طوال خمسة قرون: 80 % من جهودنا
لـ«المحافظة» على المرأة
20 % من جهودنا لـ«تنمية» المرأة!
كلما تفتح وعي الناس على واقعهم، وكلما تفتح وعيهم على ما بينهم من تباينات
وتنوعات قفزت (قضية المرأة) لتكون أحد المحاور الأساسية في كل نقاش، بل إن
كثيرًا من الاتجاهات والأحزاب الإسلامية وغير الإسلامية يجعلون من موقفهم
من المرأة أحد أهم الدلالات على طبيعة اتجاههم وطبيعة نظرتهم للمسائل
الوطنية الكبرى، ولهذا فإن تناول مسائل إصلاح المرأة، يتسم بحساسية خاصة
لدى الجميع، ولا يكاد يطرح حتى يثير العواصف والزوابع الإعلامية في كل
اتجاه وعلى كل مستوى؛ ولهذا فإن التناول له يتسم دائمًا بالحيطة والحذر،
ويحتاج إلى الكثير من الاحترازات.
ومن وجه آخر فإن كل الأمم ـ على ما يبدو ـ تجعل من المرأة المناط الأساس
لشرفها، كما تجعل منها ما يشبه المؤتمن على تواصل الأجيال على المستوى
الأسري، وكأن هزّ المرأة للمهد جعل منها القيّم الأول على عملية نقل
التقاليد الشعبية واستمرارها عبر العصور. ل
لا أستطيع في هذا المقال أن أقول كل ما يجب قوله، فأقصر إذن على ما أراه
أكثر أهمية، وذلك عبر الحروف الصغيرة الآتية:
* لا يستطيع أحد فينا أن يزعم أن أحوال المرأة المسلمة على خير ما يرام،
فنحن نشكو من سوء حال المرأة المسلمة، كما نشكو من سوء حال الرجل المسلم؛
بل إنه ليس في الغرب أو الشرق من يستطيع أن يدعي أن أحوال نسائه ورجاله
مستغنية عن الإصلاح. وإذا كان في الدول الغربية من يتخذ من الحديث عن أوضاع
المرأة المسلمة عامة والمرأة العربية خاصة، وسيلة للضغط علينا ووسيلة
للتدخل في شؤوننا، فإن هذا لا ينبغي أن يدفعنا إلى التباطؤ في تنمية المرأة
المسلمة ودفعها نحو الأمام.
نحن من حيث المبدأ مع كل من يدعو إلى الإصلاح كائنًا من كان، ولكل من يساعد
عليه الشكر والعرفان.
* من المهم أن نعترف أنه على مدار العصور الخمسة الماضية ـ ولك أن تقول
القرون ـ كان جل اهتمامنا مصروفًا إلى صيانة المرأة المسلمة والتفكير في
المحافظة عليها ومنعها من الاختلاط بالرجال. قد صرفنا 80% من جهودنا في
ذلك، وصرفنا 20% منها على صعيد تنميتها وإعدادها للمهمات الملقاة على
كاهلها.
وكان علينا أن نفعل العكس من ذلك. إننا لا نختلف في أهمية حجاب المرأة
وأهمية إبعادها عن مواطن الفتن وإبعاد مواطن الفتن عنها، لكن هذا يجب أن
يتساوق مع توفير البرامج والأطر والآليات التي تساعدها على أن تكون الزوجة
والمربية والداعية والمواطنة الصالحة والمنتجة. ولو أننا تساءلنا عن
المؤسسات التي توفر ذلك لم نجد إلا القليل والقليل جدًا مما يمكن أن نتحدث
عنه.
* إن الغرب حين يطالب بإصلاح أوضاع المرأة المسلمة ـ وكذلك الذين يحتطبون
بحباله ـ ينظر إلى واقع المرأة لدينا، وإلى ما يجب أن تكون عليه، من أفق
ثقافته ورؤاه الحضارية، وبما أن الغربيين يجعلون من ثقافتهم ومن منجزاتهم
مرجعية كونية شاملة ومتفردة، فإنهم لا يستطيعون أن يدركوا أن العالم وإن
كان يستظل بحضارة واحدة، هي حضارتهم إلا أنه يحتفظ لنفسه بتنوع ثقافي هائل،
ونحن المسلمين لسنا راضين عن وضع المرأة الغربية، كما أن ما اقتبسته بعض
الدول الإسلامية من الغرب على صعيد المرأة سبَّب مشكلات كثيرة، ولم ننتفع
منه بشيء ذي قيمة؛ ومن ثم فإننا لا نجد لدى الغرب النموذج المنشود للمرأة
المسلمة.
إن أمة الإسلام وهي تحاول النهوض بأوضاع المرأة لديها لا تنطلق من فراغ
تشريعي أو معرفي، كما أنها ليست الأمة الطارئة على التاريخ، ولا الأمة التي
تشكو العوز على مستوى الأعراف والتقاليد والدلالات الرمزية. إننا بمعنى آخر
نملك على مستوى الفلسفة وعلى مستوى التشريع منظومة من القيم والمفاهيم
والأحكام التي توجه كل حركات النهوض والتقدم على الصعد كافة بما فيها صعيد
المرأة. وإننا بالتالي نعتقد أن الإصلاح الذي يرمي إلى نزع قضية المرأة من
تلك المنظومة ليس بإصلاح، وإنما هو تخريب.
تحريم الله ـ تعالى ـ للزنا يستلزم بداهة تأسيس أوضاع، تساعد الرجال
والنساء على العفاف من نحو البعد عن اختلاط الجنسين وستر المرأة لمفاتنها،
والبعد عن كل ما يهيج الغرائز. وإن كون المرأة ترث نصف نصيب الرجل من
الميراث في بعض الحالات ـ مرتبط بتشريعات أخرى مثل كون الرجل هو المكلف
بالإنفاق على الأسرة ومثل كونه هو الذي يدفع المهر وهكذا.
إن كثيرًا من الذين يطالبون بإصلاح شؤون المرأة وفق ما هو سائد لدى العالم
الصناعي لا يعيرون أي انتباه لمسألة مهمة، هي أن التقدم على النحو الممتاز
يظل مرتهنًا للانسجام بين معتقدات المرء وسلوكاته وأوضاعه العامة، كما أن
التوجيهات والتشريعات الإسلامية تعمل مجتمعة في إطار منظومة واحدة، وإن
إدخال أي تعديلات جوهرية على أي جزء من أجزاء المنظومة يعوق أداءها الكلي.
* إذا تركنا الثوابت التي لدينا في القضايا المتعلقة بشؤون المرأة، فإننا
سنغادرها إلى اجتهادات وتجارب بشرية قاصرة وصادرة عن رؤى إقليمية وجانبية
محدودة (والعقل لا يصدر دائمًا إلا عن رؤى جزئية)، وتلك الاجتهادات متغيرة
ومتجددة، والارتباط بها لا يعني التبعية لما هو مرحلي ومتطور فحسب، لكنه
يعني أيضًا إحداث تصدعات في البنى العميقة داخل مجتمعاتنا، وتشتيت القوى
الاجتماعية بين متمسك بالقديم ولاهث خلف الجديد؛ وليس في هذا مصلحة لأي أحد
فينا.
حين غزا الأوروبيون إفريقيا في القرن التاسع عشر أبدوا استهجانهم لتكشف
المرأة الإفريقية وعدم اهتمامها بستر جسدها، حيث كانت المرأة الأوروبية
آنذاك تلبس ثيابًا طويلة سابغة، كما كانت تضع شيئًا على رأسها. واليوم
تجاوز العري الأوروبي كل مقاييس الحشمة، وصار ما هو دارج حجة أخلاقية
وقانونية يمكن الاتكاء عليها بعيدًا عن أي نصوص دينية أو موروثات ثقافية.
وتجاوز الأمر ذلك أيضًا إلى أنه يضيق بلد ذرعًا بقطعة قماش تضعها مسلمة على
رأسها، وتصدر القوانين الحاظرة لذلك، مع أن ذلك البلد يوصف بأنه مركز
التنوير والإشعاع الحضاري والديموقراطي الأول!!
* إن الاختلاف التشريحي والفزيولوجي بين الرجل والمرأة حدد في الحقيقة إلى
مدى بعيد الدور الأساسي لكل منهما في الحياة، فكون المرأة هي التي تحمل
وتلد وتُرضع، جعل من الأمور الطبيعية أن تهتم هي بشؤون الأسرة وليس الرجل،
كما جعل من الطبيعي أيضًا أن تمكث في البيت أكثر من مكوث الرجل. وهذا يؤثر
في مجمل خبراتها الحياتية، ويجعل أداءها لكثير من الأعمال خارج المنزل لا
يتم بالكفاءة التي تبدو في أداء الرجل؛ ولهذا فإن المرأة لم تستفد من
تشريعات المساواة المطلقة مع الرجال في كثير من بلدان العالم سوى القليل؛
ولا سيما على صعيد الوظائف العليا، فنسبتهن بين رؤساء الدول والوزراء
والأمناء والمديرين العامين متدنية جدًا، ولا تقدم الدول المتقدمة شيئًا
زائدًا في هذا عما تقدمه الدول النامية، ثم إن كون المرأة أخف وزنًا من
الرجل وأصغر حجمًا منه، جعلها غير قادرة على مباشرة الأعمال التي تتطلب
درجة عالية من القوة البدنية، وهكذا فالدول التي جندت النساء في جيوشها تكل
إليها القيام ببعض الأعمال الإدارية، ولا تكلفها في الغالب بمباشرة القتال.
وفي الولايات المتحدة انتهت بعض الدراسات والإحصاءات إلى أن الشرطية تستخدم
السلاح، وتقتل من المطاردين أكثر مما يفعله الشرطة الذكور بسبب ضعف القوة
البدنية لدى النساء وتوفرها لدى الذكور.
ولا يخفى أن بعضًا من سوء معاملة المرأة وبعضًا من الظلم الذي يقع عليها في
كل أنحاء المعمورة، يعود إلى ضعفها البدني مقارنة بالرجل، وإن تأجج العاطفة
لدى المرأة إلى حد السيطرة شبه الكاملة على القرار الشخصي وعلى المحاكمة
العقلية ـ لا سيما في أوقات الغضب ـ يفسر حكمة إعطاء إدارة الأسرة والقوامة
للرجل، وجعل الطلاق في يده على نحو عام وليس في يدها، إن كثيرًا من الخديعة
للنساء والكثير من التلاعب بهن وتوظيفهن من قبل بعض الرجال في أعمال لا
أخلاقية، يتم بوصفه حصيلة نهائية لكل العوامل التي أشرت إليها، وقد أشارت
إحصائية حديثة إلى أنه للمرة الأولى في التاريخ تتجاوز نسبة المواليد غير
الشرعيين في بريطانيا نسبة المواليد الذين ولدوا داخل مؤسسة الزواج. وفي
هذا عبرة لمن يستطيع أن يعتبر!
* نحن ننظر إلى الاختلاف بين الرجل والمرأة على كل المستويات وفي كل
الملامح على أنه جزء من عملية التناسق الكبرى التي بثها البارئ ـ سبحانه ـ
في هذا الكون، فكون قيام الأسرة يشكل أحد أبرز معالم الحياة الاجتماعية في
الرؤية الإسلامية ـ اقتضى وجود الاختلاف بين الرجل والمرأة، حيث يأتي
الانسجام هنا من التباين، وليس من التناظر، على قاعدة: «نختلف لنأتلف»،
فزيادة العاطفة لدى المرأة ترطب أجواء الأسرة، وتلطف العلاقات داخلها، كما
أنها ضرورية جدًا لأداء الخدمة الشاقة في تربية الأطفال. وزيادة درجة
المحاكمة العقلية لدى الرجل تساعد على ترشيد قرارات الأسرة، وتوجهها الوجهة
الصحيحة، ويحدث الكثير من الخلل حين تتراجع العاطفة لدى المرأة، وحين تطغى
لدى الرجل.
كما أننا ننظر من وجه آخر إلى الاختلاف بين الجنسين على أنه معقد الابتلاء
في الحياة الاجتماعية، إذ على الرجل أن ينظر إلى التباين بينه وبين المرأة
على أنه أداة اختبار له، وعلى المرأة أن تفعل مثل ذلك، وهذا هو البديل
الجيد من أن ينظر كل منهما إلى نفسه على أنه محور وعلى الآخر الدوران في
فلكه.
* إن أحد أهم المنطلقات في مسألة النهوض بالمرأة المسلمة يتجسد في النظر
إلى أن الأصل في واجبات الرجال والنساء واحتياجاتهم وحقوقهم وآفاق نموهم
والفرص التي يجب أن تتاح لهم ـ هو التوحد والتشابه، وليس الخصوصية والتباين
إلا ما دلت النصوص الصحيحة الصريحة والأحكام المعتمدة على الاختلاف فيه.
وهذه النظرة مخالفة على نحو جذري للنظرة التي تجعل من التباين بين الجنسين
أصلاً، ومن ثم فإن على من يدعي التماثل الإثبات بالأدلة والبراهين. يقول
الله تعالى: {ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون
الجنة ولا يظلمون نقيرْا} (سورة النساء: 124) وقال: {وما كان لمؤمن ولا
مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرْا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم} (سورة
الأحزاب: 36). وقال سبحانه: {إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات
والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين
والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم
والحافظات والذاكرين الله كثيرْا والذاكرات أعد لهم مغفرة وأجرْا عظيمْا} (
سورة الأحزاب: 35) وقال: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون
بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله
ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم} (سورة التوبة: 71 ).
إن حاجات المرأة البدنية والروحية والنفسية والترويحية والأدبية والمعيشية
لا تختلف عن حاجات الرجل، وينبغي العمل على تلبيتها في إطار خصوصية المرأة
ووفق حدود الشريعة الغراء، وللمرأة على الرجل حقوق كما أن للرجل على المرأة
حقوقًا، وقد قال سبحانه: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن
درجة} (سورة البقرة: 228). وقد كان ترجمان القرآن ابن عباس يقول انطلاقًا
من هذه الآية: «إني لأحب أن أتزين لزوجتي كما أحب أن تتزين لي»، وذُكر أنه
قال في تفسير الآية: «أي لهن من حسن الصحبة والعشرة بالمعروف على أزواجهن
مثل الذي عليهن من الطاعة فيما أوجبه الله عليهن لأزواجهن». وقد اختلف
المفسرون في تفسير كلمة (الدرجة) على أقوال، وقد ذهب ابن عباس إلى أن
الدرجة إشارة إلى حض الرجال على حسن العشرة والتوسع للنساء في المال
والخُلُق، أي أن الأفضل ينبغي أن يتحامل على نفسه. قال ابن عطية: «وهذا قول
حسن بارع».
إن للمرأة المسلمة الحق في أن تتطلع إلى تحقيق ذاتها وإثبات وجودها والقيام
بدور ريادي في المجتمع عن طريق الدعوة إلى الله تعالى وتثقيف الجيل،
والمشاركة في الحركة الإصلاحية، والمساهمة في تنمية الاقتصاد، ودفع عجلة
التقدم بما لا يؤثر على وظائفها القائمة بها فعلاً من رعاية الأسرة وتنشئة
الطفولة، وبما لا يتعارض مع الأطر الشرعية المعروفة في هذا الشأن، إننا لا
نستطيع، كما لا يستطيع غيرنا، أن نفصل للنساء الأمور التي تتطلع إليها، أو
تحقق ذاتها عن طريقها، فهذا شيء يشرطه الزمان الحاضر ونوعية الحالة
الحضارية السائدة، ولا تختلف المرأة في هذا عن الرجل. المهم دائمًا مشروعية
الأهداف ومشروعية الوسائل بالنسبة إلى كل منهما.
والحقيقة أن الأمة اليوم بما تعانيه من ضعف في كل المجالات بحاجة ماسة إلى
جهود كل أبنائها وبناتها، وهو ما يجعل كثيرًا مما أشرت إليه على أنه حقوق
نوعًا من الواجبات الحضارية التي ينبغي إعداد المرأة للقيام بها والنهوض
إليها.
* يقول علماؤنا: الخير المحض نادر، والشر المحض نادر، ومعظم الأمور عبارة
عن خير يشوبه بعض الشر، وشر يشوبه بعض الخير. وإننا انطلاقًا من هذا سنجد
دائمًا بعض الميزات والإيجابيات لكثير من الأنشطة النسائية، كما سنجد أيضًا
بعض المثالب والسلبيات لكثير من ذلك. وعلينا من خلال معرفتنا بموازين
الشريعة السمحة ومعرفتنا بسنن الله تعالى في الخلق، بالإضافة إلى فهمنا
لطبائع الأشياء ومنطقها ـ أن نقوم بـ(تقويم) الإيجابيات والسلبيات لكل عمل
من الأعمال وكل نشاط من الأنشطة التي تحتاج إليها المرأة، وينبغي أن تساهم
هي على نحو فاعل وواسع في توضيح الحاجات وتقويم الأنشطة، فما غلبت
إيجابياته على سلبياته صارت سلبياته في حكم العدم، وما غلبت سلبياته
إيجابياته، صارت إيجابياته كذلك، مع الأخذ في الحسبان أن تقديرنا للمزايا
والنقائص كثيرًا ما يكون اجتهاديًا يقبل الخلاف والجدل والرؤية المتعددة.
وإذا كان هذا صحيحًا فإن على الأمة أن توحد كلمتها، وتتعاون على تطهير
المجتمع من السلوكات والأوضاع المتفق على تجريمها والمتفق على سلبياتها
وضآلة إيجابياتها، كما أن عليها أن تبقي الباب مفتوحًا للحوار في الأمور
المختلف فيها، وأن تتعلم مع ذلك كيف تتسامح فيما يحتمل تعدد الرؤية وتباين
النظر والتقدير من أفق الحكم الشرعي أولاً، ومن أفق النظر العقلي والخبرة
المتراكمة ثانيًا.
ومن الملاحظ في هذا الإطار أن كثيرين منا لا يظهرون أي استعداد للمناقشة في
المزايا والعيوب، ولا ينفتحون على أي رأي مغاير لآرائهم في قضايا المرأة،
وقد استسهلوا حظر أي نشاط أو عمل أو إطار لمحوا فيه سلبية من السلبيات، غير
مدركين للأضرار الخلقية والنفسية والاجتماعية التي تتعرض لها المرأة بسبب
كبح روح المبادرة لديها، وتضييق المجال الحيوي لنشاطها وحركتها.
إن على أهل الخير والغيرة على المرأة المسلمة أن يدركوا أن الزمان ليس
ممتدًا أمامهم إلى ما لا نهاية، وأنهم إذا لم يسعوا على نحو جاد لإصلاح شأن
المرأة من أفق مبادئهم ومنطلقاتهم ورؤاهم، فإن غيرهم سينجز المهمة وفق ما
يراه، وعليهم آنذاك ألا يلوموا إلا أنفسهم. * من المهم في كل مشروعات
الإصلاح العامة وتلك الخاصة بالمرأة أن نركز على التثقيف والتربية بوصفهما
المورد الأكبر لبناء الإنسان من الداخل، وبوصفهما الأداة الأكثر فاعلية
لتأسيس ذات حرة كريمة، تحركها المبادئ والقناعات الذاتية، ويكبح جماحها
الوجدان والضمير والوازع الداخلي. وقد بات هذا الأمر اليوم أكثر إلحاحًا،
حيث أخذت العولمة تهمش كل السلطات: سلطة الدولة والمجتمع والأسرة والمدرسة،
وسينتج عن كل ذلك تدهور في سلطة الأعراف والعادات والتقاليد، وهو ما يعني
أهمية استثنائية للرقابة الذاتية والمبادرة الخاصة التثقيف الجيد القائم
على الحوار وتوسيع الأفق وقبول النقد والنظر إلى الأشياء من زوايا متعددة،
يساعد الأجيال الجديدة على الشعور بالمسؤولية من خلال شعور بحرية الاختيار.
ومن الشعور بالمسؤولية تنبثق الشخصية، ويبزغ فجر الإنسان المبادر والمنضبط
ذاتيًا. وإن من المؤسف أننا على مدار التاريخ لم نكن نواجه انحرافات
المجتمع وأمراضه وأشكال قصوره بتحسين مستوى التثقيف أو تطوير البنية
التربوية، وإنما كنا نواجه ذلك بالإفراط في استخدام القوة وسن المزيد من
النظم والقوانين الكابتة للنشاط والمقيدة للحركة. وقد عبر عن هذه الوضعية
عمر بن عبدالعزيز، رحمه الله، حين قال: «يحدث للناس من الأقضية على مقدار
ما يحدثون من الفجور». ولم نحصل من وراء كل ذلك إلا على أقل القليل من
الصلاح والاستقامة والتقدم، لكننا خرجنا أجيالاً من الإمّعات والمهمشين،
وأجيالاً من ذوي السلوكات المتناقضة والنفوس الناقمة، والتطلعات المرتبكة.
إن التثقيف الجيد يحتاج إلى وقت وإلى جهد وصبر لكن نتائجه مذهلة! وإن طبيعة
التدين الحق والالتزام الصحيح تتأبى على القسر والإكراه، وتنمو وتنتعش مع
التحفيز والتشجيع والعناية الفائقة.
* تواجه المرأة المسلمة العديد من المشكلات النفسية والاجتماعية
والاقتصادية، وهذه المشكلات منها ما هو خاص بها، ومنها ما هو مشترك بين
النساء جميعًا، وإن من سنة الله تعالى، في الابتلاء أن الذي يتحرك في إطار
مبادئه وقيمه يجد نفسه يتحرك في مدى أضيق من المدى الذي يتحرك فيه من يمضي
وفق رغباته وشهواته المطلقة، وهذه القيود والتكاليف تثقل كاهل الإنسان،
ولكنها في الوقت نفسه تشكل وسائله وسبله إلى الرقي والسمو والنجاة، ومثلها
في ذلك مثل جناحي النسر يثقلان حين يكون على الأرض لكن بهما يبلغ طبقات
الجو العليا، وأنا أشعر أن إحساس الرجال بحجم معاناة النساء ضعيف، وقد
تعودنا إصدار الأحكام العامة دون الدخول في التفاصيل، مع أن الشياطين، كما
يقولون، تكمن في التفاصيل. وهذا بعض ما أعتقد أنه يشكل أزمات عامة للمرأة
المسلمة، على نسب متفاوتة.
كثير من النساء يعانين السأم والملل والفراغ بسبب أن لديهن في البيت من
يخدمهن ويحمل عنهن عناء رعاية المنزل. وهناك عدد كبير آخر من نساء المدن
والأرياف يجدن أوقاتًا كثيرة في المساء لا يعرفن كيف يملأنها، ونظرت المرأة
إلى نفسها فوجدت أنه ليس لديها رسالة سامية تسعى إلى نشرها، وليس لها
اهتمام بخدمة اجتماعية تقوم بتأديتها، كما أنه ليس لها هواية نافعة تقوم
بممارستها، وكانت النتيجة ضيق الصدر وتراكم الهم، وكان الملاذ في الخلاص من
الفراغ هو الجلوس أمام الفضائيات ومتابعة ما فيها من غث وسمين، واللجوء إلى
التسوق والتجول في الأسواق، وقد نمت النزعة الاستهلاكية لدى المرأة المسلمة
والنزعة نحو التزين على نحو سبقت به المرأة الأوروبية! إن المرأة عندنا
تتعامل مع المنتجات الاستهلاكية كما يتعامل السجين مع الطعام، حيث لا يجد
ما يمارس حريته تجاهه سواه!
كثيرًا ما نقول: إن الوظيفة الأساسية للمرأة هي رعاية شؤون الأسرة وتربية
الأطفال. وهذا حق لا جدال فيه، لكن ماذا تعمل العوانس اللواتي لم يتزوجن؟
وماذا تعمل امرأة لم تنجب؟ وماذا تعمل امرأة كبر أولادها؟ ووجدت نفسها
وحيدة بين أربعة جدران؟ وماذا تعمل امرأة تزوجت وطلقت؟ إن هذه الفئات تشكل
نسبة لا يستهان بها بين النساء.
هذه الوضعية تحتاج إلى حلول مركبة، قد يكون أولها حفز المرأة على تكوين
رسالة دعوية أو اجتماعية أو خدمية تحاول تأديتها والعمل من أجلها، وهذه
مهمة وسائل الإعلام في المقام الأول.
ومن تلك الحلول إيجاد أماكن للتسوق خاصة بالنساء، ويمكن داخل تلك الأماكن
إيجاد أنشطة تربوية وتعليمية وترفيهية في إطار المباح؛ فذلك يساعد على شغل
الوقت بشيء نافع بعيدًا عن مواطن الفتن. ويظل الحل الأكثر نفعًا والأكثر
إمكانًا هو إنشاء ما لا يحصى من المؤسسات والأطر الخيرية والتدريبية
والتعليمية التي تساعد المرأة على تنمية ذاتها، وعلى أداء دورها في خدمة
الأمة. ونحن مقصرون في هذا تقصيرًا كبيرًا، وإن من المؤسف أن المرأة
المسلمة تكاد تكون المرأة الوحيدة بين نساء الديانات المختلفة التي لا تذهب
إلى مكان العبادة، مع صريح قوله [:«لا تمنعوا إماء الله مساجد الله»، وقوله
[ :«إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها»، أخرج الحديثين مسلم
في صحيحه ولا خلاف في أن على المرأة المسلمة إذا خرجت إلى المسجد أن تترك
التزين والتطيب، وأن تلبس اللباس الساتر، إن معظم مساجدنا ليس بها أي مكان
مخصص للنساء، والأماكن المخصصة في بعضها كثيرًا ما تكون ضيقة ومهملة.
والعجيب أن كثيرين ممن يخشون من وقوع نسائهم في الفتنة إذا ذهبت إلى المسجد
لا يجدون حرجًا في تجول نسائهم في الأسواق الساعات الطوال من غير رجل
يرافقهن، ولا يجدون حرجًا في الذهاب مع أهليهم إلى الحدائق العامة والسفر
بهم إلى البلاد الأجنبية!
إن حضور المرأة إلى المسجد ليس من أجل الصلاة فحسب، وإنما من أجل الانتفاع
بالموعظة، وممارسة نشاط دعوي وتربوي وتعليمي، يمكن أن ينشأ في دوائر النساء
إذا ما نحن ملكنا الرؤية الصحيحة لتنمية المرأة المسلمة.
إن كثيرات من النساء يعانين الأمرين من مشكلة الاختلاط في الدوائر والشركات
والمؤسسات، ويتعرضن للكثير من الأذى والتحرش الجنسي، ولا أحد يهتم بهذا،
ولا يسلط الضوء عليه، وبعض النساء يعانين انحراف أزواجهن وسلوكهم طريق
الرذيلة واستسهال الخيانة الزوجية، كما أن بعضهن يعانين من زوج مدمن على
المسكرات أو المخدرات. وبعضهن يعانين من الزوج الذي يسهر مع (شلته) إلى
الفجر، ثم يعود إلى البيت لينام سويعات، ثم يذهب إلى عمله، ثم يعود لينام
ويأكل، ثم ينصرف إلى أصدقائه وهكذا..!!
هناك نساء كثيرات يعانين ضرب أزواجهن لهن والاعتداء على أموالهن ورواتبهن،
وهناك وهناك.. إن كثيرًا من هذه المشكلات جاءت به أو زادت في تفاقمه الظروف
الحضارية الراهنة، وإن كل هذا يحتاج إلى مواجهة شجاعة وحلول ناجعة، وأتصور
أن علينا أن نقلل من الاختلاط إلى الحد الأدنى، وأن ننشئ أعدادًا كبيرة من
الجمعيات والمؤسسات واللجان التي تسعى إلى تثقيف الرجال والنساء بأصول
الحياة الأسرية وآدابها، كما تقوم بإصلاح ذات البين وحل المشكلات المتفاقمة
بين الزوجين، كما أن علينا أن ننشئ محاكم مستعجلة جدًا وذات شفافية عالية
من أجل الأخذ على أيدي الأزواج الظالمين والفاسدين والمهملين.
لا بد أن ننشئ المزيد من الأطر لتوظيف المرأة للاستفادة من مؤهلاتها، ونحن
نقول منذ البداية: إن الوظيفة الأساسية للمرأة هي الأمومة والقيام بأعباء
البيت والأسرة، لكن هناك نساء تعملن ونلن أعلى الشهادات والأمة في حاجة
ماسة إلى عملهن وخبراتهن، وهناك نساء لم يتزوجن والوظيفة بالنسبة إليهن باب
للرزق وملء للفراغ. وفي ظل تراجع دخل الفرد في معظم الدول الإسلامية صار
معظم الموظفين غير قادرين على توفير المال المطلوب لحياة أسرية كريمة،
ويحتاجون إلى مشاركة زوجاتهم في تغطية نفقات الأسرة وهناك وهناك... إن
الارتقاء بالحياة يوفر دائمًا المزيد من فرص العمل، وإن بعض الدول خاض
تجارب ناجحة في توفير أعمال كريمة من خلال مشروعات (الأسر المنتجة)، كما أن
بعض الشعوب الإسلامية تتبع تقليدًا حميدًا في توفير معلمين ومعلمات ومؤدبين
ومؤدبات على مستوى عال من الاستقامة والمعرفة من أجل تهذيب وإرشاد الأولاد
والبنات في البيوت. وأتصور أن سن تشريعات، في المدن على الأقل، لجعل الذهاب
إلى رياض الأطفال منذ سن الرابعة إلزاميًا سوف يقدم خدمة كبيرة للأسر
والنساء الباحثات عن العمل.
إننا حين نملك ما يكفي من العزيمة والوعي، فسنجد الكثير من الحلول، وسننجز
إنجازات ضخمة للمرأة المسلمة والمجتمع المسلم.