المجتمع المدني وعلاقته بالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية
بقلم الكاتب محمد محمد ماضي ( أبو وديع )
يتميز العصر الحديث بأنه عصر الحريات وحقوق الإنسان والديمقراطية مقارنة بالعصور السابقة، نتيجة للتغير المجتمعي وشكل الحاجات الإنسانية تطورت المفاهيم وخاصة مفهوم المجتمع المدني وعلاقته بالدولة ، نستطيع أن نحدد شكل العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني وفق الأدوار وطبيعة الدولة ، فالأنظمة الشمولية والديكتاتورية تعمل علي تجحيم أدوار ونشاط المجتمع المدني ، فالدولة البوليسية تحاول الانفراد بالسلطة وتستمد قوتها من السيطرة علي الموارد الاقتصادية ، ولكي تحافظ الدولة الديكتاتورية علي السلطة تكون نظاماً أمنياً يقوم علي الإرهاب في مكوناته ويستخدم أسلوب التعذيب والتخويف والفصل التعسفي وينتهك كافة حقوق الإنسان ، وتتصف هذه النظم بانتشار الفساد واستشرائه في كل قطاعات الدولة وعدم استقلالية القضاء وغيرها من الصفات . لذلك تتجه الدولة الشمولية إلى تحجيم دور الفاعلين الاجتماعيين وخاصة منظمات المجتمع المدني التي تنظر إليها الدولة الشمولية بعين الترصد باعتبارها أداة تدمير لقوتها وسيطرتها علي الحكم إلى جانب أنها أداة توعية جماهيرية من خلال مناداتها بالواجبات والحقوق والمتابعة لأشكال انتهاكات حقوق الإنسان ، نتيجة لهذا الكل تحاول الحكومات الشمولية أن تربط بين منظمات المجتمع المدني والاستهداف الخارجي للدول المعادية حتى تكتسب الشرعية للقضاء عليها والتقليل من أدوار الفاعلين الاجتماعيين .
كما أن تفكك وانقسام الدولة لا ينتج مجتمعاً مدنياً كما أثبتت التجربة في كافة المجتمعات التي ضعفت أو تفككت فيها السلطة ، فإما أن هذه المجتمعات دخلت في صراعات دامية أو تفوت في أشكال التنظيم البدائية أي ما قبل المواطنة ، أن إضعاف الدولة لا يخلق مجتمعاً مدنياً حديثاً وقوياً وإنما يفرز مجموعات متشرزمة يمكن السيطرة عليها وبسهولة من قبل أصحاب المصلحة في الداخل والخارج.
فالبناء المعرفي بالقوانين أو نشر ثقافة القانون التي تتبناها منظمات المجتمع المدني تستهدف شرائح محددة من المجتمع. وغالباً ما تستهدف مجموعات محددة مثل المراة والطفل والعمال وهي من المجموعات الأكثر تهمشاً في مجتمعات العالم الثالث ، ولكن بشكل عام ولنتيجة لسيطرة الدولة علي عملية وضع القوانين باعتبارها حق مطلق، نلاحظ وجود هوة بين القوانين والمجتمع بشكل عام ، مما أوجد نوعاً من عدم الوعي بالحقوق والواجبات ، الأمر الذي أدى إلى التنازل عن الحقوق ، واستشراء قيم الفساد والإخلال بالنظام العام والظلم وإطلاق أيدي مجموعة صغيرة لتكون هي المسيطرة علي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بينما تقف الأغلبية موقفاً أقل ما يوصف به المعاناة المتمثلة في الفقر والتهميش واستشراء الأمراض الاجتماعية المتأزمة
تتبع منظمات المجتمع المدني في العادة العديد من الوسائل لنشر الثقافة القانونية أهمها الدورات التدريبية وخاصة مجال حقوق الإنسان ، وورش العمل ، الندوات ، البحوث والدراسات والنشرات والكتيبات.
تتجه معظم دول العالم أن تكون دولا مدنية تعتمد الأسس والمعايير القانونية في تنظيم شؤونها وشؤون أفرادها في التعامل أي دولة المؤسسات لا دولة الإفراد وإخضاع كافة المواطنين بدون النظر لأي معايير أو فروقات فيما بينهم للقانون فلا أحد فوق سلطة القانون، ومن هنا فأن المواطنين سواء أمام القانون ولا تفصل المؤسسات والوظائف على مقاييس محددة لتناسب هذا الفصيل أو ذاك ولا تتحول المؤسسات إلى مؤسسات الرجل الواحد.
الدولة المدنية نعمة على الوطن والمواطنين بعكس الدولة البوليسية التي هي نقمة على الوطن والمواطنين وكذلك على النظام السياسي لأنه ستفقد هذا النظام القاعدة الجماهيرية اللازمة لدعمه وتأييده والتي لا غنى عنها ولأن الشعب ليس قطيعا من الأغنام فلابد أن تكون مساندته وتأييده قائمة على القناعة بأهمية هذا النظام وحاجته إليه فالنظام السياسي بدون التأييد الجماهيري كالسمكة بدون ماء في طريقه إلى الموت والزوال رغم مظاهر القوة التي تصورها له أجهزة القمع التابعة له لأنه عندما تقوم الثورات الشعبية فجأة سيكون أفراد جهاز القمع أول الهاربين والمتنصلين من الممارسات القمعية في حق الناس وتحميلها إلى النظام الذي يصدر التعليمات وهؤلاء السادة المجرمين ما هم إلا عبيد مأمورون على الرغم أنهم هم المسؤولون عن تنفيذ الأنظمة والقوانين بطريقتهم المزاجية وفي معظم الحالات من وراء ظهر النظام السياسي والأمثلة كثيرة على ذلك.
في البدء يمكن القول أننا حيث نتحدث عن " المجتمع المدني " يتبادر الى الذهن ذلك المجتمع غير الخاضع للمؤسسة الدينية، أي مجتمع علماني، ومن جهة ثانية مجتمع غير خاضع للسلطة العسكرية (المجتمع العسكري)، وثالثا مجتمع مستقل عن المؤسسة السياسية وعن أجهزة الدولة الدائمة.
وبحسب هذا الافق المعرفي فإن المجتمع المدني هو عبارة عن مجتمع يتألف من مواطنين أحرار، يستطيعون وقادرين على العيش سوية وبشكل مشترك، بحسب القواعد التي اختطوها، والتي أصبحت عادات لا يمكن تجاوزها.
وهناك من يعرّف المجتمع المدني على نحو اجرائي بأنه جملة " المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تعمل في ميادينها المختلفة في استقلال نسبي عن سلطة الدولة لأغراض متعددة منها :
أغراض سياسية كالمشاركة في صنع القرار على المستوى الوطني، ومثال ذلك الاحزاب السياسية، ومنها غايات نقابية كالدفاع عن المصالح الاقتصادية لأعضاء النقابة، والارتفاع بمستوى المهنة والتعبير عن مصالح اعضائها، ومنها اغراض ثقافية كما في اتحادات الكتاب والمثقفين والجمعيات الثقافية التي تهدف الى نشر الوعي وفقا لاتجاهات اعضاء كل جمعية، ومنها اغراض اجتماعية للاسهام في العمل الاجتماعي لتحقيق التنمية. وبالتالي، يمكن القول إن العناصر البارزة لمؤسسات المجتمع المدني هي : الاحزاب السياسية، النقابات العمالية، الاتحادات المهنية، الجمعيات الثقافية والاجتماعية " .
وجهة النظر هذه، تنطوي على أربعة عناصر رئيسية :
- العنصر الاول يتمثل بفكرة " الطوعية "، أو على الاصح المشاركة الطوعية التي تميز تكوينات وبنى المجتمع المدني عن باقي التكوينات الاجتماعية المفروضة أو المتوارثة تحت أي اعتبار؛
- أما العنصر الثاني فيشير الى فكرة " المؤسسية " التي تطال مجمل الحياة الحضارية تقريبا، والتي تشمل مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ولعل ما يميز مجتمعاتنا الحضور الطاغي للمؤسسات، وغياب المؤسساتية بوصفها علاقات تعاقدية حرة في ظل القانون.
- في حين يتعلق العنصر الثالث بـ " الغاية " و " الدور " الذي تقوم به هذه التنظيمات، والاهمية الكبرى لاستقلالها عن السلطة وهيمنة الدولة، من حيث هي تنظيمات اجتماعية تعمل في سياق وروابط تشير الى علاقات التضامن والتماسك أو الصراع والتنافس الاجتماعيين؛
- وأخر هذه العناصر يكمن في ضرورة النظر الى مفهوم المجتمع المدني باعتباره جزأً من منظومة مفاهيمية أوسع تشتمل على مفاهيم مثل " الفردية، المواطنة، حقوق الانسان، المشاركة السياسية، الشرعية الدستورية .... الخ .
جوهر دور المجتمع المدني هو تنظيم وتفعيل مشاركة الناس في تقرير مصائرهم، ومواجهة السياسات التي تؤثر في معيشتهم وتزيد من افقارهم، وما تقوم به من دور في نشر ثقافة خلق المبادرة الذاتية، ثقافة بناء المؤسسات، والتأكيد على إرادة المواطنين في الفعل التاريخي، وجذبهم الى ساحة الفعل التاريخي، والمساهمة الفعالة في تحقيق التحولات الكبرى حتى لا تترك حكرا على النخب الحاكمة.
وارتباطا بهذا الدور يتبلور خمس وظائف تقوم بها مؤسسات المجتمع المدني
هي :
1. وظيفة تجميع المصالح،
2. وظيفة حسم وحل الصراعات،
3. زيادة الثروة وتحسين الاوضاع،
4. افراز القيادات الجديدة،
5. إشاعة ثقافة ديمقراطية
استنادا الى كل ما سبق نستنتج اننا كفلسطينيين بحاجة الى ارساء ثقافة وقيم جديدة لدى الانسان الفلسطيني، وأن هذه القيم بحاجة الى سياق اجتماعي، يتوجه صوب بناء هذه القيم وارساء دعائمها لبنة لبنة وخطوة خطوة ، وذلك لأنه من المستحيل أن تتحقق هذه القيم في الفضاء الاجتماعي والانساني دفعة واحدة ، وانما تنجز بالتدرج والتراكم، ولذلك ينبغي أن تقوم النخبة الوطنية الفلسطينية المتقفة بدعم واسناد كل خطوة في هذا الطريق الطويل والشاق، ومن الضروري الا نستعجل النتائج، ولا بد أن نكسر كل جليد الاستبداد والقهر، وأن ننزع الخوف الذي سكن في قلوبنا وعقولنا وتحول لسيف مسلط على رقاب اسرتنا وكرامتنا وحولنا لكائنات واقفة على قارعة الطريق لا حول ولا قوة لها تنتظر ساعة الخلاص من القهر والظلم والاستبداد،ان هذه القيم والتقافة تسعى الى اقامة الدولة المدنية الديمقراطية الديستورية، وارساء مبدأ المواطنة والذي هو مطلب عام لكل الغيورين الوطنيين والمثقفين والنخب السياسية والقوى الصامتة، وهو الكفيل بكسر حاجز الخوف، وكشف الفساد والاستبداد والظلم والتبعية من خلال توفير الشعارات المركزية الثلاثة لتحقيق دولة المواطنة والقانون والمؤسسات وهي (الحرية- الديمقراطية- العدالة الاجتماعية).
شعار الحرية يعني تحرير الانسان الفلسطيني من المؤسسات الفاسدة بمعنى ان نعطيه أقصى حد من الحرية ومنحه كامل الثقة كصاحب وظيفة في المجتمع وليس بصفته انساناً فقط ، في دولة القانون والتي فيها الناس يخضعون للسيد الوحيد وهو القانون ويتساوى المواطنين جميعاً في الحقوق والواجبات أمام هذا القانون ، وفيما بينهم مجتمعين مع الحكام ، بعيداً عن العلاقات الشخصية والعائلية والقبلية والحزبية وعبادة الشخص الحاكم، والمساواة تعتبر مظهرا من مظاهر الحرية وشرطاً لممارستها، وهذه المساواة هي مجرد تكافؤ الفرص على صعيد الحقوق ، اي انها مساواة قانونية ولا فعلية.
ان جوهر التقدم الانساني والتطور البشري، هو الحرية، حرية الاختيار والتعبير ونفي الاكراه بكل صوره واشكاله ، وغياب الحتميات التي تحول دون ممارسة الارادة الانسانية.
اما شعار الديمقراطية يعني أن الديمقراطية ليست مادة نستوردها ، أو أسلوب نقلده فحسب ، وانما هي نمط حياة لا يتكون الا بالتراكم التاريخي ، وهي ليست نظرية للدراسة ، وانما تجربة حياتية بحاجة الى حامل اجتماعي للحفاظ عليها والدفاع عنها ضد اي خطر يواجها وترسيخها داخل المجتمع المدني ، وهي ليست العصا السحرية فالحامل الاجتماعي يحتاج الى تعزيز وتقوية من خلال زرع قيم ومفاهيم جديدة له من خلال الحكم الرشيد وتوفر دولة القانون والمؤسسات.
شعار الديمقراطية لم يعد ترفاً يهم المتقفين والنخبة ، بل هي ضرورة حيوية لخروج الشعب والأمة من عنق الزجاجة ، وهي السبيل لاستعادة النظم الحاكمة شرعيتها ، ومصداقيتها ، وهي السبيل لاستعادة المواطن الفلسطيني لدوره وكرامته وعزته بعد ان فقدها.
تقوم الديمقراطية على تعددية المجتمع سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وفكرياً ، وثنائية السلطة والمعارضة ، ويقصد بالمعارضة الهيئات التي تختلف مع الحكومة وتنتقدها ، وتداول السلطة ، فالحكم الديمقراطي كنوعية حكم لدولة القانون والمؤسسات لا يحتاج الى اناس اطهار ومعصومين وخارقين لممارسة الحكم بقدر ما يحتاج الى اناس عاديين يخضعون للسيد الوحيد وهو القانون من خلال الفصل بين السلطات ورقابة القضاء واستقلاله، واحترام حقوق الشعب في الحياة أعزاء في ظل حياة حرة كريمة.
وبخصوص العدالة الاجتماعية فهي حصن الحقوق ، وبوابة الأمن الشامل ، وبدونها تعم الفوضى وتزدهر الفتن والاظطرابات ، وتزداد اسباب الاحتقان والانفجار في المجتمع ( فالتراكمات الكمية تؤدي الى تغيرات نوعية) ، فالعدالة بمفراداتها هي التي توفر الأمن والاستقرار في حياة الفرد والجماعات ، فلا فلاح وازدهار الا بالعدل ، فهو سبيلنا الوحيد لانجاز الاستقرار والأمن والتقدم ، وان الخروج من ياستيلات وسجن التخلف والتأخر الى رحاب التقدم والحرية والتطور بحاجة الى العدالة، فلا مساواة مع ظلم ، لذلك فان طريق المساواة هو ان يعدل الانسان مع نفسه اولاً ومع غيره ، كما أنه لا حقوق محترمة ومصانة للانسان، اذا كان الظلم هو السائد لانه هو بوابة انتهاك الحقوق والحريات، فالعدالة هي جوهر الأنظمة الديمقراطية وهي جسر توسيع رقعة الحرية في مجالات الحياة المختلفة.
نستخلص مما سبق ان هناك ترابط جدلي مكمل لا انفصال فيه بين هذا الثالوث للوصول الى مجتمع مدني داخل دولة القانون والمؤسسات قائم على العدل وسيادة القانون والتداول السلمي للسلطة والشفافية والنزاهة في العمل والمساواة والعدالة الاجتماعية واحترام حقوق الانسان، يعيش فيه الانسان حياة حرة كريمة دون اكراه أو ابتزاز.
العودة الى الصفحة الرئيسية