الشعر الغنائي (الوجداني ) على مر العصور
ناجي لطيف العسكري
لقد اختلف القدامى والمحدثين في تحديد الشعر الغنائي فأنطلق الفريق الأول من شكله الخارجي وانطلق الفريق الثاني من المضمون في التعريف به وذلك لان القدامى كانوا يتغنون الشعر فيرتبون أبيتها بطريقة تيسر لهم أنشاده وترتيله في حين يرى البعض انه تعبير عن ما في قلب الإنسان من عاطفة وأحاسيس متتالية ينسج عنها قصائد غنائية تنبع من صميم قلب الشاعر لتصل إلى قلب المتلقي ويمتاز الشعر الغنائي بحرارته وتأثيره في المتلقي ويشبع فيه التفجير الداخلي والطفرات اللفظية .
يمتاز الشعر الغنائي كغيره من أنماط الشعر عند وصفه شي معين لا يقتصر على الجانب المادي وحده لآن عاطفته وطموحه يتجاوزان الإحساس بالواقع بل يسعى لبلوغ سر الأسباب ويصبح شعره نوعاً من ارتياد إلى عوالم ما وراء الطبيعة يرسم ملامحها وحدودها وساكنيها ويعيش في هذه العوالم في قصيدته التي دائماً ما تكون في حبيب أو أخ أو شخص غائب عن النظر فيعيش معه في القصيدة .
مر الشعر الغنائي كغيره من أنواع الشعر العربي بمراحل متعددة فقد كان الشعر الغنائي في ايجة ازدهاره في العصر الجاهلي كغيره من أنواع الشعر العربي فيعتبر المراقبون والباحثين أن هذا العصر هو العصر الذهبي للشعر الغنائي فقد كان يتسابق الشعراء في البحث عن الجودة والمنافسة في زمن كان الشاعر يعادل إلف من جنود القبيلة في المعركة لما لهذا الفن من تأثير في نفوس المتلقين وسهوله أثارت عواطفهم ، ومن أشهر شعراء هذا العصر عدي بن ربيعة التغلبي الذي لقب بزير النساء لكثره مجالسته النساء وكان يقضي أيامه في اللهو وشرب الخمر وقد قدم قصيدة في رثاء أخيه كليب بعدما قتل وشبت معركة الأربعين عام وهي حرب البسوس يقول فيها :
أبكي والنجوم مطلعات كان لم تحوها عني البحار
على من لو نعيت وكان حيا لقاد الخيل يحجبها الغبار
ومن شاعرات العصر الجاهلي كانت الخنساء وهي أم عمرو بنت عمرو بن الشريد السلمية كتبت لها ديوان في رثاء أخويها معاوية وصخر بعد مقتلهما فتجد في هذا الديوان عبارة عن مأتم يسمع فيه عويل النائمات وندب النادبات وهو ديوان امرأة أصيبت في الصميم وفقدت من تحب في معركة تقول في أبيات ترثا فيها أخوها صخر وهو الأخ الطيب المقرب إلى قلبها :
فلا والله لا أنساك حتى أفارق مهجتي ويشق رمسي
فيا لهفي علية ولهف أمي أيصبح في الضريح وفية يمسي
وهنالك العديد من عظماء الشعر الغنائي أمثال قس بن ساعدة
وبعد ولادة الإسلام في شبة الجزيرة العربية تحولت الذائقة عن الشعر واهتمت بنوع ليس بجديد ولكن كان مهمش ( فن الخطابة ) فقد حل محل الشعر في أثارت عواطف المتلقين وشحذ الهمم ولكن الشعر الغنائي لم يتأثر بهذه الموجة من التغير بل على العكس بقى يتربع قمة الهرم وعلى مستوى الرقي نفسه ومن أشهر شعراء العرب المسلمين حطان بن المعلي وكان له ديوان يسمى (( الحماسة )) ومتمم بن نويرة وهو من الصحابة ومن إشراف قومه اشتهر في العصر الجاهلي والعصر صدر الإسلام قتل إخوة في معركة الردة وهو يقول في أبياته عندما مر على قبر إخوة مالك وبكى فشاهد بعض القوم وقالوا له أنتي تبكي ؟؟!!
لقد لامني عند القبور على ألبكا صديقي لتذرف الدموع السوافك
يقول : تبكي كل القبور رأيته لقبر ثوى بين اللوى فالدكادك
فقلت له : أن الشجى يبعث الشجى فــدعني فهذا كـله قبر مالك
إما في العصر الأموي فلم يتغير الشعر عن حاله بال أصبح شعراءهم يهيمون في بلاد الغربية بعد أن هدرت دماءهم من قبل قبائلهم وملوكهم لان الشعراء كان عندما يقع في الحب يتغزل في مدح حبيبته وهذا من جعل منهم متشردين هاربين من القتل هذا ما حجم الشعر الغنائي ووضعه في مساحة ضيقة لا تليق بهذا الشعر الذي استمر ملايين السنين ومن أشهر الشعراء هذا العصر جميل بثينة وهو جميل بن عبد الله بن معمر وكان من قبيلة تشتهر بالجمال والعشق أحب قريبته (بثينة) فنسب أليها وهدر دمه بعد هذا الحب ليهرب إلى مصر .
لقد فرح الواشون أن صرمت حبلي بثينة أو أبدت لنا جانب النجل
يقولون : مهلا يا جميل وإنني لا قسم ما لي عن بثينة من مهل
ومن شعراء هذا العصر قيس لبنى وقيس ابن الملوح بن مزاحم العامري ((مجنون ليلى )) وقد كان يعشق ليلى حتى جن من العشق وبعدما تقدم لها رفض أهلها الزواج به لأنه كان يذكرها في إشعاره فتزوجت برجل أخر وأصبح يتردد عليها وهي متزوجة حتى علم أهالها فاخبروا السلطان فهدر دمه وهرب إلى الحجاز وهنالك مات وحده على جبل من الصخور في عام 688م .
بعد إن كان الملوك يستحلون دماء الشعراء جاء عصراً يمجدهم ويخلدهم جاء العصر العباسي الذي جعل من بغداد عاصمة الخلافة الإسلامية ومركزاً وقبلة لطلبة العلم والعلوم وساحة يتبارز فيها الشعراء بشعرهم ومن أشهر شعراء هذا العصر الشريف الرضي والعباس بن الأحنف وأبو فراس الحمداني ومن أشهر قصائده
أقول وقد ناحت بقربي حمامةَ أيا جارتا هل تشعرين بحالي
معاذ الهوى ما ذاقت طارقة النوى ولا خطرت منك الهموم ببالي
ومن رواد شعراء هذا العصر المتنبي وابن الرومي .
أما في العصر الحديث فقد كان الكل يبحث عن التغير حتى طال هذا اللون من الشعر ومر بمراحل تغير طفيفة حتى أصبح على ما هو علية من أنواع متعددة والألوان مختلفة ولكنه لم يفقد بريقه بين أنواع الشعر خاصة وباقي الفنون عامة بال استمر بصموده ورواده المتجددين مع كل عصر بالبقاء في قمة الهرم الشعري ومن أشهر شعراء هذا العصر أبو القاسم ألشابي والشاعر القروي والأخطل الصغير اللبناني والشاعر العراقي بدر شاكر السياب والشاعر خليل مطران وأمير الشعراء احمد شوقي وإبراهيم ناجي وإيليا أبو ماضي وعدد كبير من الشعراء وقصائد غنائية لشعراء لم يذكر أسماءهم فقد كان هذا العصر ازدهار للشعر الغنائي بسبب التحرر وتلاشي التقاليد القبلية .
عدت يا يوم مولدي
عدت أيها الشقي
الصبا ضاع من يدي
وغزا الشيب مفرقي
ليت – يا يوم مولدي
كنت يوماً بلا غد !!!
* * * * *
إنا عمرٌ بلا شباب
وحياة بلا ربيع
اشتري الحب
بالعذاب !!
فمن يبيع ؟؟!
العودة الى الصفحة الرئيسية