|
جواباً على سؤال: لو اخلص بعض الإسلاميين الحاكمين في العراق للفكر والمنهج لما فشلوا د. حامد العطية طرح الأخ الفاضل الأستاذ فرقد العسكري سؤالاً ضمن تعليقه على مقالتي الآخيرة، التي أعربت فيها عن ثقتي بتمسك الشعب العراقي بالخيار الإسلامي، واقتناعي الراسخ بتصميم هذا الشعب المؤمن على السير بوعي وخطى ثابتة، نحو انشاء نظام سياسي إسلامي، مبني على قيم الدين الخالدة في الحرية والعدالة والمساواة. وكان نص السؤال كما يلي :" هل دعاة السلطة وشيعة السلطة وعشاق دنيا هارون الرشيد الذين سقطوا في الفتنة هم الذين يمثلون الإسلام ؟" سؤال جدير بالاهتمام، وسأجتهد ما استطعت في الرد عليه، وبالإيجاز الممكن. من الممكن الاكتفاء بالجواب المتضمن في السؤال نفسه، فمن الواضح بأن الموصوفين بالسؤال، أي دعاة السلطة وعشاق هارون الرشيد والساقطين في الفتنة، بعيدون عن الإسلام، وهم لا يمثلونه، على صعيد التطبيق والسلوك حتماً، ولربما بالفكر أيضاً، وللانصاف ينبغي تحري إن كان ذلك منهم سوءاً في الاختيار والتدبير، ووهناً في المناعة ضد إغراءات السلطة والمنصب، أم هو انحراف جذري عن الغايات وفي الوسائل، يستدعي التساؤل حول مدى إخلاصهم لمبادءهم المعلنة. أفهم من السؤال بأن المقصود بدعاة السلطة هم قادة بعض الحركات الإسلامية، التي اعتلت مواقع السلطة بعد الإحتلال الأمريكي، بالتعيين من سلطة الإحتلال في البدء، ومن ثم بأصوات الناخبين في الإنتخابات النيابية، أما شيعة السلطة فهم انصار دعاة السلطة، والثابتون على تأييدهم ابتغاءً لمصالح ذاتية، أو انطلاقاً من تعصب طائفي ضيق بحت. ارتضى دعاة السلطة الإحتلال الأجنبي، ويعد ذلك اعترافاً بضعفهم وعجزهم عن اسقاط النظام البعثي الجائر، وقد يستدل من ذلك على قلة ثقتهم بالله ووعده بنصرة المؤمنين المجاهدين الصابرين، وهم ساهموا في توفير الغطاء الشرعي لوجود واستمرار الاحتلال، من خلال تلميع صورته في أذهان الناس من احتلال ذي أهداف وغايات استكبارية إلى تحرير مزعوم للمستضعفين العراقيين، ومن المؤكد بأن الخلاص من ذلك النظام الطاغوتي كان حلم كل المظلومين والمحرومين في العراق، وهو غاية إسلامية، ولكن لم يخطر ببال أحد منهم يوماً الاستعانة بغير الله أوالاعتماد على غير المؤمنين المجاهدين في تحقيقه. وقالوا أيضاً بأنه انتهاز لفرصة، حتى لا يتكرر ما حدث بعد الاحتلال البريطاني عندما أفتى علماء الدين بحرمة المشاركة في نظام سياسي تحت الاحتلال، وهذه حجة غير مقبولة، لأن أساس مشاركتهم غير مشروع، يبرر الوسيلة بالغاية، وهنا الغاية والوسيلة باطلتان، ولنتذكر بأن المشاركة في العملية السياسية ليست هدفاً بحد ذاته، بل هي في الحقيقة وسيلة لغاية أعلى، وهي تحقيق مصالح الأمة، وكما بين لنا الإمام علي عليه السلام في تمييزه بين الإمارة الغاية والإمارة الوسيلة، في تفضيله بين خصف النعل والإمارة، وقوله: ( والله لهي [أي خصف النعل] أحب إلى من إمرتكم، إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً) وقد استشكل معنى هذا الحديث على أحدهم فتسائل كيف يفضل إمامكم خصف النعل على الإمامة، والإمامة في مذهبكم أصلاً من اصول الدين؟ وهو تساؤل ينم عن معلومات ناقصة وفهم مضطرب، فلو تمعن قليلاً في حديث الإمام لتبين له إشارة إلى ثلاث حالات، إمامة شاملة للسلطتين الدينية والسياسية، وإمامة مقتصرة على السلطة الدينية، وإمارة سياسية بحتة، وتتحقق الحالة الأمثل والمصلحة الأعلى للمجتمع الإسلامي عندما يحكم الإمام، فتجتمع له السلطتان الدينية والسياسية، أما الإمارة بحد ذاتها فهي متغيرة، وتتراوح قيمتها صعوداً ونزولاً بمدى اقامتها للحق ودفعها للباطل، أي إلتزامها بالضوابط والقيم والأخلاق الإسلامية، وتكون الإمارة مذمومة وغير ذات قيمة إن كانت غاية بحد ذاتها، وبهدف التسلط على رقاب الخلق، وهي غاية معاوية بن ابي سفيان التي بينها في خطبته بأهل الكوفة: ( قاتلتكم لأتأمر عليكم وعلى رقابكم). ضمان بإقامة الحق ودفع الباطل، لأن القرارت كلها بيد المحتلين، كما اقر أحدهم بذلك ، ولم ينتج من مشاركتهم سوى شرعنة الإحتلال، وترسيخ تسلطه على العراق، وتسخير شعبه ومقدراته لمصالحه واغراضه المناوءة للإسلام، والمخالفة لمصالح العراق وأهله. تحتم الشريعة الإسلامية مشروعية الغايات والوسائل، وكما لا يجوز ابتغاء غاية غير شرعية، كذلك لا بد من اتباع الوسائل المشروعة في الوصول للغايات المشروعة، ويبين لنا الأمام علي عليه السلام ذلك في قوله: ( والله ما معاوية بأدهى مني ولكنه يغدر ويفجر)، وكذلك في استنكاره "طلب النصر بالجور"، ومن المؤكد بأن نصر الإمام مطلب مشروع، بل هو قمة المطالب، لما ينطوي عليه من مصالح جمة، ولكنه لا يبرر اللجوء للجور في تحقيقه، ولو أخذت هذه الحركات والجماعات السياسية بهذا المبدأ لامتنعت عن نصرة الإحتلال، والموقف الصحيح قبل الاحتلال هو معارضة الاحتلال والنظام الجائر في الوقت نفسه، وبعد سقوط النظام معارضة الاحتلال. غلبت حسن الظن بهذه الحركات الإسلامية، وتوقعت منهم الانقلاب على الاحتلال، بعد ازاحته لحكم الطاغوت البعثي، ومطالبته بالانسحاب الفوري، بعد ان تحققت أهدافه، ليختار العراقيون نظامهم السياسي بأنفسهم، أو حتى بمساعدة من قوات تحمل علم الامم المتحدة، ومن دول غير المشاركة بالإحتلال، وغير معروفة بمساندتها لنظام الطاغية أيضاً، ولكانت الوسائل السلمية كافية لطرد المحتلين، وبالاعتماد على الله والمؤمنين، لكنهم خيبوا الظن الحسن بهم، ورضوا ببقاء المحتلين، رافضين حتى تسميتهم بالمحتلين، وداعين إلى اعتبارهم قوات تحرير متحالفة، ومتغافيلن عن تحويل المحتلين لإرض العراق إلى ساحة صراع مع الإرهابيين، ووقعوا مع الاحتلال معاهدة استراتيجية، تمهد لاستمرار نفوذهم حتى بعد انسحابهم. بعد أن اقترفوا خطيئة القبول بالإحتلال اجترحوا خطيئة تبني النظام الطائفي التحاصصي، وحاولوا اقناع الشيعة بأنه الضمانة الأفضل لتمثيلهم في السلطة وعدم تهميشهم في المستقبل، وأي طالب مبتديء في حقل السياسة مدرك تماماً لمساويء هذا النظام، الذي ابتلي به اللبنانيون أكثر من نصف قرن، ودفعوا ثمنه حروباً أهلية وتمزقاً طائفياً وخراباً عاماً، وكان أكثر الناس معاناة من النظام السياسي الطائفي في العراق هم مستصعفوا الشيعة، الذين استهدفهم الإرهابيون لكونهم اهدافاً سهلة بالقتل والاغتصاب والتشريد، ولم يوفر لهم المحتلون حماية من هجمات الإرهابيين، بل منعوهم من حماية أنفسهم بوسائلهم المتاحة، ويتحمل النظام الطائفي التحاصصي المسئولية مع الإحتلال عن كل الكوارث والمصائب التي حلت بالعراق بعد سقوط النظام، بما في ذلك قدوم الإرهابيين، واقتراب العراق من شفير حرب أهلية، وعودة البعثيين، وتفشي الفساد، وسوء الإدارة، وتعثر عمليات تشكيل الوزارات وصنع القرار، وارتفاع نسب الفقر والبطالة، وتخلف الخدمات وغيرها من مظاهر التدهور الشامل في الوضع العراقي. النظام الطائفي غير مقبول، لتعارضه مع العقيدة الدينية، ولتدني فاعليته، كما ثبت من تجارب بعض الدول، لذا اجتهد دعاة السلطة من الحركات الإسلامية الشيعية في تبريره من خلال التأكيد على كونه البديل الوحيد لتجنب الفرقة بين مكونات الشعب العراقي، ولضمان حصول الشيعة على حقوقهم واستحقاقاتهم أيضاً، وهو ما كذبته كل الحقائق المتراكمة حول الواقع العراقي في ظل هذا النظام، منذ تأسيسه وحتى اليوم، فقد ترسخ التقسيم الطائفي والإثني، وضعف الانتماء الوطني، واقترب العراق اليوم أكثر من أي وقت مضى من الانقسام والتمزق، وكان الشيعة هم أكبر الخاسرين، خاصة بعد الأخذ بمبدأ الشراكة الوطنية، التي ترجم على الواقع بتنازل قادة الشيعة عن بعض استحقاقات طائفتهم ضمن التركيبة الطائفية، إرضاءً لبقية الأطراف، وبالنتيجة توزعت وتشتت السلطات بين المركز والإقليم، وبين المركز والمحافظات، وبين رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء والوزراء حسب انتماءاتهم الطائفية والعرقية والسياسية، حتى أصيبت العمليات السياسية والإداريه بما يشبه الشلل. لا بد من الاحتكام للعقيدة في اصدار الحكم النهائي على دعاة السلطة والراضين بالإحتلال، وتبين لنا الآية الكريمة التالية خصائص الحاكم أو نظام الحكم الإسلامي المشروع: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 41]، ولا تتوفر في النظام السياسي التحاصصي أي من هذه الخصائص الأساسية، وما يتفرع منها من خصائص ثانوية، وهو ما يتناقض تماماً مع الأهداف والبرامج المعلنة لدعاة السلطة من الحركات الإسلامية الشيعية، والشيء الوحيد المؤكد الذي نجحوا نجاحاً باهراً في تحقيقه هو تشويه سمعة الإسلام السياسي الشيعي في العراق، وتنفير بعض العراقيين من فكرة إنشاء نظام إسلامي سياسي، وحتى تعكير صورة التشيع لدى بقية المسلمين، ولا يمكن عزو كل هذه الإخفاقات الذريعة لأخطاء في القرارت أو الحسابات التفصيلية الخاصة بالوسائل، بل يبدو بأن المشكلة أعمق بكثير، وهي تدل على أن قادة هذه الحركات، ولإعتبارات مصلحية آنية بحتة، قد جنحوا بحركاتهم وبزاوية كبيرة بعيداً عن مبادءها واهدافها وبرامجها، وبالتالي فلم يتركوا للجماهير المؤمنة من بديل سوى تخطيهم، وأخذ زمام المبادرة بأيديهم، لبلوغ هدفهم الأسمى في انشاء نظام إسلامي فعال، يتسامى فوق الفروق الطائفية والإثنية، ويمكن الجميع من المشاركة الحقيقية في العملية السياسية على أسس وقواعد الحرية والعدالة والمساواة.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |