كيف انكمشت سواحل العراق ؟؟

 

كاظم فنجان الحمامي

shehryar0@googlegroups.com

 

في القرنة, حيث اقتران دجلة بالفرات, هبط آدم سيد البشر (ع), وهنا تعلم ركوب البحر. ثم استقر في أهوار العراق, التي كانت البوابة المائية لجنات عدن . . ومن قلب العراق, انطلق سيدنا نوح (ع) بسفينته العملاقة. وجاب بها عباب الأمواج المتلاطمة, وواجه الرياح العاتية, في بحار غطت مياهها قمم الجبال. ) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ. فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ. وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ. وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ). . وهنا ركب سيدنا يونس بن متي (ع) السفينة، فهاج بها الموج, وغاص في ظلمات البحر, (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِين). . وفي (أور), التي كانت حاضرة البحر. ولد سيدنا إبراهيم (ع), ونشأ فيها, وانطلق منها في رحلته الأسطورية. وهنا دوّن جلجامش فصول ملحمة الطوفان, ورصد مزاجها البحري المتقلب, ومن هنا أطلق صيحته المدوية, التي أشعلت فتيل الكشوفات البحرية عند كل السلالات. وهنا وقف الرجل الذي سار على الماء (اتونابشتم). ليصيح بأعلى صوته :

يا ملك شورباك . . . يا ابن أوبارو توتو.

أهدم بيتك وشيد زورقا

وهنا قاد نياركوس سفن العبد الصالح (ذي القرنين), وكتب مذكراته البحرية. فخط بيده تفاصيل رحلته الأسطورية المنطلقة من ميناء ( أور ) إلى مدينة خاراكس (ميسان حاليا), مرورا بجزيرة إيكاروس (فيلكا حاليا). وكان السومريون أول من تعلم ركوب البحر, وأول من اشتغل بالتجارة البحرية, وأول من مارس الصيد في المسطحات المائية. فانطلقوا من أريدو إلى الفضاءات البحرية المفتوحة. وكانت (دلمون) في البحرين مقبرة لملوكهم وكهنتهم. .

وهنا عرف البابليون كيف يصنعون بأيديهم الوسيلة المناسبة لارتياد البحر. فنجحوا في مواجهة أهواله, والتغلب عليها. حتى وصلوا بسفنهم, المصنوعة من القصب والبردي, إلى تخوم الصين في شرق الأرض. ووصلوا الى (زنجبار) في جنوب الأرض. وكان العراق سيد الخلجان والبحار من دون منازع. .

ثم ألم يكن العراق هو المهد, الذي احتوى أقدم الحضارات الإنسانية وأعرقها ؟. ألم تنحدر منه أقدم السلالات البشرية, التي انتشرت على سطح كوكب الأرض ؟. ألم تكن الكوفة مركزا للدولة العربية بأنهارها وقنواتها وبحارها. ألم تكن بغداد مقرا للخلافة الإسلامية وامتداداتها البرية والبحرية ؟. ألم تكن سامراء منارة الدولة, التي بسطت نفوذها على كل البحار والمحيطات. من شمال اسبانيا إلى المحيط الهندي ؟. ألم يكن خليج البصرة هو الاسم السائد للخليج العربي برمته ؟. ألم يكن خليج الفرات هو الاسم الأقدم للخليج نفسه ؟. الم تقرأ ما قاله الأعشى شعرا. ولخصه في هذه الأبيات ؟. :

وما مزبد من خليج الفرات

جون غواربه تلتطم

يكب الخلية ذات القلاع

قد كاد جؤجؤها ينحطم

تكأكأ ملاحها وسطها

من الخوف كوثلها يأتزم

ألم يكن ميناء (الأُبلّة) جسر العالم القديم ؟. وحلقة الوصل البحرية لآسيا وأفريقيا وأوربا ؟. إلا إنه. وعلى الرغم من غزارة إرثنا البحري, وتفوقنا الملاحي, وحقوقنا البحرية السيادية الحضارية. يعد العراق اليوم من البلدان المتضررة ساحليا, حسب اتفاقية الأمم المتحدة لأعالي البحار, لامتلاكه ساحلا جغرافيا صغيرا, لا يتجاوز طوله (29) ميلا بحريا فقط , يبدأ من (رأس البيشة) وينتهي في أم قصر, ويشكل هذا الشريط الساحلي الصغير قاعدة لمثلث مقلوب. حيث تستحوذ إيران والكويت على رأس المثلث وما تبقى من أضلاعه المتقزمة. الأمر الذي نجم عنه تكدس موانئنا في منطقة صغيرة ضيقة. علما إن المسطحات البحرية التي يفترض أن تكون مشتركة بين العراق والكويت وإيران. لم تخضع لحد الآن لأي اتفاقية موقعة بين الدول الثلاث حول استغلال الجرف القاري. أو المنطقة المتاخمة. أو المنطقة الاقتصادية الخالصة. إضافة لمناطق الصيد والتجارة البحرية. لما تمثله كل هذه العناوين من موارد لا تستنزف بسهولة. أما الممرات الملاحية المؤدية إلى موانئنا عبر شط العرب. فقد أصبحت مشتركة مع إيران منذ عام 1975. بينما تحاول الكويت فرض هيمنتها المطلقة على خور عبد الله , والسيطرة على حركة السفن المتوجهة إلى مينائي أم قصر وخور الزبير منذ عام 1992 .

وسوف لن ينتهي المشوار عند هذا الوضع, فقد بات من المؤكد أن إيران أقدمت على تغيير اسم شط العرب. ونفذت الكويت مشروعا عملاقا لبناء (ميناء بوبيان). ليس بعيدا عن ميناء أم قصر. . . وفي الوقت الذي تسعى فيه الدول المجاورة إلى توسيع رقعتها المائية. وبسط سلطاتها البحرية إلى ابعد مسافة ممكنة. لم يعد لسفن الصيد العراقية أي وجود في مياهنا الإقليمية. بعد أن حرمت من حصة الوقود اللازمة لتشغيل محركاتها. مما أدى إلى خسارة العراق لنفوذه البحري, الذي يفترض أن يبسطه على مياهه بشتى الطرق. ويفترض أن يذود عنه مهما كانت النتائج والتكاليف. إذ ينبغي أن تشكل سيادتنا على مياهنا الإقليمية أولوية أولى, ولا يجوز التفريط بها أبدا. فضرورات الجغرافية السياسية تملي على العراق أن تكون له إطلالة أمنية دائمة على الخليج العربي. وتملي عليه أن يكون له عمقا استراتيجيا باتجاه البحر. ترى هل كان ابن أبي الخصيب على صواب حينما تنبأ بهذه الكارثة ؟. فقال :

يا خليج .

يا واهب اللؤلؤ, والمحار, والرّدى

فيرجعٍُ الصّدى كأنه النشيجْ

يا خليج يا واهب المحار والرّدى

أن مشكلة تضييق الخناق على مسطحاتنا البحرية. وتداعيات هذا الانكماش الساحلي التدريجي, الذي تعرضت له حدودنا البحرية. ومشكلة حرماننا من أي نفوذ بحري على الخليج العربي. تعد من الخسائر التي لا تدعو إلى التفاؤل.

وثيقة تاريخية تبين الحدود البحرية لولاية البصرة قبل مئة عام فقط. والتي تضم ساحل الخليج العربي برمته

بل أنها تبعث على الدهشة وتثير الاستغراب والسخط والاستياء. إذ كيف انكمشت حدود أعرق دولة في تاريخ كوكب الأرض ؟. وكيف تقلصت هكذا حتى أصبحت بلا سواحل بحرية معتبرة ؟؟. فكل ما يمتلكه العراق الآن لا يتعدى بضعة أميال بحرية محصورة في أقصى الركن الشمالي الغربي لحوض الخليج. ومن هذه الزاوية يطل العراق على رقعة صغيرة من المياه الرسوبية الضحلة, المعروفة بممراتها الملاحية الضيقة, وقيعانها المغطاة بتراكمات الكثبان الرملية. . ومن يصدق أن حصة البلد, الذي كان سيدا لبحار الدنيا, اختزلت بهذه الرقعة البائسة ؟؟. وأي عدالة دولية هذه, التي تحرم مهد الحضارات البشرية من موارده البحرية. بعد أن كان الخليج العربي برمته يحمل السمات والملامح السيادية العراقية ؟؟. أننا إزاء هذا الموقف الخطير الذي يسئ إلى سيادتنا البحرية الوطنية ندعو إلى اتخاذ خطوات عاجلة ومدروسة وفي كل الاتجاهات المتاحة. وبما يكفل للعراق استرداد أمجاده البحرية وحقوقه الدولية.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google

 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com