قصة قصيرة

  

النسخة الارضية

 

                                                                                      احمد فاضل فرهود

 الملل ماجعله يأوي الى فراشه, وليس النعاس..وكان يعلم انه سيخوض حربه المعتادة للظفر بلحظة وقوف تحت الرذاذ اللآهي لشلال الوسن الذي يسلمه لحالة هي اقرب للغيبوبة منها الى النوم..لم يكن يعاني من كوابيس او حتى احلام عادية...كان جل ماينشده هو التعب..الذي يؤهله للانتصار على الارق الذي يقف في مسافة ما مابين العدو والصديق. لحظات الاستيقاظ الاولى هي ماتقلقه حقا, لم يجروء ابدا على وصفها لاي كان كي لا يتهم بالجنون..وهو يعلم ان لا احد من اصدقائه ومعارفه يمكن ان يصدق مايحدث ...كان يجتر هذه الافكار قبل ان يتسلل اليه المنقذ ..تعب يسلمه لوسن يغيب بعده عن هذا العالم...لم يكن بحاجة الى منبه يوقظه كل صباح فهو يصحو في الدقائق الدائرة حول الساعة السادسة...استيقظ كعادته كانه يأتي الى هذا العالم وسط موجة من الاصوات والكلام الذي بلا معنى وترانيم من لغات اخرى وموسيقى متقطعة تستمر ثواني ...واصاخ السمع ...هل يحدث اليوم ايضا مالايجروء على وصفه لاحد...ثواني قليله تمر وبعدها...نعم انه يسمع ذات الصوت وذات الكلمات وذات الموسيقى...

(اعطني الناي وغني..فالغنا سر الخلود ..وانين الناي يبقى ..بعد ان يفنى الوجود)...جلس على سريره لحظات وكانت فكرة خمّرها من البارحة هي اول مافكّر به..نعم سيذهب اليوم لرؤية طبيب نفساني...هو يدرك ان حالته لم تكن مؤلمه او مزعجة لكنما تكرارها يقلقه وهو صاحب القناعة بان كل شيء يحدث لسبب ما. استسلم لتلك الموسيقى وسمح لها مثل كل صباح ان تتسرب اليه عبر مساماته وهو يغتسل , وهو يرتدي ملابسه . وهو يتناول قدح الشاي الذي نادرا مايكون مصحوبا بشيء اخر..خرج الى الباحة الامامية لداره البسيطة ونظر نظرة حانية لحديقته الصغيرة..لم تكن بينها اشجار نادرة او ورودا غريبة..شجرتان من النارنج وثلاث شجيرات من الجوري ونبتة لم يعرفها قط شقت الارض من تلقاء نفسها ..وكانت بطريقة ما تعطيه املا بالغد من خلال انتظاره لزهرة ما قد تعلو غصن من اغصانها ذات صباح , نزل الى الحديقة واقترب من النبتة المجهولة ومد يده الى ورقة من اوراقها ولامسها برقة متناهية ولايدري هل تخيل ان الموسيقى المتسربة اليه ومنه هو ماجعل الورقة تميل لأصبعه, ام ان نسمة تسببت بذلك...اعتاد التفكير هكذا بعاطفية وشجن كل صباح فالاغنية المتسربة اليه ومنه تدفعه لذلك. صعد الى الممر المؤدي الى الباب الخارجي ورفع بصره الى سلك الكهرباء الذي يمر امام داره والذي يبدو له كانبوب فارغ ليس له فائدة سوى توفير منصة للعصافير التي احسها تحدّق به بغرابة هذا الصباح وتمنى لبرهة ان يفهم ماتتهامس به, فتح الباب بسهوله فلم يكن عليها اقفالا ولامزاليج ,ودلف الى الشارع ليبدأ مسيرته اليومية الى عمله معلما في مدرسة ابتدائية تتوسط قرية نائية في احدى النواحي . كان عليه اولا ان يقطع الطريق الى موقف السيارات الذي يبدو له كل صباح مثل اخطبوط ضخم بالف ذراع  تتلقف  القادمين لترمي بهم في وجهات شتى , دروب ملّت زوّارها فتكسرت تحتهم لتنفث التراب في وجوههم..وعجلات تعج بالراحلين الصامتين ..وقف  بانتظار عجلة اعتاد ان يستقلّها فسائقها يعرفه ويحجز له المقعد الامامي فلا يضطر لمشاركة المدخنين دخان سكائرهم .

 كانت حركة المارّة والباعة تبدو وكأنها معادة بالحركة البطيئة ,يتابع تصرفات الناس  ونقاشاتهم وشجاراتهم على انغام الموسيقى المتسربة اليه ومنه باستسلام كامل..يلاحق ببصره طفلين يبيعان المناديل الورقية وكيف يتلذذ احدهما بالاستئثار بالزبائن..وحين يفوز بصفقة يقهقه بانتصار,فيهجم عليه الخاسر فيهرب من امامه ليحتمي وراء الشيخ ذو اللحية البيضاء المبعثرة الذي يقف مثل نصب عسكري حاملا قطعتين او ثلاث من الملابس المستعمله يحاول بيعها ربما منذ الف عام . يدير رأسه في المكان, كأنه صباح البارحة ,الوجوه ذاتها ..والدروب ذاتها ,والموسيقى المتسربة اليه ومنه تجعله وكأنه يتابع المشهد من خلال شاشة عملاقه.فهو بطيء الاستجابة لاي حدث ,كما حدث قبل ايام حين تبرع احد المارة وسحبه من يده ليوسع الطريق لعجلة صدّعت الجميع بصوت المنبه.

 وفجأة اختلف المشهد امامه بسرعة هائلة..كانما تمددت الارض من تحته لترتفع بكل من في الموقف لتقذف بهم الى الاعلى بسرعة عالية واستقروا في الاعلى دون ان يسقطوا الى الارض متجمدين في لقطتهم الاخيرة ودائرين بحركة بطيئة جدا مثل رواد الفضاء. لم يستطع ان يفهم مايجري تلفت حوله فشاهد الطفلين الذين يبيعان المناديل الورقية احدهما مستغرق بضحكته المستفزة والاخر يمد يده اليه للكمه ببطأ شديد...وكأن يده مربوطة بخيط ما...دقق النظر مرة اخرى ..هذا ليس تصورا فحسب ..يد الطفل مربوطة فعلا بخيط ما..والطفل الاخر ايضا..والشيخ ذو اللحية البيضاء المبعثرة...و....هو ايضا...حرك يده فاذا هي مربوطة بخيط ما الى الاسفل...تفحص المشهد فتراءى له الجميع وكأنهم طائرات ورقية.. حاول ان يتتبع الخيط المربوط  بيده فصدم حين وجد انه ينتهي بمعصم رجل اخر ملقى على الارض رجل يشبهه كثيرا لكنه متناثر الاشلاء ومتسخ ومدمّى...ارعبه المنظر فحاول ان يتتبع الخيوط المربوطة بمعاصم الاخرين فوجدها هي الاخرى تنتهي بنسخ ارضية لهم ملقاة على الارض متناثرة الاشلاء ومتسخة..ومدمّاة!! كأنه شاهد هذا المشهد في مكان ما ..على شاشة التلفاز ؟؟؟ ربما. المشهد على الارض ينذر بشيء ما فقد هرع الناس الى النسخ الارضية محاولين سحبها الى اماكن اخرى..حتى انه شاهد الطفل المشاكس ذو الضحكة المستفزة يسحب دون ان يدري مربوطا بنسخته الارضية  الى مكان مجهول وقد افلت من لكمة صاحبه الذي يسحب هو الاخر باتجاه معاكس..دار في خلده ان مايحدث هو وهم آخر بفعل الموسيقى المتسربة اليه ومنه والتي مازالت تشغل مسامعه عما يجري...

وفي الوقت الذي كان يتابع فيه الشيخ ذو اللحية البيضاء المبعثرة وهو يسحب الى جهة مجهولة احسّ بشيء يجذبه من معصمه ويسحبه هو الاخر باتجاه المدينه...فضوله هو ماجعله يستمر في متابعة الامر فهو لم يشك قط انه قادر في اية لحظة على التخلص من الخيط الذي يربطه بنسخته الارضية التي كدست مع نسخ اخرى كثيرة اخذت تمر بمراسيم سبق وان شاهدها او سمع عنها ...لكنه لم يأخذ الامر على محمل الجد فهو مازال في كامل وعيه يشاهد كل شيء الى ان وصل الى مكان ارعبه واقشعرّ له بدنه ...الامر يصبح جديا اكثر ...لا ..لا..انهم يحاولون انزال نسخته الارضية في حفرة صغيرة..هنا فقط قرر ان يتخلص من الخيط وحاول بهدوء تام ان يفك العقدة..ولكن لم تكن هنالك عقدة..حار في الامر وقد بدا له الخيط موصولا بمعصمه وكأنه امتداد لجلده وحين جذبه رغبة في قطعه جذبت معه كل خلية من خلايا جسمه...الامر يجري بسرعة ..والناس يحاولون غلق الحفرة والغروب يسابقهم في القدوم ولايمكن ان يبقى معلقا هكذا ...وللمرة الاولى حاول الاستعانة بالموسيقى المتسربة اليه ومنه علّها تضفي عليه هدوءا وسكينه تمكنه من ايجاد طريقة للتخلص من الخيط ,وهذا ماشغله عن الناس وهم يهمون بالرحيل قبل ان يحل الظلام...وفجأة احس بحركة مفاجئة في الخيط وكأنه شيء حي..جفل وابعد يده عنه كمن يصعق بتيار كهربائي...تمدد الخيط واتسع بحجم جسمه وابتلعه في لحظة واحدة..تفحص جدران الخيط من الداخل فبدت له هلامية ورخوة وكأن حوتا ما ابتلعه...ساد صمت مطبق ولاول مرة ينقطع صوت الموسيقى المتسربة اليه ومنه وبدا كل شيء وكانه جامد ومتوقف تماما ..ولم يدم هذا الا ثانية واحدة ثم بدا تيار عظيم يسحبه باتجاه الحفرة بسرعة هائلة أحس معها بان لحمه يكاد يتناثر واستمر الامر فترة  حتى دار في خلده انه بهذه السرعة لابد وان يكون قد وصل الى كوكب اخر..ثم بدأت المادة الهلامية تتركز شيئا فشيئا حتى انه ارتطم بها واحس بالم عظيم وهو يخترقها..ثم...فجأة سكن كل شيء.. ووجد نفسه في الحفرة ولم تكن المادة الهلامية التي اخترقها الاّ نسخته الارضية..تفحص المكان فاحس صوتا خافتا في الناحية البعيدة كأن احدا يتصفح سجلا ما..حاول تركيز النظر باتجاه الصوت فوجد كائنان كأنهما رجلان يتصفحان سجلات كثيرة...وشيئا فشيئا اتضحت الرؤيا فرأى من خلفهما الاف السجلات ...جدران مركومة من السجلات...يقلبون الاوراق وينظرون اليه بأسى ...احس بوحدة شديدة وبدا له انهم يعرفون كل شيء ..وهو يجهل كل شيء ..وهذا مما ضخم احساسه بالخوف من المجهول ..تمتم احدهم وهو يشير اليه..انه منهم !!...فرد الاخر..نعم !! انهم الوحيدون الذين تأتي معهم سجلات ماعمله الاخرين بهم..لحظات بدت له دهرا ...

ومما زاد من احساسه بالوحشة هو ان الامور تجري هنا بدون اسباب اعتادها, فهو يعلم جيدا انه في الحفرة التي شاهدها ولكنها تبدو الان اكبر بكثير ولم يستطع ان يحدد مصدر الضوء المنتشر في ارجاء الحفرة ..ضوء لاينتمي الى العالم الذي عرفه..كانه يتكون من ملايين الذرات الصغيرة التي حسب ان بامكانه ان يمسك واحدة منها...فضوله يدفعه مرة اخرى لان يختبر ذلك ..مدّ اصبعه ببطأ مستغلا انشغال الكائنين بتصفح السجلات...

 ولامس ذرة نور فبدى له وكأنها تحولت الى قطرة ماء اخذت بالاتساع شيئا فشيئا حتى اصبحت موجة ..انها موجة مألوفة لديه..كالتي تغشاه في لحظة الاستيقاظ من نومه...وتساءل بشغف..هل ممكن ان يحدث الان ما يحدث معه كل صباح...وللمرة الاولى يتمنى ان يسمع مرة اخرى الموسيقى المتسربة اليه ومنه...الموجة تكبر..تغمره بذرات مابين الماء والنور...انها الاصوات ذاتها والكلمات التي بلا معنى وترانيم من لغات اخرى...ابتسم بحبور واستسلم كمن يحمل على الهواء ...ثواني تمر ثم تسربت اليه ذات الموسيقى ...ذات الكلمات التي تمتم هو بها هذه المرة ( اعطني الناي وغني..فالغنا سر الخلود ...وانين الناي يبقى ..بعد ان يفنى الوجود) ....صعق الكائنان وهم يتابعون امرا لاينبغي ان يحدث هنا...كيف يخترق عالمهم شيء من عالم الغبار...ازبدوا وارعدوا ..اما هو فقد كانت تغشاه سكينة الهية ..نظر اليهم هذه المرة نظرة العارف بالامور ..فمه يفتر عن ابتسامة الواثق..وتمتم......انها الساعة السادسة....................

الاطفال الصغار في الفصل الدراسي فاغري افواههم...ولايكادون يفقهون شيئا من حديث مدير المدرسة الذي ينعى معلما وعدهم البارحة ان يعطيهم حرف الباء....النبتة المجهولة في حديقته تتلوى من الم ما....ولاتجروء ان تفشي لشجيرات الورد سرّ الموسيقى المتسربة اليها.... ومنها .

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2... bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com