العراق الحبيب على طريق التغيير

 


د.طالب الرماحي

 

تجربة السنوات الثمان الأخيرة أثبتت أن العراق لم يزل مكبلاً بكثير من قيود الدكتاتورية ، وأن الأمريكيين بجهودهم التي يشكرون عليها في تحطيم قيود حزب البعث ، قد فسحوا المجال للشعب العراقي في أن يضع قدمه على الطريق التي سبقتنا إليه الشعوب الحرة من قبل ، ولكن الذي يؤسف له أن الذين مسكوا زمام الأمور في قيادة العراق ( مع أنهم لم يقدموا من التضحيات ماتؤهلهم لذلك ) استحوذت عليهم بشكل غير متوقع نوازع حب السلطة والتمسك بها ، وتبين أن لهم شهية نهمة في ابتلاع اموال الشعب العراقي دون أدنى ورع أو إخلاص في وطنية أو آدمية . وهذا أدى إلى إجهاض الكثير من تطلعات الأمة في التقدم السريع أو اللحاق بركب الحضارة والتخلص من مظاهر التخلف العمراني والفكري والاجتماعي . وقد كتبت في هذا الأمر وأعانني على ذلك الكثير من شرفاء العراق ، لكن أصواتنا لم تجد لها أذنا صاغية من قبل الأحزاب الحاكمة التي استعانت علينا بالصلاحيات التي منحتها لهم مناصبهم ، ومثالاً على ذلك هو أن غالبية المسؤولين الكبار في الدولة ليس في وسع أحد من أبناء الشعب أن يتحدث إليهم في قاعة أو عبر التلفون ، ولقد خضت مثل هذه التجربة ما جعلني اشعر أن العراق في طريقة إلى شكل من أشكال الديمقراطية التي يمكن لنا أن نطلق عليه توأم للديكتاتوريات المعاصرة ، كالتي نراها اليوم في دول المنطقة كمصر والأردن واليمن إذا ما استمر الحال فيها على ما هو عليه من غطرسة وتكبر وعدم خشية من الله أو الشعب . وأعتقد أن بعض الذين يقرأون ما أكتبه الآن يدركون الجهود التي بذلت وما زلت من أجل الملف الإنساني الكبير ( ملف المقابر الجماعية ) ومع ذلك فإن تلك الجهود لم تشفع للعاملين بهذا الملف بمجرد الحديث عن الملف مع رئيس الوزراء الذي يتمشدق دائما في خطبه باهتمامه ( المزعوم ) بالشهداء وذوي الشهداء ، كما أن النخب في العراق تدرك أخلاقية غالبية المسؤولين في الحكومة التي ابتنيت على عزل المثقفين والابتعاد عنهم وعدم إعطاء الفرصة لهم في أن يطرحوا أفكارهم مباشرة حتى وإن كان الأمر يتعلق بقضية خطيرة تتعلق بجريمة ضحاياها الأموات والأحياء أكثر من سبعة ملايين . ومن خلال تجربتي طيلة السنوات السبع الماضية فإن غالبية رموز الحزب الحاكم يتهربون عن ملف المقابر الجماعية ، وهذا يعني أن هذا الحزب لايعير لقضايا الأمة المهمة ولذا فإن من الطبيعي أن نرى الشعب العراقي يصرغ بأعلى صوته طالبا تحسين الخدمات كالكهرباء وغيرها والحكومة تصم آذانها أو أن تطلق وعودا جوفاء .

يبدو أن ستراتيجية الحزب الحاكم في العراق تسير على نفس المنوال الذي فعله ( الحزب الوطني الديمقراطي ) في مصر ، والذي يهتم دائما بأمرين ، الأول الأستحواذ على المال العام من خلال منح مشاريع البلد لشركات معينة توفر له فرصة الحصول على مئات الملايين ، ولقد رأينا الكثير من ذلك خلال السنوات الماضية لامجال للتطرق إليها بالتفصيل الآن ، والأمر الثاني هو بناء علاقة متينة مع رجال الأعمال والمتخصصين بتبيض الأموال ، ولذا فإن هذا الحزب درج على إبعاد الشرفاء من العراقيين الذين يأنفون من التقرب من المال الحرام ، وسد أي ثغرة تقربهم من المواقع التي تكشف عن التلاعب بأموال الدولة ، حتى وإن كانت تلك الشخصيات من المجاهدة والمضحية والنقية في تاريخها وعلاقاتها .

أخيرا وبعد أن تحرك الشارع العربي بوجه الطواغيت وهز عروشهم ، صرح لأول مرة دولة رئيس الوزراء أنه لن يترشح لدورة ثالثة وأنه تبرع بنصف راتبه لخزينة الدولة لتقليل الفارق في رواتب المسؤولين الكبار وبين الفقراء ، فهل أن ما سيخصمه المالكي من راتبه يشكل شيئا مهما أزاء المنافع الاجتماعية التي تقدر بمئات الملايين من الدولارات ، حسب ما أعلنته جهات مهمة في الدولة ، حيث ذكرت أن تلك المنافع لمكتب دولة رئيس الوزراء والرئاستين الأخريين ، ولم يعلن عنها لحن الآن لضخامتها فهي تقترب من 21% من مجمل الدخل القومي للعراق ، وهذه الحقيقة تشكل إحدى الكوارث التي يعاني منها العراق منذ تغيير النظام السابق . فإذا كانت ثمة رغبة حقيقية لمعالي رئيس الوزراء في إصلاح الفوارق الطبقية ، البدء بإصلاحات حقيقية تتعلق باختيار من يدير شؤون الوزارات ، وتطهيرها من العناصر السياسية النفعية والوصولية غير الكفوءة ، والقضاء على مظاهر التعالي على أبناء الشعب ومحاولة التقرب من الطبقات الفقيرة ، ودفع كافة منتسبي الأحزاب بهذا الإتجاه الإخلاقي ، والشروع بالإعلان عن حجم ما يتقاضاه مكتبه من خزينة الدولة لما يسمى بالمنافع الاجتماعية ، وأن يقدم هو ورئاسة الجمهورية والبرلمان كشفا حسابيا للأموال التي ثبت أنها تستخدم لأغراض لا أود أن اتطرق إليها بصراحة الآن ، لأن كشفها سوف يثير نقمة الشارع العراقي وخاصة أن شعوب المنطقة الآن يعتمل في داخلها مرجل من الثورة والنقمة على حكامها . لقد سبق وأن كتبت أكثر من مرة وكتب معي الآخرون ونبهنا إلى أن سياسة الحكومة العراقية في طريقها إلى خلق فوارق طبقية رهيبة في العراق ، وقلنا أن هذه السياسة مازال يعمل بها حتى بعد الانتخابات الأخيرة من خلال توسيع عدد الوزارات التي سوف تستنزف المال العام لحساب فئة ( نبلاء الأحزاب وحواشيهم ) ومن خلال الشراكة الوطنية التي استبدلت بها الأحزاب ما كان يسمى بالمحاصصة الوطنية ، علما أن الجميع يدرك جيدا أن المشاركة أو المحاصصة وجهان لعملة واحدة يراد من خلالها الأستحواذ على موارد الدولة ومناصبها وامتيازاتها الوظيفية من قبل الفئات الحاكمة بمعزل عن أبناء الشعب من المستقلين . و أكتم سرا إذا ما ذكرت حقيقة أن العراق بسبب المحاصصة أو ما تسمى بالشراكة يقف الآن عند حافة ديكتاتورية مقيتة ، وأحب أن أؤكد أن طبيعة العمل بسياسة المحاصصات الحزبية والطائفية تجبر المشهد السياسي على ذلك ، ونحن ندرك أن الأحزاب جميعها تعلم بذلك ، وتدعو رموزها إلى التنويه عنه ورفضه إعلاميا ، لكنها تبقى متمسكة به لأن التخلي عن المحاصصة وتوزيع المناصب في الدولة على أسس حزبية وتكتلات سياسية ، يحرم تلك الأحزاب من فرص الاستحواذ على أموال الدولة لصالح أحزابها وتقوية وجودها في الشارع العراقي مستقبلاً ، كما أن التخلي عن ذلك يعني أن الأحزاب سوف تكون مضطرة إلى تسريح مئات الآلاف من عناصرها التي لاتمتلك الكفاءة ولا القدرة على أداء مهماتها في مواقع مهمة في الدولة ، مما أدى إلى عدم قدرة الوزارات في تقديم الخدمات للمواطن ، وانتشار الفساد الإداري والمادي.

نحن نرى أن الديكتاتورية في العراق ما زالت تمارس من قبل الأحزاب الحاكمة في العراق طالما هي باقية في استخفافها بالشعب العراقي ، وأن الشعب الذي أثرت عليه الحقبة الصدامية واستطاعت أن تجرده من قدرة المطالبة بحقوقه ، وأن تجعله يعيش حالة من التخلف الذي برع المسؤولون في الوقت الحاضر في استغلالها بشكل ( شيطاني غير مسبوق ) للعبور انتخابيا والوصول إلى دفة الحكم ، نقول أن هذا الشعب سوف لن يبقى على ما هو عليه من ذلك التخلف في الوعي ، وأنه في طريقه إلى استلهام تجارب الشعوب الأخرى من حوله .

وندرك أيضاً أن من يحكم العراق كائنا من كان إذا ما توافرت لديه فرصة تحويل العراق إلى بلد ديكتاتوري لضمان البقاء في الحكم وسرقة أكبر قدر من أمواله فإنه سوف يفعل ذلك . لكن يبدو أن الزمن قد تغير وأن الشعوب بدأت تعي مايحاك ضدها بفضل التقنية الحديثة للمعلومات ووسائل الإتصال ، ولذا فإن الذي سوف نتوقعه هو أن تلك الجهات سوف تبقى تتحايل باسم الديمقراطية على الشعوب يساعدها على ذلك تخلف وبساطة تلك الشعوب من أجل أن تنال أكبر قدر من الامتيازات أو الوقت ، وكما يفعله نظام حسني مبارك واليمن والأردن وغيرهم من الحكام .

 

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google

 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com