي والديني والحقد السياسي في تفسير الفعاليات الاحتجاجية !!!!

 

د.عامر صالح

" فاقد الإرادة هو أشقى البشر "

                      أرسطو

يلاحظ معظم المتابعين للوضع السياسي في العراق أن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية تتجه وجهة تشاؤمية, على الرغم من صيحات التفاؤل الخجولة هنا وهناك, والتي تؤكد أن الديمقراطية تسير بخطوات راسخة إلى الأمام. وكما نفهم بدون شك من أن الاختلافات في الآراء والمعتقدات والأديان ووجهات النظر, هو سنة من سنن التطور الجدلي للظواهر, وعلى قاعدة " لو تساوى الناس هلكوا ", فالناس يختلفون من حيث المساواة " حيث لا توجد مساواة مطلقة على الأرض ", ويتنوع الناس من حيث قدراتهم الفكرية والعقلية والسياسية, والمشكلة ليست في هذا التنوع باعتباره شرط لازم للحياة وللوجود الإنساني, ولكن المشكلة أن يصبح هذا التنوع مصدرا لمشكلات اجتماعية كبرى, وخاصة عندما تؤسس إدارته على قاعدة غير واضحة المعالم, يفضي إلى إلغاء الآخر, في ظروف تباين كبير في التركيبة السكانية الاجتماعية وما يتبعها من تمركز للسلطة والمال والدين والعرق والطائفة لبعض من مكونات هذا التنوع, وخاصة عندما يستخدم لعرقلة النمو الطبيعي والموضوعي للفسيفساء الاجتماعية وعدم التمكن من تأسيس حالة صحية لجدل تنوع المعارف والأصول في إطار الوحدة الاجتماعية !!!!.

 وعلى خلفية ما تأسس في العراق من نظام سياسي محاصصاتي ما بعد سقوط النظام الدكتاتوري 2003 فقد زرع بذور تحول تنوع العراق الفكري والعرقي والديني والثقافي إلى نقمة على أهله وليست نعمة, كما كان المرء أن يتمنى ويتغنى به, وكما هو في حقيقته الموضوعية التي يجب أن تكون, فقد تحولت المكونات الكبرى للمجتمع, الدينية منها والثقافية والاثنية إلى حاضنات للاستقطاب والتمترس ضد الطرف الآخر المغاير, وكانت التضحيات كبيرة جدا لدى جميع الأطراف, وخاصة بالنسبة للمكونات الأقلية الدينية والثقافية والسياسية الصغرى, مما أضفى على الحياة بصورة عامة وعلى المشهد السياسي بشكل خاص مسحة التطرف والتخندق وإعادة توليد بيئة الإرهاب والإقصاء الفكري والعقائدي والديني للأفراد والجماعات المختلفة !!!.

 وقد ساعد على ذلك بشكل أساسي هو تمركز السلطة والمال والدين بيد السياسيين " ممثلي " الكيانات الاثنية والطائفية الكبرى, فأفرزت ظواهر خطيرة, كالفساد الإداري والمالي ونهب المال العام والفقر والبطالة وانعدام الخدمات الأساسية وانهيار كفاءة القطاعات المنتجة للفكر والعلم والتربية والثقافة, فأصبح مشهد الاستحواذ والإقصاء والهيمنة والتجيش هو سيد الموقف, بعد إن توفرت له كل أدوات الإيغال من أجهزة أمنية ومخابراتية مبنية على أسس تفتقد إلى الكثير من المهنية والحياد, وممارسات دينية تضفي على الموقف " شرعية " روحية لدى جموع البسطاء من الناس الجياع لعقود خلت يضعها في حالة صعبة من الإحجام والإقدام النفسي لعرقلة خياراتها صوب تحقيق مطالبها الإنسانية في العيش الكريم !!!!.

 وفي الوقت الذي حسمت فيه جماهير شعبنا خيارها صوب المطالبة السلمية بحقوقه المشروعة والعادلة والتي جسدتها احتجاجات جمعة الغضب وجمعة الكرامة, والتي كان أبرزها: محاربة الفساد الإداري والمالي وتقديم رموزه للعدالة, وإيجاد فرص للعمل والقضاء على البطالة في عراق يجلس على بحيرة من النفط الأسود وتختلس فيه عشرات المليارات من الدولارات بين ليلة وضحاها, وتأكيد حقوق الطفولة والنساء, وتوفير الخدمات العامة من كهرباء وماء وصحة وغيرها, ومحاسبة المزورين, ومطالبة البرلمان بالالتزام والعمل النزيه والاستماع إلى معاناة الشعب الحقيقية, وجميعها مطالب الحد الأدنى في المجتمعات التي تريد أن تبني فعلا ديمقراطية بالأفعال لا بالأقوال والتحايل على الديمقراطية, فقد استنفرت القوى الحاكمة وبكل ما تملكه من أجهزة أمنية ومخابراتية ومؤسسات دينية والتي يفترض أن تقف إلى جانب مطالب الشعب العادلة وتفهم حقوقه المطلبية, إلى أن تقف موقف الريبة والتشكيك وإضفاء المشهد التآمري على المنتفضين عبر " سيمفونية عودة البعث ورموزه " !!!!.

 وما يؤكد عدم صدق الحكومة وهاجسها المرضي, هو أن الكثير من المتظاهرين, سواء من انضوى منهم تحت ألوية الأحزاب الإسلامية الدينية الطائفية أم خرجوا فرادا, هم في السابق من البعثيين, فهل تحارب الحكومة وتحتاط من نظام البعث المنهار والته القمعية الغير موجودة, أم تحارب أناس ذو مطالب عادلة وباختلاف النوايا ماداموا غير مسلحين ولا يهددون سقوط النظام, وإذا كان النظام الديمقراطي الجديد في العراق يخاف من البعثيين والقاعديين, فأين الجماهير الفعلية التي تحمي النظام الديمقراطي, فعلى النظام الديمقراطي أن يثق بنفسه وقدراته قبل أن يشكك بنوايا الآخرين مهما كان حجمها. أن الخلط بين النظام السابق المنهار والته القمعية والمخابراتية " البعبع الغائب ", وبين شرائح من المتظاهرين ذو الأصول البعثية, هو خلط لا يقتنع به عاقل في السياسة, وإذا كانت جماهير البعث المنهار تساوى بقدراتها النظام السابق بعدته وعدده وقدراته, فأين قدرات البديل الديمقراطي وأين حماته وأين هي القدرات الذاتية بعد مضي ثماني سنوات من سقوط النظام, أم هي كلمة حق أريد بها باطل, أم هي فوبيا البعث التي تلاحق الحكومة إلى الأبد وتدفعها لإلحاق القتل والضرر والرعب في نفوس المتظاهرين ودفعهم للقنوط و السكوت  عن مطالبهم كما كان يفعل النظام الساقط !!!!.

 أن أوساط شعبنا تعرف تماما أن شرائح واسعة من المحتجين والمطالبين بحقوقهم هو من القوى الوطنية والتقدمية واليسارية والشيوعية, ومن بينهم الكثير من الشيوعيين القدامى والذين لا يمارسون عملا حزبيا اليوم, والجميع قدم تضحيات جسيمة في ظل النظام الدكتاتوري السابق والحق بهم الظلم والغبن الاجتماعي وزجوا في غياهب السجون لسنين وفقدوا ابسط الامتيازات, فهل كان رئيس الوزراء المالكي بانفعالاته السلبية الضارة بإصداره الأوامر لأجهزته بغلق مقرات الحزب الشيوعي وحزب الأمة وما سوف يتبعها من أحزاب وطنية هو جزاء لما قدموا من تضحيات أم هو إنذار لبدء حملة تنكيل بالقوى الوطنية ودفعهم خارج الحدود كما فعل النظام الساقط, ولكي يصح القول في النهاية " ظل الدار لمطيرة وطارت بيه فرد طيرة " !!!.

 تتدخل الفتاوى الدينية أشبه " بقوات التدخل السريع " في العلن والخفاء وكعادة تدخلها في الانتخابات السابقة وغيرها لتلقي بضلالها على تعقيد الموقف السياسي في العراق, ومنع المتظاهرين من المطالبة بحقوقهم والتعبير عنها, فهي أعطت للناس شكليا حق التظاهر ومنعته فعليا بتصريحات قبل التظاهر, وما علاقة مرشد الثورة الإسلامية في إيران علي خامئني بأن يفتي بمنع التظاهرات في العراق, وإذا كان بعض من القوى السياسية الدينية في العراق تقلده فهل هذه الفتوى في محلها !!!. نحن نعلم في اللغة أن المظاهرة تعني: المعاونة والتظاهر: التعاون, واستظهر به, استعان به, والظهارة ضد البطانة, والمظاهرة حتى من ناحية جوازها دينيا فهي تعني:

 ـ إعلان لمشاعر المسلمين وإظهار لقوتهم.

 ـ إنكار الظلم وأمر بالمعروف, ونهي عن المنكر.

 ـ أنها وسيلة مشروعة, ووسيلة إعلامية.

 ـ ويؤكد الكثير من المشرعين إن المظاهرات هي في معرض الوسائل التي استخدمت منذ بدء الإسلام, ولا يجوز فيها إراقة الدماء, وهي واجبة عندما لا تكون هناك وسيلة لتغير المنكر أو للحصول على حق, أو دفع للظلم.

 ألا تكون الشروط أعلاه هي كافية في العراق للتظاهر, فلماذا استخدام الخطاب أو الفتاوى المراوغة التي تضع الناس في حيرة من أمرها, وهي بأمس الحاجة للظهور والاحتجاج للتعبير عن مرارة العيش وحتى في الحفاظ على دينها الحنيف, وإذا كانت حكومة المالكي قد تجاوزت على حق الشعب في التظاهر دستوريا, فيجب على الأقل أن تفهم هذا الحق دينيا !!!.

 أما من ناحية الفطرة الإنسانية, فأن سلوك التظاهر إن كان تأييدا أو احتجاجا فهو يعد من ضمن ردود الفعل الطبيعية للفرد منذ طفولته الأولى. إذ تبدأ مظاهر الاحتجاج لدى الطفل مع حرمانه احتجاجا ورفضا, وضحكاته وتصفيقه تقبلا وتأييدا. ومع نمو الطفل وتنشئته وتطبيعه اجتماعيا تتخذ المظاهرات طابعها الممارس من قبل البالغين في الساحة السياسية متأثرة بالظروف الثقافية والسياسية والإرث الاجتماعي, ففي المجتمعات الديمقراطية العريقة يدخل التنظيم ليضفي على المظاهرات السياسية بعدا أكثر عقلانية من حيث بدايتها ونهايتها وشعاراتها الأساسية. ونعتقد أن المظاهرات السياسية الأخيرة في العراق تأثرت كثيرا بالإرث السياسي للقوى الوطنية والتقدمية واليسارية, فقد اتسمت بالكثير من الايجابية والانضباط والحرص الشديد على الأداء المتميز وحتى باعتراف المسئولين العراقيين في الحكم وعلى رأسهم المالكي, مما يسقط فكرة المؤامرة والانصياع وراء الحماس اللاعقلاني أو إنها تحرك بأصابع مشبوه داخلية وخارجية, وهي ليست حشود قطيعيه هستيرية ولا قاعدية كما توقعها البعض, ولا حشود لمشجعي فريق كرة قدم ... إنها مظاهرات مطلبيه بامتياز تجري بعد سقوط النظام السابق منذ ثماني سنوات وفي ظل تدهور مستمر في مختلف مجالات الحياة وعدم وضوح الرؤى في قضايا مفصلية تهم مستقبل العراق وأبنائه !!!!.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google

 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com