|
أنت في أرض الرافدين
عندما يتوحد سكان المدن والأرياف والبوادي والقصبات, في حيازتهم للجليكانات البلاستكية, وفي امتلاكهم للبراميل المعدنية, وعلب الصفيح المتباينة الأشكال والأحجام والألوان, بحيث يكون من المتعذر عليهم الاستغناء عنها في تخزين الماء أو البنزين أو الكيروسين أو زيت الغاز, فاعلم أن هذه الظاهرة الجليكانية الحصرية لن يتأثر بها الناس في سائر أقطار المجموعة الشمسية إلا في أرض الرافدين. عندما يتوحد سكان المدن والأرياف والبوادي والقصبات, في حيازتهم لأجهزة توليد الطاقة الكهربية, بحيث لا يخلو بيت, أو مدرسة, أو مسجد, أو مؤسسة, أو شارع, أو زقاق, أو دكان, أو ورشة من منظومات التوليد المتحركة أو الثابتة, ومن كافة الأنواع والموديلات, وبمختلف القدرات الكهربائية, حتى تتشابك الأسلاك والقابلوات, وتختنق المدن بدخان المولدات, وتتمزق أعصاب الناس من شدة الضجيج, ويصبح من المتعذر الاستغناء عنها في تأمين الإنارة الليلية, وفي تشغيل الأجهزة الضرورية, فلا تندهش ولا تتعجب, فهذا هو واقع الطاقة الكهربائية المتردية في ارض الرافدين. عندما يتوحد سكان المدن والأرياف والبوادي والقصبات في الهم والغم والتعاسة والآلام, ويتقاسمون الحزن والوجع في الأرض التي زحفت عليها الكوارث, واكتسحتها النكبات, وتربصت بها الأحقاد, وطاردتها الحروب وحاصرتها الفتن, ونخر في عظمها الفساد, فيحق لك أن تبتئس وتكتئب, وتبكي بحرقة, خصوصا بعد أن صار البؤس عنوانا لأرض الكربلاءات والفواجع. عندما يتوحد سكان المدن والأرياف والبوادي والقصبات في شراء المياه العذبة من الأسواق والمحال التجارية والباعة المتجولين, واستيرادها من البلدان الصحراوية المجدبة, وجلبها إلى البلد الذي تجري في عروقه أكبر الأنهار, وأشهر الروافد, وأغنى الجداول, وأجمل السواقي, وأوسع الأهوار, فصدق أو لا تصدق أن هذا هو ما آلت إليه أحول الملوحة والجفاف في أرض الرافدين. عندما تتصاعد مؤشرات ظاهرة (الحواسم), وتتسع خارطة التجاوزات السافرة على عقارات الدولة, وتتعدى على الأملاك الخاصة والعامة, وتتمدد أخطبوطيا وأميبيا بالطول والعرض, وتتغلغل في ضواحي العاصمة وأحيائها الراقية, وتزحف في الاتجاهات العمودية والأفقية, بحيث تتكدس بيوت الطين والصفيح في الساحات والحدائق والملاعب والمساجد والمدارس والمقابر والأسواق, فلا تستغرب من هذه الظاهرة, التي لم تحدث, ولن تحدث في الكون إلا في أرض الرافدين. عندما تطغى المصلحة الشخصية فوق المعايير الأخلاقية, بالقدر الذي يتخلى فيه السياسي عن قيمه ومبادئه من دون تردد, ولا يلتزم بالأعراف والتقاليد التنظيمية, فيتأرجح في انتماءاته, ويتقلب في ولاءاته المزاجية من كتلة إلى أخرى, ويتذبذب ويميل حيثما تميل بوصلة الكفة الفائزة, عندئذ يحق لك أن تبتئس وتكتئب على هذه المشاهد الانتهازية, التي صارت من المؤشرات المخجلة في سجلات العملية السياسية لأرض الرافدين. صارت اليوم تستورد القمح والرز والبقوليات من القارات البعيدة, وتستورد الفواكه والخضروات واللحوم والدواجن والألبان ومشتقاتها من الكويت والسعودية والأردن وإيران وسوريا, عندئذ يحق لك أن تضج بالعويل والبكاء على اضمحلال الحقول, ويحق لك أن تتحسر على ضياع بساتين ارض الرافدين. عندما تكون العبوات الناسفة, والسيارات المفخخة, والمتفجرات اللاصقة من مفردات الابتزاز السياسي, وتتحول الأسواق والمدارس والمستشفيات إلى مسارح مأساوية تتساقط فوق خشبتها الأرواح البريئة الطاهرة من كل الأجناس والأعمار ومن دون رحمة, فاعلم علم اليقين: أن تلك الفئات المتناحرة هي التي قامت بدور البطولة في كل المسرحيات التراجيدية, التي صادرت ابتسامة الأطفال, وسرقت الأمن والاستقرار من ربوع ارض الرافدين. عندما ترى مواكب المسئولين وعجلاتهم المزمجرة المسلحة المصفحة, وهي تنطلق بأقصى سرعاتها, وتخترق الشوارع المكتظة بالسيارات والمارة, ولا تحترم إشارات المرور, ولا تكترث لتعطل مصالح الناس, فلا تتعجب أبدا لأن عجلات المسئولين تسيدت على الشوارع كلها, وحازت على الأولوية المطلقة في الاجتياز والمرور, فتمتعت بحرية التبختر حيثما سارت في ارض الرافدين. عندما يشترك السياسيون, ورؤساء القبائل في العزف والتطبيل العشوائي المتواصل على آلات التمزق والتجزئة, ويتطوع معهم بعض الباحثين عن الزعامات المتطايرة في حرب الكراسي, فيشاركونهم في قرع طبول التقسيم, ويتهافتون معهم في السعي المحموم نحو سراب الأقاليم الضعيفة, والكيانات المنفصلة عن المركز, فكن حذرا من هذه الدعوات الرامية إلى تقطيع أوصال ارض الرافدين, وتمسك بتربة مهد الحضارات, وعراق الأرض, وغُرّة الأوطان, ودار الحكمة والسلام.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |