" الكذاب والدجال والمتملق يعيشون على حساب من يصغي إليهم "

د.عامر صالح

 كما يفهم من مراحل تطور البشرية وانتقالها من المراحل البدائية وحتى المتوحشة صعودا إلى مجتمعات التمدن والحضارة المعاصرة, إن الجماهير أو الشعوب هي صانعة التأريخ, وهي صاحبة الدور الأساسي على مسرح التغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية, وقد اتسمت اغلب أدوراها بالايجابية وخاصة عبر التضحيات الجسام من اجل قضايا وطنية وتحررية واجتماعية, ولكن هناك محطات للجماهير اتسمت بالسلبية والقنوط عبر الدعم الذي أعطته لقوى استبدادية أو لأيديولوجيات فاشية وأوصلتها إلى سدة الحكم , كما هو الحال في التجربة الألمانية الفاشية والايطالية من خلال صعود هتلر وموسوليني إلى دفة الحكم, وكذلك جزئيا في التجربة العراقية في بقاء واستمرار النظام الدكتاتوري السابق لعقود في العراق, وبقاء أنظمة أخرى إلى اليوم ذات الطبيعة القمعية والعدوانية والتسلطية. ونستطيع القول أن الجماهير تمتلك القدرة على الجمع بين خاصيتين متناقضتين, هي القدرة على التدمير والهلاك والقدرة على التضحيات العظمى في قضايا ايجابية تهم مصير أوطان ومستقبل مجتمعات في آن واحد !!!!.

 أن الثورة هي أسلوب من أساليب التغير الاجتماعي تشمل الأوضاع والبنى السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وعملية التغير لا تتبع الوسائل المعتمدة في النظام الدستوري القديم للدولة وتكون جذرية وشاملة وسريعة, تؤدي إلى انهيار النظام القائم وصعود نظام جديد, ويترتب على نجاح الثورة, سقوط الدستور, وانهيار النظام الحكومي القائم ولكن لا تمس شخصية الدولة ومؤسساتها وكادرها في مختلف المجالات, ولا تؤدي إلى إنهاء العمل بالتشريعات السابقة عليها, وخاصة الايجابية منها وذات الصلة بالحياة العامة, فليست كل ما في النظام القديم هو بالي ويستحق السحق والإبادة, والحالة التونسية تجسد هذا النوع من الموازنة التي تعكس الوعي والسلوك الحضاري للثوار أو المنتفضين, وهو عكس الحالة العراقية رغم ملابسات التغير وتدخل العوامل الخارجية في إنضاجه !!!.

 وتؤكد أدبيات الثورات العالمية والتجربة التاريخية إلى أهمية توحيد القوى الثورية المنتفضة وتنظيمها وأهمية العوامل الذاتية في توعية الجماهير وقيادتها. وتشكل وحدة الظروف الموضوعية والذاتية القانون الأساسي للثورة, كما تؤكد على ضرورة الحفاظ على مسار الثورة والحفاظ عليها من الانحراف, و منع قطف ثمارها من قبل سارقي الثورات المتمرسين, من المتطرفين الدينيين والسياسيين بمختلف مشاربهم, والذين يعيشون على فتات موائد الثورة, مستغلين مشاعر الناس وخاصة البسطاء منهم من خلال الشعارات الطنانة الفارغة واستغلال عدم الصياغة السليمة لعلاقة الدين بالدولة في النظام القديم كمبرر للانقضاض على حركة الجماهير وحرف وجهتها التقدمية, صوب أهداف مجهولة عديمة الجدوى اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا !!

وعلى خلفية محاولات حرف الثورة ومسارها وتطلعات جماهيرها تجري عملية تحويل الثوار المنتفضين من قوى ثورية فاعلة ضد الظلم والاستبداد بأشكاله, إلى حشود قطيعيه, وبالتالي تتحول الثورة من فعل واعي ومخطط, له أهدافه وبرامجه, إلى أفعال لا واعية ينتفي فيه ذكاء الثوار وخصوصيتهم, ليندمج ويذوب في غيبوبة اللاوعي ليسوقهم القائد  " الديني " أو  "السياسي " المتطرف, فيتحول الفعل الثوري إلى ضرب من ضروب العبادة المؤسسة على الانفعالات الخالصة, ويتحول الثائر المخلص بين ليلة وضحاها إلى كائن متعصب تدفعه غرائز العدوان القابلة على تدمير كل شيء, بحزام ناسف أو سيارات مفخخة أو كاتم صوت, وعندها يكتسب " الثوري " خصائص الإنسان الهمجي لا يعبأ بأي عقبة بين رغبته ورغبات قائده " الجديد ", ليتحول من ثائر إلى حيوان قطيعي همجي لا يمتلك القدرة على التدبير والتخطيط والعقلانية اللازمة للعقل الثوري, وبالتالي يستمع ويصغي إلى الخطاب المراوغ والكاذب بسهولة ويجسده إلى أفعال ملموسة في الكراهية وإقصاء الآخر, حينئذ يسود الطابع اللاعقلاني الذي تجسده ردود الأفعال المدمرة, وعندها تتحول الثورة إلى فعل هستيري مدمر ينتشر كالنار في الهشيم, وهكذا تجنح الثورة وثوارها إلى خضوع وعبودية جديدة أكثر بكثير مما تنزع نحو التحرر والحرية والديمقراطية وعلى خلفية سلبيتها وتزيف وعيها وقابليتها للإيحاء والاستهواء والاستلاب, فتضيع التضحيات سدا !!!!!.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google

 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com