|
ثقافة المقدسات في الدستور الجديد
د. لميس كاظم
عندما سقط الصنم سقط معه ولاء عبادته، ذلك الولاء المطلق الذي جمع فيه الصنم كل انواع الولاءات الأخرى، ليسقلها ويصبها في عبادته المترفة، ذلك الولاء الذي ارهق المواطن وجثم على عقله وصدره اكثر من ثلاثة عقود. جائت الأنتخابات ودولة الموسسات لترفع ولاء الوطن فوق كل الولاءات التي ضهرت بقوة. عند بناء المجتمع الديمقراطي الحر يكون المواطن ولائه الأكبر للوطن بغض النظر عن انتمائه الفكري والديني والقومي. إذ ان العملية الديمقراطي السليمة في المجتمع تصهر كل الولاءات المختلفة في ولاء واحد لانها توفر له العلاقة المتبادلة بينه وبين الدولة من خلال اكتمال التبادل الوظيفي بين الحقوق والواجبات. فالمواطن يصبح السلطة الأولى، التي تمنح الشرعية لكل السلطات الدستورية الثلاث، من خلال منحه لصوته الأنتخابي لهذا الحزب او تلك الكتلة الأنتخابية. أن دولة المؤسسات القانونية الحقيقية توفر الحقوق والواجبات المتساوية لكل المواطنين، ويصبح القانون هو السلطة التنفيذية العليا التي تحمي البلد والمواطن من سطوة الأحزاب وكل من له قوة يحاول استخدامها فوق القانون، لذلك يشعر المواطن انه ذو قيمة عالية وهو محمي ومصان من اي تهديد او عنف. هذا الشعور ينمو مع نمو وتطور مؤسسات القانون وحقوق الأنسان والمجتمع. ان الأداء المتساوي لكل افراد المتجمع بطريقة قانونية صحيحة هي التي تطور المجتمع وترفع من رقيه في كافة المجالات وهو الذي يمنح المواطن حقوقة كاملة ويصبح انتماء المواطن لبلده مقدس وفوق كل الميول والأتجاهات، لانه يشعر ان الوطن هو الوحيد الذي يحمية من كل الأزمات الأقتصادية والأجتماعية والسياسية. ان مايجري في العراق حاليا، ونتمنى ان نتجاوزه، هو تكريس لثقافة المقدسات التي تربينا عليها وما اقصدة بالمقدس ليس الدين فقط، فهذا لاخلاف علية ، بل مقدسات الأفكار و الميول القومية والفتاوي الطائفية. ان غلبة تلك المقدسات على مقدسات الوطن هي التي تعطي الشرعية للتجاوز على القانون والمجتمع وتحول القانون الى قوة غير فاعلة. ثقافة المقدسات الدينية تلك التي تربينا عليها منذ نعومة اظفارنا وهي التي تنمي الشعور الديني وعلاقة الأنسان بربة وكتبه السماوية، وهي التي رسخت عندنا العادات والتقاليد الدينية التي امتزجت مع ثقافة الدولة والأفكار. واليوم تجد هذه الثقافة هناك خطوط متوازية بينها وبين الدستور، تقترب وتبتعد هذه المسافة حسب صلاحيات الشريعة الأسلامية والمرجعية و يضاف لها ثقافة الفتاوي، تلك التي تحلل وتحرم ،من كل المذاهب الشيعية والنسية والأباضية والوهابية، حسب الأجتهاد الذي يجمع علية هيئات ومرجعيات المذاهب الدينية. لذلك يجد المواطن ولائه اولا لثقافة الفتاوي تلك التي تتدخل بكل شاردة وواردة ، فعلى سبيل المثل لا الحصر هيئة علماء المسلمين حللت الجهاد ضد المحتل في العراق واعتبرته ومقاومة شريفة، مما اُستغلت تلك الفتاوي من قبل نفايات النظام والأرهابيين وتسببت في قتل الأبرياء. وكذلك الحال فتوى 26 مجتهد ديني وهابي سعودي حللوا الجهاد في العراق لذلك اختلط الجهاد بالأرهاب بشكل معقد ومتداخل وكان نتيجته قتل الألأف من ابناء العراق وتدمير النبية التحية للعراق، واليوم بدء الكل يتراجع عن فتاويه ويجد المخرج من الأزمة بعد ان ذاق العراقيون الويل وتحول البلد الى مستنقع للدماء. نفس الموضوع ينسحب على مباركة المرجعية العليا السيد اية الله علي السيستاني لقائمة الأئتلاف والتي فهمت وروجت لها على انها فتوي مما حصدت نتائج الأنتخابات واثارت خلافات حادة بين القوائم الأخرى. هناك أيضا ثقافة الولاء المقدس للفكر الذي ينتمي له، هذا الولاء الذي حاول الصنم تهديمة، إذ حارب كل الأفكار الغير بعثية وخصوصا الشيوعية والدينية بأعتبارها الد اعدائه ومارس عملية غسل فكري اجباري لغالبية شرائح المجتمع. لكن في العراق يوجد جذور للفكر الماركسي والقومي والديني واغلبية اعضاء هذه الأحزاب لهم انتماء مقدس يستوجب عليهم منح اصواتهم لأحزابهم وهو حق مشروع ومطلوب في المرحلة الحالية والمستقبل القريب. لكنه يتعارض مع طبيعة الأنتخابات الحرة التي تفضي بمنح الصوت الأنتخابي للحزب ذو البرنامج الأنتخابي القوي. فنحن لم نصوت للبرامج الأنتخابية انما صوتنا للولاءات المقدسة. من الملاحظ ان الأحزاب في البلدان الأوربية قوتها التصويتية تتباين في كل دورة انتخابية، لان الناخب لايؤمن بثقافة الولاء المقدس للفكر، وانما ولائه للبرنامج الأنتخابي، فترى على سبيل المثال لا الحصر،الناخب من حزب اليسار ينتخب مرشح حزب اليمين ولا يعتبر هذا هو عيب او خيانة لأفكاره وكذلك فهو يتنقل من حزب الى اخر حسب التغييرات التي تسري على برنامج هذا الحزب او ذاك. اما نحن فلانزال نتملك الولاء المقدس للفكر والعقيدة واي تحول نعتبرة انتهازي او وصولي وغيرها من النعوت، بالوقت الذي برامج الأحزاب الأنتخابية متغييره. ثقافة الولاء المقدس للأنتماء القومي جاء نتيجة للتحالفات الطائفية التي ولدت اصطفافات قومية، لذلك لاحضنا ان اغلبية المواطنيين غير العرب صوتو لقوائهم القومية وهو من المنطق القومي صحيح ومقبول جدا لكن بالواقع التطبيقي والتمثيلي نرى انه لايوجد ممثل قومية يستطيع ان يدافع عن كل شرائح ابناء قوميته، لان الأنتماء للعرق لايحقق للمواطن كل الواجبات والحقوق، وارجو ان لايفهم من هذا المدخل اني ضد تمثيل اي قومية او طائفة في الحكومة او البرلمان على العكس تماما فتمثيلهم مطلوب جدا في الظرف الحالي، لكن شرط ان لايصبح قانون مطلق. ان الدستور القادم يفترض ان يثبت ولائه المقدس للوطن فقط ولايعلو علية ولاء ثاني بأستثاء ولاء المواطن لربه ودينه الذي يدخل في اطار حرية العبادة. في الوقت الحاضر المواطن العراقي مشتت الولاء لما تتداخل فية الولاءات المذكورة اعلاه، بالأضافة الى الأغراءات الأقتصادية والمواقع الحكومية والأهم والأخطر انه عرضة للأبتزاز ومصادرة الحرية الشخصية، إذ لاتزال ثقافة العنف والرعب سارية المفعول حتى بعد الأنتخابات وهناك اكثر من سلطة مسلحة غير شرعية التي تحكم الشارع العراقي، فهناك على سبيل المثال لا الحصر، مجموعات ارهابية ترعب الناس بعدم الأنظمام الى قوات الشرطة والامن الرسمية وهناك مجموعات مسلحة، لجماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تلك التي سلطت نفسها فوق القانون وتحاول ان ترهب المواطن وتمنعه عن مزاولة حريته الشخصية، وهناك عصابات الجريمة المنظمة التي تهدد الأمن الأهلي للمواطن وهناك قوات بدر المسلحة التي تجوب المدن الشيعية وكذلك قوات البيشمركة الجيش النظامية الذي يحمي المناطق الكردية. اغلب تلك القوات المسلحة اللارسمية تبتز المواطن وتجبرة للأنصياع لفتاويها وانظمتها ولهذا اصبح المواطن، في ظل الدولة الضعيفة،غير محمي ومنتهك من اكثر من مجال، مما يحد من امكانية اتخاذ قراره بشكل مستقل، بالوقت الذي نطمح لتطبيق الممارسة الديمقراطية وتحقيق دولة القانون. هذه المقدسات ولدت تناقضات شديدة في عقلية المواطن العراقي مما اضعفت ولائه للمجتمع والوطن وخصوصا انه للتو خارج من نظام شمولي مارس علية القهر بكل اشكاله. هذه المقدسات ستتقلص ولاءاتها حال تحرر المواطن أقتصاديا، بحيث تؤمن الدولة له دخل ثابت غير مرهون بفوز هذا الحزب او ذاك. كذلك تتقلص هذه الولاءات حال ضمان الحرية الشخصية وسيادة دولة القانون الذي تحمي المواطن العراقي وتحقق الأمان والسلم الأجتماعي وتصادر كل المظاهر المسلحة في الشارع العراقي. عندما يشعر المواطن ان حريته الشخصية وحقوقه مصانة ولايوجد سلطة غير القانون تحمية عندها سيقوى ولائه المقدس للوطن. ان نجاج التجربة الديمقراطية وبناء عراق ديمقراطي حر متطور بشكل علمي صحيح يتطلب صهر كل هذه الولاءات في بودقة ولاء الوطن المقدس.
|
||||
© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |