حكايات من ذاكرة الريف.. (7)

 حديث الأكف!!

حسين الهلالي

huseinalhilaly@yahoo.com

وقف حائراً عندما حلت به المصيبة في هذه الجزيرة المترامية الأطراف يلتف يميناً ويساراً ولا يسمع سوى اصوات الرياح وتدفق الرمال إلى الخيمة المنزوية فيها أمه العجوز الوحيدة التي بقيت من العائلة فقد مات أبوه شيخ موزان الذي كان يرأ س احدى القبائل الساكنة هنا وبعد سنة مات أخوه الأ كبر بحادث سقوط فرسه عليه،عندما غارت احدى ارجلها بحفرة، كذلك موت اخته الوحيدة بحادث حريق، واعتبر أفراد تلك القبيلة ذلك نذير شؤم قد حل في هذا المكان استنادا إلى ما قا لته العرافات وضاربات الودع،اللواتي تنتشر الخرافة بينهن وتكثر التعويذات في جزيرة (الكار) التي تسكنها قبا ئل البدور والعويلين وتكثر التلول الأثرية السومرية في هذه المنطقة، مثل مدينة لارسا (السنكرة) ومدينة (الوركاء) الشهيرة ومدينة امّا (تل جوخة) وكثير من النساء يحملن في صدورهن لقى آثارية وحتى تماثيل وهذا ما اكتشفه احد الكشافين الذي تزوره النساء وحاول بكل طريقة ان يأخذه منها فما استطاع،ولما تقدم فقد هاجرت القبيلة جميعا الا هو بقى يشده حبه الشديد لهذه الأرض ونوعما متحرر كونه يقرا ويكتب.

قال: يوماً إلى أمه (يمه ويش تكولين بعد كل هذا الصار بينه)؟

وتجيب قائلة: (أكول قضاء الله وقدره الحمد لله)

(أكول يمه عندج راي ثاني نمشي عليه؟)

(بولدي انا أشوفك منشد لهل الديره اوما تريد اتفارجهه وضا مّه اللي ابصدري ا وسا كته.)

ويرفع صوته قائلاً:(أطلعيه يمه أطلعيه، انا رابح اطك وموت من الحركة)

تعتد ل الأم بجلستها وتشير عليه ان يجلس ويهدأ

قالت الأم:(ما ألنه شيء أهناه يمة بس الغنم والفرس انبيعهن ونروح لخالتك البل بطحه ونعيش بفلوسهن.)

رد عليها بتعجب (وانت تكولين هذا الحجي يمه؟!)

إيه اكوله...

(أبيع فرسي اللي اتسمت بسم أبوي وابيع الغنم اللي رضعت من ثديهه؟!

قالت:(الوكت ايكول هذا.)

قال:(يا وكت يمه!؟)

ردت عليه: (وكتنا هذا العايشين بيه يولدي، اووكتنا ذاك راح سوين كل شي اللي نريده أو ساعدن، الوكت،هل الحين ماهو معا و حنه ما نكدر نوكف أيوجهه هذا يريد صحبه أو صحبتن امعاه ان نغادر هذا المجان

أجابها: يمه أنت هم اتأثرتي بحجي السحارات.

قا لت: (لايمه انا امك وعكلي عندي هي حكمة رب العا لمين سبحانه وتعالى).

وفي الصباح الباكر هدّ بيت الشعر وطواه وشده على احد حميره ووضعت هي أغراض البيت على الحمير الأخرى وسار الركب هو في المقدمة راكباً فرسه وخلفه ألأغنام وهي في خلف الركب سار باتجاه مدينة البطحاء ووصلها عصراً وبقى خارجها ليلاً لأن الوقت كان ربيعاً.

وفي الصباح الباكر عبر النهر إلى الجهة الثانية وأفرغ حمولة الحمير عند خالته التي استغربت ذلك واتجه إلى ساحة بيع (الماشية) وبدأت المزايدات والأ يما ن الكاذبة من قبل (البياعة شرايه) وبعد سلسلة من المزايدات رست الأغنام على مجموعة والحمير على مجموعة أخرى والفرس أخذها صاحب اغنام.

عاد إلى بيت خالته وبكى بكا ءاً مرأً ونام دون ان يأ كل شيئا وبعدها مرض مضراً شديداً وادخل في المستشفى وعولج وتماثل إلى الشفاء واخذ يخرج في الصباح إلى المقهى واتصل بالجماعة التي كان يعرفهم سابقا وبقت حياته على هذه الوثيرة يخرج صباحاً ويعود إلى البيت ثم يخرج عصراً ويعود عند أ ذان المغرب.

في الليل يقلب جميع الأفكار حول كيفية توظيف هذا المبلغ الذي بدأ ينفذ ولكن كيف وأي عمل يناسبه البيع والشراء الذي شاهد أصحاب هذه المهنة يكذبون علناً ويحلفون بأ اغلظ الأيمان كذباً،ام يفتح مخزناً وكيف يتعا مل مع النساء وهو الذي لم يحدث امرأة بصورة مباشرة في حياته؟

بقى ثلاث سنوات لم يجرأ ان يقوم بأ ي عمل يدر عليه ربحاً ولو كان قليلاً إلى ان نفذ المال الذي معه، وفكر ان يذهب إلى دول الخليج لوجود معارف له هناك،ولكن عدل عن الفكرة، و قاده تفكيره النهائي بالذهاب إلى منطقة (المجرة) في سوق الشيوخ، هذه المنطقة المزدهرة في الخمسينات والى الستينات بزراعة الرز العنبر وزراعة النخيل وكثير من مناطق الناصرية  يذهبون أليها خلال الموسم ويسمونه (النيسان)

ذهب مع مجموعة من العوائل القاصدة المنطقة لهذا الغرض، جلس في السفينة التي تنقل الركاب عبر نهر الفرات إلى سوق الشيوخ في فترة الخمسينات، كان مهموماً وحائراً وكان يجري حواراً داخلياً مع نفسه:

(أنا هنا مجرد إنسان لا اعرف أحدا من هذه العوائل، ولا يعرفني احد منهم

وهناك عندما اصل أيضا لا يعرفني احد،انا ابن الشيخ موزان، لازم اعمل انا سوف اصبح وجه لوجه مع العمل، اما ان اعمل او أموت جوعا، ولايمكن ان اقبل هذا الوضع) وصلت السفينة وقت الغروب ونزلت العوائل وتوزعت على البيوت التي تعرفها سابقاً، بقى هو حائراً وسار يفتش في البيوت وسأل احد المارة عن بيت شيخ هذه القرية فأشار هذا الشخص إلى المضيف الكبير، فأ تجه إلى المضيف ودخله وسلم على الحاضرين وبعد فترة وجيزة نهض وتوضأ وصلى وبعد ذلك قدم له الطعام وشعر نفسياً بأ رتياح، وبقى ثلاثة أيام لا يشترك في حديث الديوان فقط يسمع ما يدور فيه من حديث، وفي آخر اليوم الثالث سأله الشيخ عن حاجته فأجابه بأ نه يفتش عن عمل.

قال: له الشيخ وصلت عندنا العمل

اجابه: الله يديمك يا محفوظ ويمدك بالعا فيه والرزق

قال الشيخ: انا يبني ما عندي ولد...وانت عملك اهناه بالمضيف

وتروح أتجيب الزاد من على الحايط اوما أريدك تطب للبيت مطلقاً

اومااريدك تسألني بعد!!

اجابه: اللي تريد ايصير يمحفوظ.

أمضى ليلته يفكر بأمر الشيخ... وما هو السر في البيت؟

لكنه قال مع نفسه: ان هذا الشيء لا يعنيني انا اريد ان اعمل وهذه حدود عملي.بدأفي الصباح الباكر عمله في البستان بوضع التراب على محيط النخيل اوينتقل إلى الأرض ليسوى مروزها ويعود ظهراً إلى المضيف ويشير عليه الشيخ ان يأتي بالطعام وعليه ان ينادي من خلف الجدار بكلمة (الزاد يهل الدار) نهض وخرج من المضيف خا ئفاً وكأنه ينتظر مفاجأ ة في ذلك المكان، وصل إلى هناك ووقف مرتجفأ وجف لسا نه ومحيط حلقه، لكنه أخيرا استجمع كل قواه وتذكر شجاعته في (البر) ونادى على أهل الدار بنص العبارة التي استلمها من الشيخ، وانتظر ينظر إلى الجدار وبعد برهة من الزمن ارتفعت (الصينية) الكبيرة من جهة الجدار الثانية ووضعت على الجدار وانسحب من تحتها كفان ذو أصابع ممتلئة جميلة وبهدوء تام، فتح فاه متعجباً! ثم تقد م من الإناء ورفعه واتجه إلى المضيف.

كان هذا ما شاهده اليوم، واخذ يربط بين هذا الحدث وبين ما قاله الشيخ

وفي الليل عندما آوى إلى فراشه اخذ يفكر بالكفين والأصابع الممتلئة الجميلة التي امتدت مع االأناء.

استمرت هذه العملية خلال عدة اشهر وتكررت عدة مرات خصوصاً إذا كان هناك ضيوف مهمين، بعد هذه الفترة الطويلة بدأ الكفان يتباطئآن بالانسحاب وتحركهما بالاستفسار عنه ومن أين هو؟ ويرد عليها بأ شارة تمثل البعد، لقد اقتنعت به جيداً من خلال رؤيتها له عبر ثقوب الجدار، اما هو فلا يراها أبدا، لم يعرف احد بهذه العلاقة ألا عجوز تسكن في كوخ وحدها كان يركن إليها لأنها تشبه أمه سأ لها عن البيت وعن أهل البيت

فأجابته بأن شمس هي درة البيت ولايمكن التقرب منها، لأنّ أبيها يقتلها ويقتل الذي يقترب منها خصوصاً إذا شم من ذلك ان هناك علاقة، ابني لاتقرب إلى هذا البئر الأظلم، قبلك ابني طاح بيه او قتلوه غير هؤلاء القوم.

(ولكن ياخله أنه طحت ابهذا البير شيطلعني)

(اشرد ابجلدك كبل ما ايصلخه الك ابوهه)

وينهض من الأمرأة العجوز كئيباً حزيناً ويعود إلى المضيف ويخلد إلى الفراش بعد ان غادره الضيوف تكررت هذه الحاله وكثر حديث الأكف وانطرح أحدهما ببطن الأخر وخصوصاً في وقت جلب العشاء وفي الظلام.

استقبل الشيخ في يوم جديد ضيوفاً من خارج المنطقة ونحرت الذبائح هو بقى ينظر إلى هؤلاء بريبة، وبعد انتهاء الغداء بدأ رجل الدين الذي يرافقهم يتحدث حول خطبة البنت إلى ابن الشيخ الفلاني الذي يرأس الوفد

وبعد مداولات اشترك فيها الجميع قبل ابوها بإعطائها لهم وتم كل شيء

خرج هو من المضيف وشعر بأ ختناق شديد، وبعد ان ذهب الضيوف وجن الليل ذهب كعادته يجلب العشاء وامتدت له اليدان وطرح يديه هو الآخر وبكى الأثنان بكاءاً مخنوقاً، وقال متمثلاً بهذه القصيدة

 أريدت جفك أتطرحه بوسط جفي اوترد للكلب دكانه

أو يمر تيار من كلبك لعد كلبي أو تذل نيران حسراته

مشيت او منكسر كلبك يخلي كلمن... أو ذاته

وأنا ادري تره الغيرة سواف تارسه صدرك

طويل اشها كثر صبرك

وأنا صبري الملا ني

طال وطولت هجرك

شنو عذرك

وخلال فترة الخطوبة والتي مقدارها سبعة أيام، كان يذهب إلى بيت العجوز يبثها آلامه ولواعجه وتشاركه في البكاء.

وجاء اليوم الذي تغادر بيه أهلها ومن حبته، وحضر الرجال والنساء لنقلها إلى بيت زوجها، وبين اعداد الطعام والقهوة ذهب إلى (الناعور) الذي يقع على نهر الفرات ويبعد قليلاً عن البيت واتكأ عليه.

يقول السيد ناجي ونحن في زورقنا الخاص متجهين إلى زواج احد اصدقائنا في القرية الثانية سمعنا صوت غناء شجياً تناهى إلى سمعنا من (الناعور) الذي يبعد عنا بمسافة وقلنا إلى ملاح السفينة ان يسرع حتى نتبين كلمات بيت الأبوذية ومن حسن الحظ انه يعيده مرات قبل ان يختمه وهذه عادة المغني يتلذذ في البيت وصلنا بالقرب منه فسكت، وبقينا مع أنفسنا نلومه لماذا لم يختم البيت؟

ونحن في حديثنا هذا، جاءت امرأة عجوز حاملة اناء للماء واقتربت منه وصرخت قائلة:- (مات المائله احد..متت، موت احسنلك)

قلنا:- لها ماذا تقولين ياامرأه!؟

قالت:- (لا تتعجبون)!! وبدأت تسرد قصته وهم مصغون إليها بتلهف، وبعد ذلك انزلوه من عمود (الناعور) وغطوه بالعباءة ووضعوه في الزورق وعادوا من حيث أتوا وبدأوا يقرأؤن البيت ليكملوه والبيت:-

  اهنا يل شيبتني شاب حالاك

 أو تظل للدوم عيني شاب حالاك

 على جتلي كهل يوشاب حالاك

 يخايب ما كلت مغرم خطية

ورباط البيت هم الذين أكملوه اما ما حدث لها هي فعندما انتشر الخبر في القرية، شهقت وسقطت ميتة، ويقول السيد ناجي وبينما نحن نجهز جنازتة لإرسالها إلى النجف جيء بجنازتها فوضعا على سيارة واحدة.

 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2... bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com