عن تراجع دور الطبقة الوسطى في العراق

حيدر قاسم الحجامي

wwwhh13@gmail.com

تكمن أهمية الطبقة الوسطى في أي مجتمع من كونها أكثر الطبقات الاجتماعية قدرة على بلورة أفكارها وتنظيم مطالبها وصياغة حركتها وفق منظور علمي  - اجتماعي موضوعي بعيدا عن الاجتزاء أو الخلط ، وهذا سر قوة الطبقة الوسطى فهي تمثل طموحاً في المنافسة السياسية والاجتماعية وناظماً  لصياغة  مطالب الطبقة الأدنى منها ورصف حركتها ضمن برامجها .

 تستمد الطبقة الوسطى هذه الأهمية أيضا من استقلالها واستقرارها النسبي فهي طبقة يعيش إفرادها رخاء ورفاه يوفر مساحة من التطلع نحو المشاركة في حراك المجتمع الفكري والثقافي وقيادة الأنشطة الاجتماعية المتنوعة ، وكذلك كما اشرنا المقوم التعليمي الذي يؤهل إفرادها لطرح أنفسهم كطبقة متخصصة قادرة على القيادة والتنظيم خصوصاً في ظل نظام  مدني .

 إن توسط هذه الطبقة يوفر لها فرصة  التعرف الى مشاكل وهموم وتطلعات كلتا  الطبقيتين و فهم مسارات واطر التعامل مع كل منهما .

  فالطبقة البرجوازية  تمتاز دائما بكونها اقرب الى الركود الفكري أو الثقافي وإميل الى الاستغراق في الأنشطة التجارية التي تزيد من إرباحها وتطور إعمالها فهذه الطبقة مؤيدة للسبات السياسي /  أو على الأقل تبغض التحولات السياسية السريعة ، لأنها تعتقد إن  مصالحها مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالسكون و تفجر الوضع سيفقدها علاقاتها القائمة وسلطتها التجارية  .

 إذن هي تكاد تكون منفصلة  هموم التغير التي تنادي بها الطبقات الأخرى  ، ولذا فان الاتكال عليها لن يزيد هذه الطبقة سوى النفوذ والتسلط وسلب الأموال وإشاعة الفساد المالي نظراً لمعاملتها التجارية التي لا تعرف أي قيمة سوى جني الإرباح ، وهذا ليس اتهاماً أو تعميماً قدر ما هو رؤية واقعية للوضع العربي خصوصاً و الوضع العراقي بالتحديد .

 إما الطبقة الأخرى (العمال )  فهي بعيدة أيضا  عن هموم المشاركة السياسية أو الثقافية لانشغالها بمصارعة الحياة ومواجهة متطلباتها ـ فضلاً عن عدم قدرتها من بلورة مطالبها بصورة واقعية وتنظيم حركتها الاجتماعية في إطار تغيري  .

 في العراق  يمكن القول بنشوء  طبقة وسطى واعدة  بعد تشكيل الدولة 1921م  وتبلورت خصوصاً بعد عقدين أو أكثر من قيام المملكة العراقية وظهور الأجيال الأولى التي تخرجت من المدارس العراقية النظامية والتحاق المتخرجين الجدد بجهاز الدولة الإداري كموظفين ، مما وفر استقرار اقتصادي بفضل الاستقرار السياسي النسبي أيضا وتطور موارد الدولة العراقية وأيضا  استقرار شكل الدولة العراقية آنذاك وميلها نحو  الليبرالية و وجود حياة برلمانية حتى مع شكليتها الا إن إنها وفرت مساحة من التنافس والطموح وخصوصاً من جانب الطبقة الوسطى ، كذلك  التطور الذي شهدته ُ المؤسسة الأبرز في تاريخ الدولة العراقية   "المؤسسة العسكرية " بنظامها وتقاليدها وهموم منتسبيها من الشباب المتعلمين الطامحين للتغيير ، كان هولاء يمثلون طليعة الطبقة الوسطى التي بدأت تبث خطابها الوطني ذا النزعة الاستقلالية .

فضباط الجيش العراقي كانوا يتمتعون بدرجة  جيدة من التعليم واكتسابهم المعارف والعلوم الحياتية مما جعلهم يكتسبون أهمية كبيرة ويتمتعون بنفوذ اجتماعي اعتباري ويمارسون دوراً كبيراً في الحياة الاجتماعية والثقافية  .

 ومع ازدياد فرص التعليم في الدولة يزداد الوعي السياسي والثقافي ويحتل المتخرجون مراكز مهمة نظراً لدرجة علومهم ومؤهلاتهم  العلمية ، كذلك استطاع أبناء الطبقة الوسطى دخول الجمعيات السياسية والأحزاب ، نظراً لطموحهم الكبير في المشاركة السياسية ، ولم تبقى الأحزاب السياسية حكراً على أبناء الطبقة البرجوازية   .

 وحتى ثورة 14 / تموز الوطنية التي  قادها مجموعة من ضباط الجيش العراقي الذين يمكن  اعتبارهم من أبناء الطبقة الوسطى التي كانت تنادي  بالتغيير وتكللت  مطالبها الإصلاحية في الواقع السياسي والاقتصادي ، وما كانت تنجح الثورة لولا أنها أولت الطبقات الاجتماعية المهشمة اهتمامها ومكنت  أبناء الطبقة الوسطى من الوصول الى مراكز إدارية متقدمة مما زاد في نجاح حكومة الثورة في تنفيذ برامج إصلاحية واسعة ، وهذا دفع  بالطبقة البرجوازية وخصوصاً من ملاكي الأراضي الذين سلبتهم الثورة مصدر ثرواتهم المتراكمة يكنون أيما عداء لهذه الثورة ولقادتها  .

  تبرز اشكالية تراجع درر  الطبقة الوسطى  كواحدة من أهم الإشكاليات الاجتماعية في العراق ، فغياب الطبقة الوسطى بخطابها العقلاني والوطني   ساهم في  تخلل البناء المجتمعي الذي يتعرض الى معاول هدم تهد بناه وتزلزل ثوابته بسبب التغيرات الدراماتيكية المتواصلة والهزات العنيفة منذ أمد  .

 يشير مختصون إن بوادر تراجع دور الطبقة الوسطى في العراق بدأ مع قيام سلطة 1968 م الانقلابية  في تأميم منشات   والتوجه الكبير لها في فرض سلطتها المركزية على كل القطاعات ومنها قطاع الصحافة مثلاً ، وبذا فقدت الطبقة الوسطى نفوذها لصالح نفوذ الدولة التي تبنت منهجا يحد من أي  دور يمكن إن تمارسه  الفئات الاجتماعية   ، وكذلك اندماج أكثر فئات  المجتمع في العمل الحكومي الرسمي الخاضع لمركزية السلطة  وتوجهاتها مما جعلهم غير طامحين في قيادة أي حراك قد تعتبره السلطة نشاطاً معادياً لها .

 يضاف إليها ظاهرة صعود الطبقات الأخرى بفضل الطفرة النفطية التي شهدها العراق في سبعينات القرن الماضي ، تكلل بقيام  الدولة المركزية بعملية تحويل الطبقات العمالية الى موظفين في جهاز الدولة  البيروقراطي ، أضف الى ذلك غياب المؤسسات المدنية  التي تعد تمظهرا من تمظهرات حراك الطبقة الوسطى وبالتالي فقد المجتمع قدرته على النمو الطبيعي بعيداً عن حاضنة السلطة ويضاف إليها الحرب الطويلة التي شهدها العراق والتي استنزفت قدرته على التنمية البشرية  .

  ليأتي الحصار الاقتصادي الذي أجهز على بقايا الطبقات الاجتماعية  وفكك بنى المجتمع القارة ، لتظهر طبقات جديدة طفيلية  نمت كتجار حروب أو حزبيين مغمورين تحولوا الى قادة ذوي نفوذ واسع في  الدولة  ، مضافاً إليها إضرار الحصار الاقتصادي كانت بالغة في تحطيم طبقتين بالتحديد الطبقة العمالية   والطبقة الوسطى التي فقدت امتيازها ، فإما لحقت بالطبقة الأغنى بالمتاجرة الغير مشروعة أو ممارستها الفساد المالي ،  أو تراجعت الى الطبقة الأفقر وبالتالي تغيرت بوصلة اهتماماتها وتطلعاتها الى اتجاهات أخرى .

 إن جريمة الحصار الدولي على العراق كانت اكبر عملية تدمير واستنزاف مرَ بها العراق الحديث ، فالحصار كان استكمالاً في حلقات تفتيت البنى الاجتماعية التي لم تكن تأكدت بفعل الشد السياسي المتواصل ، وانهارت الطبقة التي يمكن تسميتها بالحامل للمشروع التغيري في العراق ،  من خلال استشراء حالات الفساد المالي والإداري في المؤسسات العراقية  في طليعتها    المؤسسة العسكرية التي أصبحت منخورة من الداخل ومفككة  بفعل استشراء الفساد الإداري والمالي ودور السلطة في إضعاف هذه المؤسسة  من خلال جعل منتسبيها  يعيشون  حالة العوز المادي الشديد ، في مسعى واضح لتغيير  الأخلاقيات العسكرية  التي يمكنها ضبط الحراك الاجتماعي في العراق .

 وامتد الفساد ليشمل المؤسسات التعليمية التي أصبحت محط تندر اجتماعي ولأول مرة توقف منظمة اليونسكو الاعتراف بالشهادة الجامعية العراقية باعتبار المؤسسات الجامعية العراقية مؤسسات فاسدة   ، وأصبح التعليم في العراق مهزلة بكل ما تحمل الكلمة من معنى مما اضطر الكثير من أبناء هذه المؤسسة هجرتها الى الخارج أو النزول في أسواق العمل التجاري كعمال وكسبة ، والباقي اضطرته الظروف القاسية إن يمارس عملية فساد مالي فيما كانت السلطة تغض النظر عما يواجهه التعليم من مشاكل قاهرة .

 هذه العوامل وغيرها أدت الى تراجع حقيقي وواسع في دور الطبقة الوسطى وتراجعت مشاركتها مما ولد منطقة فراغ أخلاقي وقيمي أثرت في حركة المجتمع وبدلت من خارطة الأولويات في مواجهة التحديات القائمة .

  وفي ظل بيئة الفراغ الأمني والسياسي  الذي شهده العراق بعد 2003   كانت المافيات  هي البديل الموضوعي لغياب الطبقات الاجتماعية الفاعلة التي يمكنها ضبط المجتمع وكبح جماح الحركات التدميرية والتخريبية فيه ، وظهرت في إعقاب الحرب طبقة برجوازية تحولت من قاع المجتمع الى واجهته من حيث امتلاكها المال والنفوذ لتسود المدن موجة الأثرياء الجدد الذين لا يقيمون وزناً لأي اعتبار قيمي أو بعد أخلاقي في ممارسة إعمالهم التجارية ، وكذلك  استمرار بعض كبار موظفي الدولة في عمليات الفساد المالي والإداري كممارسة ناتجة عن غياب الردع المطلوب وإحصائيات هيئة النزاهة ستدلنا على الكثير من هذه هولاء الذين يشغلون درجات وظيفة عليا في مؤسسات الدولة  بما فيها الوظائف الأمنية . 

 إن عودة المجتمع الى أصول بدائية من حيث التوزيع الغير عادل  للثروة بين إفراده ساهم في خلق جماعات أو مافيات تتحكم بإعادة ترتيب الأولويات أو تفرض نفسها بقوة سلطتها المالية على السلطة لكي تحدد أولويات السلطة بما ينسجم مع  تطلعاتها المحمومة للربح السريع من خلال الابتزاز أو المضاربة أو عمليات غسيل الأموال الواسعة أو حتى تلك الجماعات التي تحكم قبضتها على قطاع التجارة وتساهم في تهريب العملات الأجنبية  تحت  غطاء التجارة الحرة وسهولة تبادل النقد كما شار خبير اقتصادي في وقت سابق  ، إن تخريب المجتمع مسؤولية السلطة السابقة على وجه التحديد لكن السلطة الحالية تتحمل جزء من هذا التخريب جراء سكوتها أو غضها النظر على عن هذه الجماعات التي تنمو بشكل واسع وتزداد قوة يوماً بعد أخر مما سيصعب مهمة استئصالها خصوصاً وأنها تستفيد من حالة الانقسام الطائفي الذي يعيشه العراق  .

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google

 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com