|
هل هناك حدود لغباء الاعلام الرسمي السوري
محمد منصور / ناقد فني من سورية
تقول لنا شاشات المحطات الفضائية والأرضية المشتعلة بالخبر السوري الراهن، أن شباب سورية قد كبروا سنوات في أسابيع قليلة، وأن هتاف الحرية جعل منهم رجالا آخرين، تطل من عيونهم وكلماتهم الرغبة في الحياة الحرة الكريمة، وذلك الإصرار العميق على أن يكونوا بشراً لا يرتهنون لهتافات الولاء المطلق بمناسبة ومن غير مناسبة، ولا يضطرون لأن يكونوا دائماً مع الرأي الواحد والزي الواحد خلف قائد المسيرة وإلى الأبد. شباب سورية يكبرون بالحرية، فهذا محمد العبدالله ابن المعتقل السياسي علي العبد الله، يظهر على (الحرة) ليقدم تحليلاً دقيقاً عن واقع وطني يعرف تفاصيله وأزماته، وعندما يقول له السيد أحمد الحاج علي (عيب عليكم... لنتحاور تحت سقف الوطن وقائد الوطن) في غضبة مفتعلة كان سببها مطالبته أن يذكر كلمة واحدة عن رامي مخلوف، يوضح له محمد العبد الله أن هذه الرغبة في الحوار عندما كان في الوطن قادته لأن يسجن في غرفة تكاد تكون أصغر من جسده، وأن يضرب ويعلق من يديه في السقف لأيام... عرف فيها أن سقف الوطن صار تحت سقف أقبية التعذيب في فروع المخابرات المنتشرة، أكثر من انتشار دور المسرح والسينما في بلدي! شباب سورية يكبرون بالحرية، وها هو الزميل الصحافي عامر مطر، الذي لم يتخرج من كلية الإعلام بعد، يرمى في المعتقل منذ مطلع الشهر الحالي، لا لشيء إلا لأن هذه الحرية الملعونة والمحرضة، فكت عقدة لسانه، وكسرت نظرة الخوف في عينيه، وملأت أحلامه بوطن لا يجد أبناؤه في أجهزة السلطة الحاكمة مجموعة من الجلادين، الذين يصادرون حق التعبير، وحق الحياة، وحق المشاركة في الشأن العام والتواصل مع الرأي العام، في بلد قطع كل سبل التواصل الحر بين البشر، حين داست أجهزة أمنه حرية الصحافة بنعالها، وأجهز وزير إعلامها محسن بلال على كل ذرة شرف مهني في وسائل إعلامها، وحين أخرست أصوات ممثلي الشعب في برلمان، أكد للسوريين أخيراً وليس آخراً أنه ينافس مداجن طلائع البعث في مواهب الفصاحة والخطابة، وفي إطلاق تصفيقه الطلائعي في مهرجان حضر فيه كل شيء وغاب عنه دم شهداء سورية، وأنين جرحاها، وظلام ليل معتقليها! واليوم يغيب عامر مطر في سجن احد الفروع الأمنية، ويُمنع أهله وأصدقاؤه حتى تاريخ كتابة هذه الكلمات من زيارته والتواصل معه، أو حتى إرسال بعض الحاجيات له، وفيما هو معتقل... يقتحم رجال الأمن بيته، ويقلبون عاليه سافله (من دون أن يحتاجوا لإذن نيابة طبعاً) ويصادرون جهاز الكومبيوتر الخاص به... ويعدنا من يسعى مشكورا لإطلاق سراحه أنه إذا لم يثبت عليه شيء فسيطلق سراحه! فما الذي سيثبت على عامر وهو يمارس شكلا من أشكال التواصل الاجتماعي على الفيسبوك، أو يكتب مقالا هنا أو هناك، أو حتى وهو يشارك في تظاهرات سلمية... قالت عنها مستشارة الرئيس بثينة شعبان انه (لا أحد ضد التظاهر السلمي). يتضامن الكثير من الشباب السوري على الفيسبوك مع عامر مطر ابن الخامسة والعشرين عاماً، ويرفعون اسمه وصورته شعاراً في صفحاتهم، مطالبين بالحرية له... فقد مضى الزمن الذي كان الأخ فيه يخاف أن يمشي مع أخيه إذا استدعي لمراجعة فرع أمن، والصديق ينكر صديقه إذا كان مغضوباً عليه أمنياً... أغلب الظن أن ذلك الزمن الأسود مضى، وأن عامر مطر الآن ليس وحيداً، وأننا نستطيع أن نرفع أصواتنا بفخر واعتزاز لنقول: نعم إننا نعرف هذا الرجل... إنه زميلنا وأخونا، كنا نقرأ كتاباته، وكنا نتحاور معه، ونتبادل معه تحية الصباح وحزن المساء، وكنا معه في تواصل يومي افتراضي، لا ندري إذا كان ذلك شكلا من أشكال التجمع التي يجرمها قانون الطوارئ الذي لم يرفع العمل به بعد، وإذا ما صادفنا عامر في الشارع فنحن لم نكن نسلم عليه سلاماً عابراً، بل كنا نمشي معا، وكنا نتعمد أن نأخذه معنا أو يأخذنا معه، لأن الطريق التي يسلكها عامر ستوصلنا إلى الحرية! مدد استخباراتي إعلامي! يكبر شباب سورية بشجاعتهم ووعيهم وتضحياتهم من أجل وطنهم، ويصغر المحللون السياسيون اللبنانيون الذين يظهرون على قنوات التلفزيون السوري، باستزلامهم ونفاقهم وانبطاحهم، ومتاجرتهم بشعارات المقاومة للتغطية على دم الشهداء من أخوانهم السوريين، في سبيل مكاسب رخيصة قد تسكت جوعهم الذي لا يشبع للأعطيات والهبات، لكنها لن تسكت ضمائر السوريين وهي تصنفهم في المكان اللائق في زمن الفرز هذا! يتحدث المحللون اللبنانيون عن مؤمرات وفتن حيكت بليل (حسب فصاحة بعضهم)، وعن غرف سرية سوداء وعن معلومات لديهم بالأسماء يفبركونها في مراكز دراساتهم من دون أي براهين أو أدلة، لأن مراكز أبحاثهم لا أحد يشيلها من أرضها، ويقول الأخوان قنديل إن المستهدف من كل ما حدث كان هو سورية، وأن المخطط الأمريكي كي لا ينكشف بدأ بتونس ثم ضحى بنظام مبارك في مصر (يا للعقل والمنطق)، ثم جاء ليجهز على سورية المقاومة والممانعة، المحتضنة للمقاومة والواقفة في وجه العدو الإسرائيلي والمخطط الأمريكي الإمبريالي! ما هذا الفجور في استغباء عقول الناس، وفي تزوير آلام شعب خرج يطالب بالحرية، وما هذه الثقة العمياء في القدرة على تغطية الشمس بغربال، وبيع الأكاذيب بالأطنان؟! إن كثيرا من السوريين يشعرون بالاشمئزاز والغضب من هذا الإمداد الاستخباراتي الإعلامي الذي يشوش على أزمة وطنية تستلزم علاجاً شجاعاً، بدل استيراد الأبواق والمناظير الليلية لاستيضاح الرؤية حول هذه المؤامرة الخارجية (التي حيكت بليل)، هذا الإمداد الذي يعتدي على حرمة دم السوريين المراق من أجل الحرية، وكأنه لا يكفينا عار عشرات المطبلين والمزورين والمنافقين من الداخل، كي يستوردوا لنا من لبنان دفعة أخرى (بضم الألف طبعاً). إعلام رسمي يفتح حدود الغباء! خصص برنامج (أصوات الشبكة) على قناة (فرانس 24) حلقة للحديث عن التضليل والكذب الذي يمارسه الإعلام اليمني الموالي للرئيس علي عبد الله صالح، من خلال متابعة مدون كشف عن استخدام تقنية الفوتوشوب لمضاعفة أعداد المتظاهرين المؤيدين للرئيس صالح، في الصورة التي نشرت على الصفحة الأولى من جريدة 'الجمهورية' الحكومية! الأدلة البصرية كانت واضحة للغاية، لكن ما إن نشر المدون ذلك، حتى بادرت صحيفة 'الجمهورية' لحذف صفحة جريدتها من على الإنترنت، فقام المدون بنشر صورة عن النسخة الورقية لتثبيت الفضيحة. البرنامج التلفزيوني كشف أن وكالة رويترز نشرت خبراً يفيد بدفع مبالغ مالية (250 - 300 دولار أمريكي) لكل عائلة تخرج في مظاهرة تأييد للرئيس صالح... لكن وكالة الأنباء اليمنية ادعت أن رويترز سحبت هذا الخبر وتراجعت عنه، لأنها اكتشفت أن لا أساس له من الصحة، إلا أن موقع رويتزر أثبت أن الوكالة لم تسحب الخبر وأنه ليس عارياً من الصحة... طبعاً هذا يذكرنا بما نسبته بعض المواقع الإلكترونية السورية للسيد خالد مشعل من أنه انتقد الشيخ القرضاوي قائلا له (اتق الله) لكن حماس كذبت الخبر، ونفت أن يكون السيد مشعل قد تطرق إلى هذا الأمر... والتضليل الإعلامي اليمني أيضاً يذكرنا بما تقوم به قناة (الدنيا) السورية، من فبركة فيديوهات، أو الادعاء بأن المتظاهرين يستخدمون الطلاء الأحمر كي يدعوا أنهم أصيبوا برصاص الأمن، أو نشر فيديوهات على صفحتها لمتظاهرين يحرقون العلم السوري... في محاولة يائسة لتشويه صورة المتظاهرين... فمن هو العميل الأهبل الذي يمكن أن يحرق العلم السوري كي يقول: انظروا كم أنا عميل وكم أنا مدسوس... وكم شعاراتي الوطنية كاذبة... أنا أريد فقط أن أسيء لأمن الوطن واستقراره ممثلاً بحرق أغلى رموزه: العلم الوطني... فهيا صوروني كي أنكشف! إن أصدق ما ينطبق على الإعلام الرسمي في البلدان التي تواجه ثورات وحركات احتجاج ما قاله لي أحد الأصدقاء: ليس للغباء حدود!
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |