|
خليل حمادة الدكتاتور هو إنسان، لا يتميز عن باقي البشر بشيء مطلقا، ويمكن أن نجده في أي مكان، بل يمكن القول بأنه فعلا موجود في الكثير من محطات حياتنا، وأماكن عملنا، وكراسي مؤسساتنا. هو شخص تفاعلت معه مؤثرات ذاتية متأصلة لديه، مع ظروف موضوعية أحاطت به ضمن سياقات معينة فأنتجت ما نسميه بالدكتاتور The Dictator. ثم بفضل ظروف موضوعية جديدة تراكمت مع ظروف النشأة الأولى للدكتاتور، استطاع هذا الدكتاتور أن يرسخ أركان دكتاتوريته ويضع لها أصولا ومبادئ لا يجوز لأي مخلوق أن يناقش فيها، وخطوطا حمراء لا يحق لأي عبد من العبيد أن يتخطاها، وكل من يفكر بتخطيها، فإنه يعتبر قد خاض في محرمات وتابو Taboo الدكتاتور، وليتحمل بعدها الويل والثبور! الحقيقة أننا نحن في مجتمعاتنا، نساهم وللأسف -عبر ثقافة توارثناها- في صناعة الدكتاتور؛ فثقافتنا التي أشربناها تقضي بأن نبجل المسئول، وأن نخلع عليه أرفع الألقاب، حتى أثناء الحديث الانفرادي، والاجتماعي خارج إطار العمل والبروتوكول الرسمي. ثم ننزه هذا المسئول ونرفعه إلى أعلى المراتب الملائكية، ونتزلف له بشكل لا معقول، بل ونلصق أي نقيصة أو مثلبة -صدرت عنه- بغيره، لأنه كامل الأوصاف! ولولا أن السجود في عقيدتنا حرام لغير الله، لسجدنا كل صباح له في المصنع، والمدرسة، والجامعة، والشركة، والمؤسسة الخاصة والعامة. ثم إن مقدار الثقة التي نعطيها لهذا المسئول هو مقدار شبه مطلق، ولا تحكمه معايير واضحة، إلى حد خلق هالة حوله من منطلق "لا يُسألُ عما يفعل"، ليصبح السؤال ضرباً من ضروب قلة الأدب، وشكلا من أشكال خوارم المروءة! وربما توجه للسائل توصية بأن يذهب لبيته ليحصل على قدر مناسب من التربية وأدب الحديث التي لم يتسن له أن يحصل عليهما عند الصغر!! أنا على يقين أن مجتمعاتنا محشوة بالدكتاتورات الذين لم تتح لهم الفرص والظروف المحيطة لأن يمارسوا هذه الدكتاتورية بشكلها المعهود، على الرغم من أنهم يمارسونها في المستويات الاجتماعية والمهنية التي يشغلونها؛ فنجد الدكتاتور في المدرسة والجامعة، والمصنع والشركة، والمكتب والمؤسسة، والهيئة والحزب، وحتى نجده في البيت يمارس دكتاتوريته على أهل بيته إن ضاقت به السبل ولم يستطع ممارستها على من يعمل معهم. الذين يمارسون الدكتاتورية مفضوحون مهما اتبعوا من أساليب التمويه والديمقراطية الكاذبة، ومهما حاولوا أن يُظهروا ضآلة حجم الأنا لديهم؛ فمستوى النرجسية وحجم الأنا مرتفع عندهم ومتضخم بشكل لا يمكن إخفاؤه مطلقا. والبصيرة الاجتماعية لديهم -عند النظر للآخر- تكاد تكون معدومة، ومستوى الاعتداد بالنفس والاستهانة بذلك الآخر يملأ عليهم ذواتهم ويفقدهم الشعور بوجود ذلك الآخر وحاجاته الضرورية، أو حقوقه الطبيعية، ومن هنا تتضخم عقدة التسلط في أماكن تواجدهم داخل الأسرة، أو المكتب أو المصنع، أو الشركة أو المدرسة، أو المؤسسة الحكومية، أو الحزب، ثم نجد تلك المظالم التي نسمع بها في كل مكان... لا بد من الاعتراف أننا نساهم بشكل مباشر أو غير مباشر، وحتى عبر نخبنا المثقفة، بصناعة هذا الدكتاتور، بل وتثبيت أركانه، وتمتين دعائمه، وإطالة عمره وللأسف. ولذلك علينا نحن تقع المسئولية بهدم أركان هذا الدكتاتور، وتقصير عمره، وعدم السماح لفكرة الدكتاتور بأن تعمر ولو للحظة واحدة في مجتمعاتنا ومؤسساتنا. من أجل إزهاق روح فكرة الدكتاتور، علينا وضع حد للتملق والتزلف والنفاق الاجتماعي للمسئول، وتربية النشء على الجرأة المنضبطة بالضوابط الأخلاقية والشرعية، وصقل الشخصية بطابع الشجاعة الاجتماعية لتمكينها على المواجهة العقلانية الهادفة، والتي من شأنها ترسيخ عملية الإصلاح، وعدم المداهنة مع الفساد وتوسيع دائرته بالسكوت عليه إرضاءً لهذا المسئول أو ذاك، وخلع الموروثات التي لا تمت للشريعة بصلة، والتي ألبست عباءة الشريعة ظلما، وما هي من الشريعة بشيء. ثم يجب علينا تربية أبنائنا في البيوت، والمدارس، والمساجد، والنوادي، وجميع المؤسسات التي تساهم في إعدادهم للمستقبل، على حرية الرأي والتعبير، وأن نعودهم على السؤال دائما، وأن لا يشعروا بالقلق أبدا عند السؤال، ضمن ضوابط وأخلاقيات السؤال التي ضبطتها الشريعة ووضحت أصولها. وحديث النبي صلى الله عليه وسلم بيِّنٌ وبليغٌ عندما وضح لنا أن سبيل تحصيل المعرفة وكشف الخفاء لا يكون إلا بالسؤال، فقال: "إنما دواء العي السؤال". وهذا هو الأصل، أن يسأل الإنسان عما لا يعرف، من أجل أن يعرف، وحتى لا يختلط الحق بالباطل، وحتى يماط اللثام الذي يكون في الغالب سببا رئيساً للشك. وأما احتجاج البعض بالآية الكريمة: "يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم"، لمنع السائلين، وردهم، والإنكار عليهم، فهو احتجاج باطل؛ إذ هو متعلق بالسؤال عن المسائل الشرعية التي لا ينبغي فيها السؤال عما لا فائدة منه، أو عما لا يفيد العلم به، ولا يضر الجهل به. أما شئون حياتنا اليومية، والتي تحتاج دائما إلى التصويب وإعادة التوجيه، والتي تخضع في مجملها للبحث والمعرفة والاجتهاد، فلا سبيل إليها إلا بالسؤال. ثم علينا أن نرسخ في أنفسنا قبل غيرنا مبادئ أدب الخلاف التي ننادي بها ليل نهار، لكننا للأسف لا نتقن تطبيقها في واقع حياتنا اليومية؛ فيلزم أن نعود أنفسنا على تقبل رأي الآخر واحترامه، بل واحترام عقول الناس لأنها مثل عقولنا تماما، وأن نحب آراء واقتراحات الآخرين كما نحب آراءنا واقتراحاتنا. ومن المؤسف القول أننا بالكاد نرى رجلا يتراجع عن رأيه إن ثبت له أن رأيا آخر هو خير من رأيه، وإن تراجع فإنه يتراجع مكرها مرغما، لأن التراجع عن الرأي وإن كان خاطئا في موروثنا الدخيل يعتبر ضعفا وهزيمة! كذلك يجب أن نضع محدداتٍ وحدوداً لمفهوم الثقة، وأن نخضع هذه الثقة لعملية إدارية شفافة تضبطها معايير واضحة، لأن تركها مطلقة هكذا دون تحديد، هو من أقوى عوامل صناعة الدكتاتور وترسيخ الدكتاتوريات؛ فالثقة المطلقة لا تكون إلا للأنبياء -عليهم صلوات الله وسلامه جميعا- عبر ما يعرف بالعصمة، وما سواهم فيخطئ ويصيب، وعليه فينبغي أن يُسألَ الكبيرُ قبل الصغير، ويلزمُ عليه أن يجيب، بل وأن تكون هذه هي القاعدة الأصلية وما دونها هو الشذوذ. وإن أردنا تقويضا أكبر لركائز الدكتاتور في المؤسسة، فعلينا أن نقيم اعتبارا للشورى الملزمة، وليست المعلمة فقط، فإن جعل الشورى معلمة فقط هو طريق آخر من طرق صناعة الدكتاتور في مجتمعاتنا ومؤسساتنا، في هذه الأوقات التي تعاني من تسلط الفرد، وقهر الحريات، واختزالها في شخص المسئول. ثم علينا أن نقصي من ثبت تسلطه واعتداده برأيه، ومن لا يقيم اعتبارا لآراء الناس. وعلينا أن لا ندعمه بحجة أنه قوي الشخصية، ويرتجف الجالسون بحضرته، وسريع في اتخاذ القرار... إلى آخر ذلك، فالصفات السابقة تدل على شخصية نرجسية مغرورة متكبرة أكثر من شخصية إدارية حكيمة وحاسمة؛ لذلك يجب تحجيم من يمتلكون هذه الصفات بدلا من ترقيتهم إلى أماكن ومناصب أعلى تسبب تضخم غدة الأنا وعقدة التسلط لديهم، ومن ثم تتراكم المظالم وتعود ليالي الدكتاتورات الكالحة. إن مسألة أننا نساهم في صناعة الدكتاتور هو حقيقة لا يمكن إنكارها؛ لذلك إن أردنا مستقبلا واعدا لأجيالنا القادمة، وإصلاحا حقيقيا لمؤسساتنا، فعلينا أولا أن نبحث بحثا واعيا عن أسباب هذا المرض، لأن تشخيص الداء يسبق وصف الدواء، ثم نتحلى بالشجاعة والجرأة لوضع حلول تحول دون نموه واستشرائه، وسوى ذلك، فسنظل ندور في دائرة مغلقة يتقدم خارجها الآخرون ويتطورون في شتى المجالات، ونحن سنبقى كما نحن الآن "مكانك سر".
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |