|
دراسات نقدية
موضوعات و عناصر القص الرومنسي بقلم : صالح الرزوق salehrazzouk@hotmail.com إن تتبع موضوعات القصة الرومنسية لدى أعلامها ، أمثال المنفلوطي و جبران و نعيمة ، في غاية اليسر و السهولة. إلا أن الأمر ليس كذلك إذا عمدنا إلى تقليب صفحات القصة السورية فقط. فالقصة الفنية في سوريا و التي تدين بنشأتها إلى فؤاد الشايب مؤلف ( تاريخ جرح ) ، و بتطورها إلى عبدالسلام العجيلي مؤلف ( بنت الساحرة ) ، فيها القليل من الفكر الرومنسي و الكثير من التقاليد الكلاسيكية المأخوذة من أصول نضجت في أوروبا و أمريكا. و على ما يبدو أن الآية معكوسة في حقل الرواية. فقد ولدت هذه في سوريا مصبوغة باللون الرومنسي ( نهم لشكيب الجابري ـ 1937 ، و سيد قريش لمعروف الأرناؤوط ـ 1929 ). و لعل سبب إهمال القص الرومنسي بالمقارنة مع أمثاله من المدرسة الواقعية هو أن أعلام فن الرجل الصغير غير رومنسيين بالمعنى المدرسي لهذه الكلمة . لا أشك لحظة واحدة في أن الفكرة الرومنسية موجودة في نماذج متعددة ، منذ البدايات و حتى اللحظة الراهنة ، إلا أن ذلك لا يعني أنها استطاعت أن تؤسس لتيار أو مدرسة أو مذهب له منبر نعترف به . لقد كانت أشبه بكائنات ما قبل التاريخ ، و من الشائع في أوساط النقد الأدبي التطبيقي أن أكثر اللوحات القصصية رومنسية في سورية مجموعتين .. أنواء و أضواء ـ 1947 لسامي الكيالي ، و أغاني الليل ـ 1922 لمحمد صبحي أبو غنيمة . ففي هاتين الطلقتين المبكرتين بصمات جبرانية ـ منفلوطية واضحة تجعل منهما إعادة إنتاج لجملة من المفاهيم الفانتازية البكاءة. أي أنها تمثل مرحلة ( الالتهام ) لا مرحلة الهضم و التركيب. فالتركيب الرومنسي ( و هو عندي يوازي الإبداع ) مرحلة تلي تفكيك المؤثرات إلى عناصرها الرئيسة . و على وجه العموم لم يعلق على صدر رواد الرومنسية نياشين تقدير كما حصل مع الواقعية ، و من بعدها حركات التحديث على اختلاف ألوانها. من هذا الدرب الشائك يمكن أن نستخلص الأمور التالية فيما يتعلق بعناصر القص الرومنسي : 1 – اختلطت النزعة الاجتماعية الإصلاحية بروح هجاءة و بكاءة. يمثل الهجاء نوعا من الرفض لقيم ظالمة تحد من حرية الفرد و من انطلاقته. و هذا يذكرنا بالثورة الجبرانية على أخلاقيات مجتمعه . فقد رفض جبران التقاليد و الشرائع التي جردت الإنسان من ذاتيته و حولته إلى مجرد رقم يدور في فلك من النواميس و التقاليد الجامدة. أما البكاء فإنه ملح الرومنسية الذي لا بد منه ، و بالأخص في النماذج المبكرة. و يرجع الفضل في ذلك إلى المنفلوطي الذي عرّب و كتب عشرات اللوحات المتباكية ، حتى أصبحت المنفلوطية في الأدب توازي معنى البكاء و اللوعة. و قد انتشرت هذه الظاهرة في عموم الأدب العربي إلى حد لا بأس به ، حتى أنها تجاوزت في ذلك نماذج الآداب الأوروبية. ففي رواية ( رجل العواطف ـ 1771 ) لهنري ماكنزي يذكر البكاء قرابة أربعين مرة في مائتي صفحة ، أي بمعدل مرة واحدة كل خمس صفحات. علما أن رواية ماكنزي تعتبر من النصوص النموذجية التي يبكي الشخوص فيها كردة فعل على جملة العواطف البشرية من ألم و فرح و اعتراف بالجميل أو حتى لمجرد اللذة بالبكاء. و بالمقارنة فإن مثالا سوريا و ليكن ( سر الهاربتين ) لمحمد النجار ( * ) يظهر تفوقا عدديا في مسألة البكاء على رواية ماكنزي. فهنا يرد ذكر الدموع و البكاء و النواح ثماني مرات من الألم ، و مرة واحدة من الفرح حين تلتقي الأم بابنتها الفارة في قصر صديق زوجها . و مجموع ذلك تسع مرات في سبع عشرة صفحة أي بمعدل مرة كل صفحتين. هذا إذا تحفظنا على الألفاظ الدرامية الصاخبة الأخرى من مثل : زعقت زعقة ، شقت ثوبها ، لبثت ملتاعة ، و ما شابه ذلك. فهل نقول إن رجل العواطف الذي بكى أربعين مرة لم يكن عاطفيا ؟. من السخف أن تتكبد الإجابة على هذا السؤال ، إلا أن مجرد التفكير به يلقي بقعة ضوء على الحد الذي وصلت إليه القصة الرومنسية المحلية فيما يتعلق بمسألة تجنيد العواطف لمخاطبة القارئ. حتى أني أكاد أقول إن ( العين ) في القص العربي الرومنسي تستخدم للبكاء و ذرف الدموع أكثر مما تستخدم للغرض الأساسي الذي وجدت من أجله و هو الإبصار. 2 – حركت القصة الرومنسية في أوروبا المشاعر الدينية ، و سمحت للأدباء بالتعبير عن عقائدهم و مذاهبهم بعدما كان هذا الأمر محظورا على أدباء الكلاسيكية. و قد اقتربت القصة الرومنسية في سوريا من الموضوع الديني و أبرز مثال على ذلك كتابات علي الطنطاوي و معروف الأرناؤوط. إلا أن الشكل الذي اتخذته هذه المقاربة كان شكلا تاريخيا. أي أن الموضوع الديني قد طرح في إطار تاريخي ، أهم ما فيه روعة و بهاء مراحل خلت من تاريخ الأمة. فقد اختلط ما هو قومي بما هو ديني . و اهتم القاص بإبراز قيم رومنسية هامة مثل البطولة و الفروسية و الفداء و التفاني و الوفاء و الشرف. و من الواضح أن الخطاب القصصي في هذه الموضوعات ليس خطابا عقليا ، إنما هو أولا عاطفي ، و ثانيا مطلق يريد التسامي بالروح و لو كان ذلك على حساب الجسد. و أرى أن التجربة المسيحية التي تغنت بآلام السيد المسيح هي الوجه المقابل لهذه الغنائية القومية ـ الدينية التي تبتهج بالألم ، و تسعد بالتضحية في سبيل المثال ( الأرض و العرض في التجربة القومية ، و جنة عرضها ملكوت السموات و الأرض في التجربة الدينية ) . و أحب أن أنوه إلى أن المسألة في حدها القومي متعلقة بما يمتلك المرء أي أنها متعلقة بذاته و بمركزية ذاته. إلى مثل هذا النوع من السرد تسربت تقاليد قصص المغامرات التي أبدع فيها والتر سكوت الإنكليزي و إسكندر ديماس الفرنسي . فالمادة التاريخية التي يوفرها القصص الديني و قصص البطولات القومية تحتوي على الكثير من المغامرات و الأسرار و الدسائس و حكايات الحب التي تصلح مع الرومنسيين. 3 –ا قصص الأهوال و الأسرار الغامضة لم يكن لها وزن إلا قليلا. و أعتقد أن هذا اللون الذي احتكرته الآداب الأورو ـ أمريكية لم يكن قادرا على مجابهة الأغراض الاجتماعية و الأخلاقية لفن القصة. 4 – ركز الوعي الرومنسي في فن القصة على نقطتين إثنتين : * الألم و غالبا ما تكون المعاناة ذاتية في أفلاك وجدانية قاتمة. * الطبيعة و تأخذ أحد شكلين ، إما تكون امتدادا للنفس البشرية تتلون بألوان حالتها النفسية فتصفر أوراق الأشجار و تتساقط و تذبل الزهور و تموت في حالات الأمراض العشقية أو سواها من الصدمات العاطفية ، أو تكون بديلا عن الآخر يهرب المؤلف الرومنسي إلى أحضانها بدلا من أن يهرب إلى أحضان أمه أو إلى أحضان كائن اجتماعي آخر ( صديق ، أخ ، أب ، منظمة ...) ، ليبثها شكواه و همومه و عذابات روحه في تقلبها على جمر القلق و الترقب. و لا يمكن أن نتفهم صورة القصة الرومنسية في سوريا ما لم نتناول بعض نماذجها بالعرض و التحليل . و قد اخترت لهذا الغرض مجموعة من النصوص التي ظهرت على صفحات الدوريات أو في مجموعات مستقلة ، و حاولت بقدر الإمكان الابتعاد عما درس من قبل تجنبا للتكرار.
هامش :
هذه المقالة هي جزء من مقدمة عن الحركة الرومنسية في سوريا ، و لها تتمة.
|
| |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |