في سيكولوجيا نظام الخيمة المتنقلة واللون الأخضر !!!!

 

د.عامر صالح

أن جميع المتابعين للوضع السياسي الليبي يعرفون تماما كم هي التكلفة الحقيقية والضخمة من التضحيات البشرية التي تستدعيها عملية التغير لهذا النظام, والناتجة من شراسة آلة القمع والدكتاتورية وتفرد هذا النظام, والعيش طيلة أربع عقود في " دولة " تفتقد إلى ابسط المفاهيم الخاصة ببناء الدولة المعاصرة وبنائها المؤسساتي من جيش وشرطة ودوائر حكومية ومؤسسات مدنية وغيرها, فالنظام الليبي فريد من نوعه في المنطقة في خلط أوراق اللعبة السياسية في الداخل والخارج إلى درجة خارقة ـ ساخرة تفتقد إلى العقلانية والمنطق وابسط مقومات المعرفة السياسية, ابتداء من مفهومه للمؤتمرات الشعبية, واللجان الثورية, والتي تمثل الأولى تزوير لمفهوم البرلمانات المعاصرة والانتخابات الديمقراطية الحرة, والثانية هي جهاز قمعي ومستبد بامتياز بكل فروعه الممتدة في كل ليبيا ومؤسساتها ودوائرها. فعلى قدر دكتاتورية النظام تأتي التضحيات المكتوبة على جبين الشعب الليبي المناضل حقا والذي يواجه الرصاص الحي لأجهزة النظام القمعية وجيوش المرتزقة الأجانب !!!!.

لم تعرف " المؤسسات " الليبية اللازمة لبناء مقومات الدولة الحد الأدنى من الاستقرار والسلامة والنزاهة, فالفساد الإداري والمالي والعبث بمصائر الناس يبدأ من العبث بشؤون الأسرة مرورا بالمدرسة والجامعة وانتهاء بكل مفاصل المجتمع و " الدولة ", فخلف واجهات شعارات مزيفة " الشعب يحكم وبيده المال والسلاح والسلطة " !!!! تعم الفوضى في كل جسد المجتمع الليبي وتستباح كل الحرمات, وعلى سبيل المثال لا الحصر, عندما تراجع أي دائرة صغرى حكومية أو كبرى, لا تعرف من يحكم ومن يدير هذه المؤسسة, أو كما يقال في ليبيا اختزالا للفوضى في عموم دوائر الدولة بالقول: " لقد ضاعت المطالب في دولة الله غالب ", وتعني " الله غالب " أي أن الله يحل مشكلتك, وتقرأ هذه العبارة في ليبيا بأنه" لا حل لمشكلتك مغلفة بمشاعر اليأس المطلق " ..... لا حياة لمواطن يصرف له راتبه كل ثلاثة أشهر أو أكثر أو لا يصرف, ويعيش منذ عقود على البطاقة والحصة التموينية, في ظروف يمتلك فيها " القائد " المملكة البترولية ـ حسب ويكليكس ـ , لا حياة لشعب لا يعترف فيه ألقذافي بأنه الزعيم الفعلي للبلاد وهو المسئول الأول والأخير لما يجري فيها, بل يجري تزيف وعي الناس والتجاوز على ذكائهم الاجتماعي, بأن ألقذافي هو مجرد قائد للجماهير, وأن من يحكم هو الشعب, لكي يدع الشعب يسبح في مستنقع الفوضى العارمة, ولكي يحمل ألقذافي الشعب مسئولية ما يحصل من فوضى وتآكل لمؤسسات الدولة التي لا تعرف الاستقرار أبدا ..... وبالتالي يحق للقائد التدخل في اللحظة المناسبة ليصفي ويقتل من يشاء على خلفية تهم الفساد والخيانة المفتعلة لتضمن بقاءه واستمراره, وهي اغلبها تصفيات سياسية, حيث أن الفساد يبارك من قبل القائد, فهو جزء من منظومة النظام السياسية والإدارية والاقتصادية وعليه يتكأ النظام بالكامل ويشكل احد مصادر ديمومته الشكلية !!!!!.

أن النظام الليبي وقائده كان مصدرا للسخرية في الداخل والخارج, ابتداء من وصف نفسه بأنه " ملك ملوك أفريقيا " لا بل انه " زعيم العرب واسيا وأوربا والعالم " ـ حسب خطابه الأخير ـ انه مبتلي ببارانويا " هذاءات " العظمة, وأن صفة المجنون لصقت به قبل غيره من الحكام العرب طوال حكمه. وقد سبق ذلك واقعة " الكتاب الأخضر " والذي اعتبر بموجبه أن الفكر الإنساني وما أنتجه من قيم إنسانية في الحرية والديمقراطية والبناء المؤسساتي لا قيمة له وهو شديد الضآلة والقيمة قياسا بهذا الكتاب, بل اعتبر هذا الكتاب هو " قرآن العصر ", مما تعرض ألقذافي إلى الإدانة والاحتجاج من قبل الرموز الدينية من داخل ليبيا وخارجها لتجاوزه على مشاعر الناس ومعتقداتهم الدينية, بسبب من دخول " الكتاب الأخضر " كمنافس لكتاب الله, وقد فرض حمل الكتاب الأخضر واقتنائه في كل الأمكنة والمناسبات, وكرس أموال طائلة في الداخل والخارج لترجمته إلى مختلف اللغات وتوزيعه على نطاق واسع, وقد وجد الكثير من " الكتاب " و " المترجمين " ضالتهم للحصول على الأموال جراء ترجمته والتعليق عليه !!!!.
لقد عبث ألقذافي حتى بالألوان فأضفى على الحياة اليومية إلزامية اللون الأخضر, ابتداء من كتابه المغلف بالغلاف ذو اللون الأخضر وانتهاء بالطلاء

الأخضر للبنايات الرسمية والأهلية وملابس مليشياته المسلحة, فاعتبر اللون الأخضر في ليبيا رمز الولاء للنظام وبطانته, متجاوزا المعنى السيكولوجي لهذا اللون الذي يعتبر من انسب الألوان لغرف النوم, لأنه يؤدي إلى الاسترخاء الذهني والعقلي الذي يوصف بأنه قادر على غسل متاعب يوم كامل خلال دقائق قليلة, كما انه من الألوان الملائمة لواجهات المحال التجارية, إذ يجعلها من الأماكن التي يدخلها الزبائن بطريقة تلقائية, وعلى ما يبدو فأن نظام ألقذافي اختار هذا اللون كواجهة مزيفة للتضليل على متاعب الناس وبؤسهم وإذلالهم وترك الانطباع الزائف أن الحياة هنا تجري كما هي في حقيقة انعكاسات اللون ذاته !!!!!.
كما استخدم ألقذافي الخيمة العربية والتي هي رمز للضيافة وتبادل الحوار والآراء بين صاحب الخيمة وضيوفه وحل المشكلات المستعصية, كوسيلة

لإثارة الصراعات والاستفزازات بينه وبين ضيوفه ومضيفيه, وكان يعتبر نصب اوتداها في الخارج شرطا لحلوله ضيفا في الخارج. وخيمة ألقذافي المتنقلة هي خيمة كاملة ونسخة من خيمته المنصوبة في ليبيا بجانب أنقاض مقره في باب العزيزية في طرابلس الذي دمر في غارة أمريكية عام 1986 , وقد بلغت كلفتها 300 آلف دولار ويستغرق تجهيزها ونصبها بضعة أيام, وتتكون من جدران من القماش وأثاث خشبية فاخرة وبسط ومصابيح كريستالية معلقة( حسب أمال الهلالي ), وكثيرا ما سببت خيمة ألقذافي, التي لم يتردد في دق أوتادها قرب قصر " الاليزيه " في فرنسا وحدائق الكريملين في موسكو وشوارع نيويورك و روما لاستقبال ضيوفه ومضيفيه من قادة الدول والدبلوماسيين, وكانت تسبب خيمته المتنقلة الحرج للحكومات المضيفة وتثير حنق الرأي العام قبل أي زيارة مرتقبة, نظرا لما تسببه من إحراج قانوني لسلطات البلديات المحلية لتعارضها مع القوانين المرعية في استخدام الأرض والبيئة والمنطقة لنصبها !!!!.

ومن الناحية النفسية فأن الزعيم الليبي هو أكثر الزعامات العربية استخداما للحيل الدفاعية النفسية المفرطة, فهو يرى أن ما يجري في ليبيا اليوم هو بفعل أجندات خارجية ومؤامرات مبيته من الغرب والاستعمار, وليس بفعل عوامل الفقر والجوع والفاقة وما يترتب عليها من اختمار لعوامل الثورة, وهو ما نسميه بعلم النفس بمفهوم " الإزاحة ", كما يرى في الاستعلاء وسيلته النفسية الدفاعية لحماية نظامه من السقوط, فهو يتصور انه يختلف عن الحالة المصرية والتونسية, وبالتالي ينفي على نفسه ومجتمعه مبررات التغير, كما أن الإنكار النفسي وهي آلية نفسية يعرفها الجميع لدى النظام الليبي, فهو المسبب للمشكلة ويتساءل عن المسبب " يقتل الشخص ويمشي وراء جنازته ", أو يرى جموع الثوار في مختلف المدن الليبية بأنهم قلة أو شلة من المتمردين سوف يتم القضاء عليهم, لكي يضمن لنفسه نوع من التوازن وعدم الانهيار, كما يتأرجح ألقذافي بين الإفراط في القتل والاعتذار والوعود بمزيد من الإصلاحات التي لم تنتهي بعد, أو كما ورد على لسان ابنه بأنه: " يوعد الشعب بجماهيرية ثانية وخلاص مع الجماهيرية الأولى !!!!!" ويشرعن القتل وتبريره فيزيد من شرارة الغضب والتحام جماهير الثورة.

أن عصر التغير المعلوماتي والثورة التكنولوجية وما تبعته من ثورة الفيسبوك ليست بمعزل عن قطف ثمارها من قبل الشعب الليبي, فقد تفتحت أمامهم آفاق وتطلعت أعينهم على بقية الشعوب الأخرى التي تعيش في عز ورفاه وديمقراطية حقه, وأن الدول الأوربية تطل على الجهة الأخرى من ساحلهم البحري " البحر المتوسط ", فقد تطلع الشعب الليبي إلى تجارب تلك الدول فتاقت أنفسهم إلى الحياة الحرة الكريمة, وان خزين الشعب الليبي من الكتاب والمفكرين والأساتذة والعلماء ليست بالهين لإرساء دولة المؤسسات. ويتضح أن الشباب الليبي عازم على مواصلة الثورة حتى الإطاحة بالنظام الفاسد ورأس هرمه ألقذافي وعائلته وحاشيته والمقربين منه ...النصر كل النصر للشعب الليبي البطل !!!!.

 

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google

 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com