|
دراسات نقدية
الصراع المتجدد بين الإنسان وقوى الطبيعة الغامضة قراءة في رواية العجوز والبحر
صادق مجبل الموسوي كاتب وشاعر من قضاء الرفاعي تَمتَدُّ حكايات الصراع الإنسـاني مَع قوى الطبيعة الغامضة إلى فترات بعيدة في التاريخ وتأخذ في ذلك عدة اوجه واتجاهات وحفل تاريخ البشرية منذ نشأته بحكايات تجسد هذا الصراع التقليدي والمستمر والمتجدد بَيْنَ الإنسان المدافع والقوى المهاجمة ، وبما إن الأدب والفن له الأهمية كمتعة وضرورة ، ويكون معبر ومترجم حقيقي عن روئ الإنسان وتصوراته كما أن البعض أعده سلاحا إضافيا في الكفاح الإنساني ، والبحر ذلك العالم الساحر والميتافيزيقيا الزرقاء الرائعة الذي كتبت حوله النصوص وعبرت عن جماله اللوحات ، حتى صار ما يعرف الآن بــ( أدب البحر ) و كان للأدب الأمريكي النصيب الأوفر في الكتابة عن عوالم البحر وتجسيد قضية الصراع الإنساني مع قوى الطبيعة الغامضة ، حيث ظهر الروائي الأمريكي المعروف هرمان ملفل (1819-1891) واشتهر في روايته "موبي ديك " التي جسد فيها الصراع متمثلا ذلك في المطاردة الناشبة بين سفينة " الباقوطة " وجماعات حيتان العنبر المتراصة في صفوف المناطق الاستوائية الدافئة كما هو أسلوب هرمان ملفل الروائي الأمريكي الذي اشتهر كأول أديب كان له نصيبه السباق في الكتابة حول عوالم البحر وخصوصا ذلك الذي يدور حول جدلية الصراع بين الإنسان وقوى الطبيعة الغامضة ، مواطن ملفل الآخر وهو الأمريكي أيضا والروائي الماهر ارنست همنغواي المولود 1899 الذي حاز على عدة جوائز دولية بفضل اسلوبه الرائع ومنها جائزة نوبل 1954..ومن الأعمال التي جسد فيها همنغواي هذا الصراع روايته الشهيرة " الشيخ والبحر" التي دارت أحداثها حول صراع مرير بين العجوز واسماك القرش والسمكة الجبارة وقد جمعت الرواية بين العذوبة والفائدة وهي من اعظم الأعمال الروائية في القرن الماضي والكاتب من طراز فذ وتمرس بالنضال الإنساني على اتساعه وشموله وتنوعه وقد جاء في تقرير جائزة نوبل للآداب التي حاز عليها همنغواي عام 1954 " لأستاذيته في فن الرواية الحديثة ولقوة اسلوبه كما يظهر ذلك بوضوح في قصته الأخيرة العجوز والبحر " وتعتبر الرواية ثاني اعظم رواية في أدب البحر التي صورت الصراع بين الإنسان وقوى الطبيعة وجسده في بطل الرواية العجوز " سنتياغو " مع اسماك القرش المتوحشة والسمكة الكبيرة الجبارة فقد تميزت هذه الرواية بخبرات واقعية بعالم البحر ، وتُظهر لك قوة الإنسان وتصميمهُ وعزمه على نيل أهدافه والوصول إلى ما يصبوا إليه وامكانية انتصاره على قوى الشر والطبيعة ، وفقا لمقولة همنغواي " قد يتحطم الإنسان ..ولكنه لن يهزم " فتلك الرواية العظيمة سنتطرق إليها بعض الشيء فانه عشب الخليج الأصفر،الذي ينشرُ الذي ينشرُ على وجه الماء إشعاعات فوسفوريّة في الظلام . و راحَ العجوزُ يحدّث السمَكة : أيّتها السمَكة ، أنى أحبّك واحترمك كثيراً ، ولكنّي سأصرعُك حتّى الموت قبل أن ينتهي هذا اليوم . وقالَ في حديثهِ : لنتعلّقَ بهذا الأمل .. و أقبلَ طائرٌ صغير من الطيور المُغرّدة ، قادماً من الشمال ، وحلّقَ على مقربةٍ من سطح الماء ، فأدركُ العجوزُ انّ الطائرَ قد بلغَ آيةَ العناء . واستراحَ الطائرُ على صدرِ الزورق ، مستقراً عليه . ثم لم يلبث أن طار مطوفاً حول رأس العجوز . ثمّ راقَ لهُ أن يقفَ على الحبل .و سألهُ العجوز : ما عمرك ؟ .. أو هذه رحلتك الأولى ؟ و ظلّ الطائرُ يتطلّعُ لهُ إذ هو يتكلّم ، ثمّ راحَ يقبض بقدميه الرقيقتين على الحبل ، فقالَ لهُ العجوز : انّه ثابتٌ كلّ الثبات . وما كان لك أيّها العزيز ان تتجشم كلّ هذا العناء في ليلةٍ كهذه ، بلا ريح .. ولكن حدّثني .. لماذا تأتي الطيورُ إلى هُنا ؟ وحدّث العجوزُ نفسه : ان الصقور تفدُ إلى البحر لتلتقي بمثل هذا الطائر . و لكنّه لم يقُل هذا الطائرُ شيئاً ، لأنّ الطائر لا يفهمُ لغته ، و لا بدّ ان يعرف قصة الصقور يوماً ما . ثم قالَ للطائر : خذ نصيبك من الرّاحة أيّها الطائر الصغير . ثمّ اذهب إلى موعدك مع القدَر ، كأيّ إنسان ، او أيّ طائر ، أو أيّة سمَكة . و راقَ للعجوز أن يثرثر ، لأنّ ظهره كانَ قد تصلّب و اشتد به الألم أثناء الليل . و عادَ يقولُ للطائر : اغرب عن مأواي إذا شئت . و يؤسفني أنني لا أستطيع نشر الشراع لآخذك فيه مع هذه النسمة الخفيفة التي بدأت تهفو . على انّي أحسّ الآن أن معي صديقاً .." ..كان الظلامُ قد أرخى سدله . إذ أنّ الظلامُ يهبطُ سريعاً بعد الغروب في شهر سبتمبر . و مالَ العجوزُ إلى الأمام فاستلقى على لوحةِ حنية الزورق قدرَ ما استطاع . وطلعت النجومُ الأولى في السماء . ولمحَ العجوزُ بينها نجماً لا يعرفُ اسمه ، و ان كان يعرفُ من امره ما يُشير الى انّ هذه الوحدة تقتربُ من نهايتها ، ولن يلبثَ ان يجدَ نفسه بين أصحابهِ النائمين . و قال العجوز : هذه السمكة صاحبتي هي الأخرى . إنني لم أرَ أو أسمع بمثلها في حياتي .. ولكن ، لا بدّ لي من قتلها . من حُسْن الحظ إننا لا نحاولُ قتلَ النجوم . و جعلَ يُفكّرُ محدّثاً نفسه : تصوّر .. لو حاولَ الناسُ كلَّ يوم ان يقتلوا القمر ! أنّ القمرَ يستطيعُ أن يهربَ و يلوذُ بالنجاة و لكن .. تصوّر ، لو بذلَ إنسانٌ جهدَ يومه ليقتلَ الشمس .. من حُسن الطالع أنّنا ولدنا هكذا . ثمّ عاودهُ الرثاءُ للسمكةِ التي لم تُطعم شيئاً . على أنّ رثائه لم يُخفّف من حدّة شوقه إلى قتلها . و همْهمَ قائلاً : كم من أفواه النّاس سيأكلُ من لحم هذه السمكة ؟ و لكن ، أهذهِ الأفواه أهل لأكلها ؟ .. لا . طبعاً لا .. انّ هذهِ السَمَكة بعظمَتها و براعة تصرّفها لا تجدُ من هو أهل لأكلها .. أنني لا أحسنُ فهمَ هذه الأمور . ولكن من حسن الطالع أن لا ينبغي لنا أن نحاولَ قتل الشمس و القمر و النجوم . حسبُنا أن نعيشَ على الماءِ و نقتل أخوَتنا الصادقين في الودّ " تتجلى لك هذه الصور المعبرة عن شخصية همنغواي في روايته وموضوعة ومفهومه العميق للبحر وعوالمه وقواه الطبيعية وجسدا لصراعات الإنسان مع قوى الطبيعة البحرية وتأكيده لقوة الإنسان الكامنة والمتمثلة في روح المقاومة والإمكانية الإنسانية التي ميزته عن الكثير ممن حوله في هذا الكون ،. هنا يتجلى المعنى الحقيقي الذي يريده الكاتب ، وهذا أنموذج معبّر عن قوة الإنسان ومقاومته وصموده وإصراره ،فهنالك إيحاء يومي به همنغواي من وراء عرضه لانموذج بطل الرواية العجوز سنتياغو الذي شابهه همنغواي حيث عاش الاثنين في حالة تحدي وإصرار حيث تحدى العجوز هزائمه وفشله وتحدى كبر سنه وأبى ألا أن يصرع تلك القوى التي تزاحمت علية وبرهن على هزيمتها في جولات عديدة أما الكاتب فينطبق عليه ذات الشيء فقد خارت قواه الروحية وفقد قوة تصميمه ووجد عمره يتقدم ، دون إبداع .. فانتحرَ همنغواي برصاصة الرحمة التي إنها بها المعاناة والألم ومعاناة روحية وفكرية عظيمة عاشها الروائي الكبير ، وعودة إلى الرواية التي ينجح فيها "سنتياجو"في اصطياد سمكة ضخمة تبدأ المعركة المحورية بين الإرادة الإنسان وروحه المقاومة وبين تلك القوى الجبارة التي تمثلت في القوى الطبيعية ، فلا أحد يتنازل عن سعيه للوصول إلى مبتغاه فلكل مصمم على إحراز النصر على حساب الآخر وأنها المعركة لصالحة بمهارة وقوة وذكاء وتصميم في الإرادة التي تحدت صورها في مشاهد واقعية متتالية تنقل صور الصراع بين الصياد والسمكة وقوة تصميمة على مواصلة النضال حتى الموت صائحا في السمكة ".. أيتها السمكة … سأظل معك حتى أموت ..!" ففي هذه الحالة تشترك قوة أخرى يقاومها العجوز وهي جروحه وضعفة بالإضافة إلى مقاومته للسمكة يمتد الصراع مع كبر سنه ووحدته وغربته التي عاشها وحيدا في ذلك الكوخ على أحد جوانب البحر ،والآلام التي سببها جر الحبل وشده في المعركة ، (معركة الموت والحياة ) فيقوم سنتياغو بجمع قواه وتصميمه وتاريخه البحري ويطعن بحربته السمكة بحربة الموت فيطعن بذلك طعنة الموت محققا الانتصار في معركة رهيبة حاولت فيه السمكة إن تصرعه فغمرت دمائها الحمراء مياه البحر الزرقاء الداكنة .، لا ينتهي الصراع الإنساني مع قوى الطبيعة بانتصار سنتياجو على سمكته الكبيرة وانما يأخذ بتجدده أنماط أخرى غير الصراع التقليدي بين سنتياغو والسمكة فقد تجدد مع اسماك القرش المتوحشة التي تدافعت باتجاه السمكة وتجمعت حولها وهي تنزف دما وقامت تلك الأسماك المتوحشة بمطاردة السمكة المشدودة في الزورق وبدأت بذلك معركة مطاردة جديدة بين العجوز الذي حصل بعد جهد وعناء كبيرين على السمكة فجاءت تلك الأسماك لتجبر العجوز على أن يقاتل دفاعا عن سمكته ، فالنتابع ماذا يفعل العجوز وماذا يحصل في تلك المعركة ، هذا ما يتبعه همنغواي في روايته . تنهش تلك الأسماك المتوحشة في لحم السمكة وتهدد مصير الزورق ومصير العجوز أيضا ، الذي يظل صفاء ذهنه ويأخذ بالتفكير والابتكار ، حتى ينجح في استخدام ما تبقى له من سلاح من سكين ومجداف فابتكر بذلك سلاحا عله ينقذ سمكته التي حصل عليها بشق الأنفس وجاءت الأسماك المتوحشة لتحرمه منها ، قام العجوز بتثبيت السكين على المجداف ويصنع منه حربة يسددها إلى جسم القرش ورأسه في ضربات متاليه حتى يحطمه ، ولكن أزاد العجوز الطين بله فقد أدى تمزيق السمكة إلى سيل دماؤها فتجمعت أعداد كبيرة من القرش ، فهنا لم يعد لدى سنتياغو ما يصلح كسلاح سوى عصا ومجدافين وقضيب الدفة وهرواة راح يضرب بها رأس اسماك القرش اثنا انتزاعهما اللحم من السمكة فأصابها لكنه لم يقض عليها ، لتزداد المعاناة وتأتى الجحافل لتبش ما تبقى ويصاب العجوز بالفشل لكن لا يقوده إلى الاستلام فلم تبالي تلك الأسماك المتوحشة بضربات العجوز حتى التهمت هرواته فاستعان بالقضيب الحديدي واخذ يضرب به القرش حتى تحطم ولم يبق إلا طرفه الحاد فسدد للقرش مجبرا إياه الفرار ، لكن بعد ان انتهت السمكة بالكامل بين أنياب القرش الحادة ، تتصاعد معاناة العجوز وتكب المعاناة ويعاني مرارة الهزيمة وقام بجذف قاربه صوب الشاطئ وكان الهيكل العضمي للسمكة واتجه صوب ذلك الكوخ وقد حلَّ به التعب واوهن حتى انكفأ على وجهه اكثر من خمس مرات في الطريق ‘ بعدَ عودة العجوز إلى الكوخ حنا عليه الصبي وتركه نائما ، هنا ينبع فجر جديد ومحاولة أخرى في الإبحار وتظهر في الطفولة رمزية للإنسانية المتجددة فبعد ان استرد العجوز بعض قوته وقرر انه هزم السمكة ويأتي راي الصبي ليوافق العجوز فتحدث العجوز قائلا : لا .. بل جاءت الهزيمة فيما بعد .. ويتفقان على معاودة الإبحار من جديد ولكن هذه المرة تختلف عن الأخرى فقد استفاد العجوز واستخلص الدروس من تجربته السابقة مع القرش والبحر لتقف هذه التجربة إلى جانب العزيمة في صراعه مع قوى البحر وخصوصا صراعه المقبل مع الأسماك . وبعد صراع طويل ومجيد مع قوى البحر استطاع الصياد سنتياجو من هزيمة الأسماك وسحب اغلب جولاته لكن … خسر جولته الأخيرة ولم يكن هذا حائلا أمام عزمه بل ازداد عزمه وتصميمه على مواصلة القتال والكفاح والنضال والمقاومة ، فمن خلال عرض همنغواي هذا يتضح رمز الإنسانية ومغزى هذه الحياة من خلال ما يوحي به الروائي العظيم بتصويره للصراع الدائم والمتجدد والقديم الجديد بين الإنسان وقوى الطبيعة الغامضة والإصرار على الاستمرار ، رغم ما حصل من إرهاق وهزائم متتالية لكن لم تدع هذا الإنسان يستسلم ويأخذ الإنسان بالاستمرار بالمقاومة وتحقيق الانتصارات ودفع عجلة التقدم الإنساني ، ليستمر متوقدا ذلك الأمل الإنساني رغم الشوائب والعراقيل التي تضعها أمامنا الحياة والفشل والهزائم وهكذا أكدت الرواية بحزم ان الرجال لم يخلقوا للهزيمة .. وقد يهلك الرجل دون أن يهزم فلذا يقول العجوز عن خبراته وقوة عقله ينبغي لي أن أفكر لان التفكير هو كل ما يقي لي القوة .. فلا مكان لليأس إنها لحماقة إن يستولي اليأس على الإنسان كما أنى لا أعتقد بان اليأس حقيقـــة . تتجلى لك القوة الإنسانية المتمثلة بالقوة العقلية والتصميم وحب المقاومة والاستمرار بها حتى الوصول إلى ما يروم إليه لتحقيق الرفاه والتقدم للحياة الإنسانية العظيمة التي بذل من اجلها العديد أرواحهم وقدموا لها كل ما يملكون .من اجل الأجيال ومن اجل الإنسان وهذا العالم ، وغالبا ما يتقد الشعور الحقيقي بانتمائية الفرد لهذه الحياة وتأخذه عاطفته قبل عقله إلى الوقوف إلى جانب الإنسان وهذا ما أثبته همنغواي حيث صعدت مشاعره في غاية من الفوران حينما دفعت به إلى الكتابة حول حكاية العجوز في صراعه مع القوى البحرية . ومن نظرة إلى حياة همنغواي فهو من اشهر الروائيين في أمريكا ومن الحائزين على جائزة نوبل للآداب ، وقد ولد في 21\7\1899 بولاية إلينوا وكانت أسرة همنغواي أسرة أدبية ،ومارس كتاباته في أحد الأكواخ على البحر . واتسم أسلوب همنغواي المتميز في عالم الكتابة الروائية حيث عدت رواية العجوز والبحر من اعظم الكتابات الأدبية في القرن العشرين أنجحها ، بيلوغرافيا همنغواي ، روائي أمريكي، أراد الاشتراك في الحرب لكن تم رفضه في الفحص الطبي ، ولكنه التحق بكتيبة سيارات الإسعاف . من مؤلفاته :- وداعا للسلاح ( رواية ) ثلوج كيليمانجاروز ( رواية ) الشمس تشرق من جديد ( رواية )
المصادر :- ـــــــــــــــــــــــــ احمد محمد عطية (أدب البحر ) مجلة الاقلام العراقية السنة الثالثة عشرة العدد الثاني تشرين ثاني 1977مـ ارنست همنغواي رواية العجوز والبحر ترجمة زياد زكريا ارنست همنغواي رواية العجوز والبحر ترجمة صالح جودت سلسة روايات الهلال العدد 307 يوليو 1974م
|
| ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |