خَرِبة المستنصرية .. أول جامعة في العالم



زاهر الزبيدي
zzubaidi@gmail.com

أضطررت مجبراً على أستقبال عائلة صديق لي قادمة من السويد .. فقد كان الرجل صديقي منذ الدراسة الجامعية حيث أفترقنا فسافر هو الى السويد وعاش هناك وتزوج وأنجب ولم يغفل أن يربي أبناءه على حب العراق أرضاً وسماءاً وماءاً وحضارة منذ أقدم العصور .. وأذهلني أنه لم يقبل أن أستقبله في المطار بل أصر أن ياتي بسيارة أجرة على أن أوصف له عنوان منزلي الكائن في إحدى محلات بغداد ، المنكوبة بنقص الخدمات ، خوفاً من الكلفة التي سمع عنها أنها كبيرة ولكون المطار بعيداً عن محل سكني كما يعرف .

ووصل الى البيت وأستقبلناه وعائلتي بحفاوة بالغة وبعد أن أستقروا وهدأت سريرتهم من هول الصدمة الأولى التي واجهتهم في منطقتنا من سوء الخدمات بادرني أكبر أبناءه ، بعدما أخبرتهم أني قد اعددت لهم جدولاً خجولاً جداً للتعرف على عاصمة وطنهم الحبيب ، بأنه يرغب في زيارة المدرسة المستنصرية وشارع المتنبي . لقد تفاجأة كثيراً في أنهم يحتفظون بصور جميلة كثيره ألتقطتها عقولهم من كتب التأريخ عن تلك الحضارة الغائرة في عمق التأريخ .. وحتى أنهم يفخرون أمام أقرانهم من الطلبة بهذا التأريخ وبتلك الحضارة حيث كنت على أستمرار في أرسال بعض الكتيبات لهم من العراق .

لقد كنت متوجساً من زيارتهم للعراق خوفاً على حياتهم واليوم لأني محرجاً في كيفية تنظيم جدول ومرافقتهم الى المناطق (الجميلة) في بغداد .. فالزوراء ليست سوى مكب نفايات وهم لم يفتقدوا الى الحدائق في السويد ليأتوا الى الزوراء والمطاعم الجيدة في بغداد عبارة عن فكوك مفترسة للتقفيص وشارع المتنبي تملؤه القذارة بعد أن تم تدمير المرسى الذي تم أفتتاحه قبل سنتين وعند عبور السيارات الكبيرة تدمر جزءاً من الشارع .. وسوق الصفافير تجاوز عليه باعة الأقمشة وغزته المصنوعات النحاسية الصينية .. لكونها الأكثر ربحاً بعد انعدام السياحة الأجنبية .. ولم يبقى كمشهد نظيف سوى مرقد الأمام الكاظم (ع) ولكن المشكله أنهم مسيحيون ! والشورجة غطتها النفايات لدرجة أصبحت القذارة وكأنها أكوام تضاهي أكوام البضائع .. وذهابنا الى هناك معناه مواجهة أنواع العربات التي يستخدمها العتالة بشراسة ، العربات المعدنية ، الربل (عربة طويلة ) ، العربات الخشبية ودخلت أخيراً العربات التي تجرها الحمير ،أجلكم الله ، في قلب المدينة .. أما أبو نؤاس فبعد التحولات الديمقراطية الأخيرة تحول الى ملاهي لشرب الكحول وحدثت حالات شاذة كثيرة هناك لأسباب معروفة .

قررت أن أذهب بهم الى المتحف الوطني ولكننا عندما وصلنا الى هناك بشق النفس أتضح ان المتحف مغلق للترميم .. مع الأسف كانت تلك فكرة جيدة فهم يحبون الآثار كثيراً .. فلم يبق أمامي إلا أن نذهب الى المدرسة المستنصرية وتولكلت على الله واصطحبتهم وذهابنا الى المدرسة المستنصرية ، المشيدة منذ 1233م والتي أستمر التدريس فيها لمدة أربعة قرون حتى سنة 1638 م وعندما دخلنا المدرسة قرأت على وجوه الجميع وكأنهم يريدوا أن يلمسوا ويقبلوا تلك الجدران العتيقة التي مرت عليه مئآت السنين وهي منتصبة تقاوم العصور التي تتوالى عليها تترا حيناً ومغول حيناً أخرى وحتى عصرنا هذا .. وأعتقد أن ما فعله التتر ليس بأقل مما نفعله نحن الآن فالمدرسة عبارة خربة تحيط بها القذارة من كل حدب وصوب واما (العفن) الذي يسكنها والأوساخ فأمر مريب حقاً حتى أننا وجدنا في أحد الزوايا حفاضة أطفال .. وفي خارج المدرسة في الممر تغمره مياه المجاري القذرة .. "والله فشله" أردد مع نفسي وكم كنت خجولأ من هذا الموقف على الرغم من أني أشعر بحزنهم المكبوت وأحاول أن أقول طرفه بين الحين والآخر لأتغلب على الموقف .. وأحاول أن اتلافى العربات الكبيرة "الربل" الذي يصرخ الرجل الذي يسحبها بصوت قوي "بالك" فيخاف الأولاد منه.

انتهت قصتي مع ضيفي .. ولكنها لم تنتهي مع تلك الصروح الحضارية التي لم تجد أحداً يهتم بها ويطورها وأتساءل دائماً لو أن المدرسة المستنصرية كانت احد آثار مدينة دبي .. أو دولة قطر .. أو حتى إسرائيل اللعينة .. ترى ماذا كانوا يفعلون بها أو كيف يتعاملون مع هذا الصرح الكبير وأعتقد بأنهم قد يبنوا عليه قبة زجاجية للحفاظ عليه من التأثيرات الخارجية و سيقيموا في باحته مؤتمرات كبيرة للجامعات في العالم وستشتري الحكومة كل المساحة المقابلة لها وتجعل منها مواقف للسيارات ومتاحف صغيرة ومكتبه كبيرة للكتب والمخطوطات القديمة وستجعل منه صرح حضاري كبير يروي قصة التأريخ بعينه التأريخ الذي صنعته ودمرته في آن واحد سواعد العراقيين .. ترى كيف تمكنت اليد التي تبني أن تدمر في آن واحد .. أنه مرض هذا الذي يجوب البلاد بل هو أكثر تأثيراً من الوباء .. أن يدمن القادة الكلام .. وفقط الكلام والعالم يسير في ركب الحضارة ونحن نتكلم ونخطب ونتكلم أكثر مما نفعل ونسقط أحياناً في فخ خطبنا الفضفاضة التي جعلت الحياة أمامنا كجنات النعيم ... أمان وتطور وبناء وعمران وجسور وأبراج ومنتزهات ومولات ومدن جديدة و..و..و.. ومليارات تصرف وتذهب هباءاً .. الويل لنا من أنفسنا بل الويل لنا من أصابعنا التي هتكت عرض الحضارة القديمة و داست على مقوساتها الجميلة .. كنت أنظر الى أحد الضيوف وهو يقف صامتاً أمام أحد المقوسات متأملاً في خطوطها الجميلة وأعتقد انه كان قادراً على قراءة تلك المقوسات والغوص في أعماق التأريخ ليصل الى اليد التي خطتها .. والتي قد تكون نادمة على فعلتها تلك .. يا أسفي على ذلك .

 العودة الى الصفحة الرئيسية

Google

 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com