|
دراسات نقدية
بقايا البيت الذي دخلناه مرة واحدة
قاسم ماضي – ديترويت
يقتفي الشاعر ميلاد فايزة في مجموعته الشعرية آثار العديد من الشعراء الذين صدرت لهم مجاميع شعرية تتصل برحلته الأمريكية ومسقط رأسه تونس وهو يحرٌك المواجع الساكنة في قلوب العديد من الذين اكتووا بنار الغربة باحثاً عن الأفضل والأكمل والأكثر إشراقاً . ويشكل الزمن بالنسبة للشاعر لازمة مهمة وأساسية في العديد من قصائده وهو الواضح لديه والمستمر معه ... وكما يقول الشاعر ليس ثمة مؤامرة تحاك في الخارج ، ثمة تسوس في الداخل ، ثمة مجتمع أبوي ينخر إمكانيات الأجيال في الإبداع والتحرر .. مشيت في ليل مسيٌج بالجثث والصلبان \ كان العالم على ظهري ثقيلاً \ هكذا كنت أسيراً مشدوداً إلى آلهة صغار \ يلاحقون العصافير والفراشات . ص54 من هنا إن فعل الإبداع هو من فعل أقانيم النفس وهي أقانيم متعاظمة في فيضها متمادية في أدائها و متجاذبة في إبداعها كما يقول ( أمين ألبرت ) . وإن الإبداع صورة أو انعكاس أو هو نقل عن الواقع ، والأسلوب الشعري هو وليد البيئة الغريبة التي احتك بها المبدع أو تأثر بمظاهرها . وإن الشعر كنبوءة قادر على التعبير عن أرفع أنواع المعرفة ، والشاعر يغني الفكر الإنساني بنتاجه ، بل هو الذي يعرف جمال الحكمة وروعة البيان ودقة التصوير . تمهلي \ فربما نسوا كلمات أولى \ في ريش مخادعهم \ ربما تباطؤا في ليل دهشتهم \ هل قلت \ الكتابة هجرة نحو حرقة الأجساد \ الموشومة بصراخ الرغبات . ولو توقفنا عند قصائد هذا الشاعر الجميل شكلاً ومضموناً ، وهو الذي تابع في ربيع سنة 1997 مدينة القيروان التي استعادت من بريقها الذي يضيء دروب العطش إلى المعرفة ، والذي يقول في إحدى مقالاته " لا أهيم بأدونيس كثيراً ولكني أدرك تماماً أنه حرٌك البرك والمستنقعات في تاريخ الفكر العربي فحوٌلها في لحظات إلى أنهار سادرة ، وكادت هذه الأنهار أن تأخذه معها في ثورتها إلى الهلاك ، ولكنه ظل بشكل ما متحكماً في مسارات آرائه مراقباً ما تثيره من أسئلة جاوزت حدود اللغة التي وهبته الحياة " حتى لكأن العالم ينأى في رؤآي \ هل كان العالم ينأى \ هل كان العالم يتسع لكل ما لم أر ؟ ص55 . وبلغة سلسلة بسيطة متدفقة استطاع ميلاد فايزة إنشاء علاقة مباشرة بينه وبين المتلقي ، وأنا كعادتي من الذين يحوٌلون الصورة الشعرية إلى صورة مسرحية في معظم أعمالي المسرحية ، بحيث أن الشاعر قادر على النطق بشكل صادق ، وأنشأ لكل قصيدة قصة ، ولكل شخص عرفه الشاعر قصيدة . الأجساد سفن غارقة \ في ذكريات بيت قديم \ . إذن رهن نفسه لمعالجة قضايانا التي تحدق بنا ، مستخدماً الكلمة في إطارها الفني ، وكما هو معروف فقيمة الشعر تأتي من خلال قدرة الشاعر ومن واقع عدم إغفاله للقيمة الجمالية وقدرته في رصد كل الفترات الصعبة والمؤلمة في حياة كل الناس . هل كانت الدماء دمائي \ أم أن ليل ميشيغان \ تجرحه آهات عاشقين على النهر \ وتجرحه أوتار القيثارات \ يا جسر الماء الأزرق \ يا ذراع (بورت هيوروت ) الطويل \ يا أقمار الضباب \ يا خجل الثلج من سقطة الغريب \ أني أحدس ليس من قتيل هنا سواي . ص31 هذه القصائد التي جمعها الديوان حينما تقرأها تجدها على شكل شريط سينمائي بنسق المونتاج المتوازي ، استطاع أن يوثقها الشاعر التونسي عبر أحداث مؤلمة تفجرت في داخله على شكل بركان غاضب ، ومن هذا الغضب تفجرت ما لديه من طاقات فكرية نتيجة اللجوء والغربة ، فنحن من جذور أمة عربية تهوى الشعر وعلى الشاعر أن يؤسس لنفسه سمعة راسخة في عالمنا العربي والعالمي ، وخاصة نحن في زمن عصر التكنلوجيا ويعتقد البعض بأن الكتاب يفقد موقعه الآن في ظل مشاغل الحياة وما يعصف بنا ، وعلى النقاد أصحاب الشأن أن ينتبهوا وأن يحركوا العملية النقدية ، لأن النقد يحرك المبدع ، والنقد هو حب للمبدع والإبداع وليس حذلقة وتعمداً للتغريب مع حرص على بساطة التوصيل دون الحذلقة المقيتة التي نلحظها في كتابات بعض النقاد الأكاديميين ، وهناك فرق بين أن يكتب ناقد عن الشعراء وبين آخرين يضطرون للكتابة عنهم بحكم الوظيفة أو التكليف المادي ولا ننسى أن الساحة الشعرية المهجرية تشهد توالداً لأسماء شعرية عربية تحمل ملامح مستقبلها أمثال عامر حسن ، ياسر سعد ، سعيد الوائلي ، إيمان بصير ، كريم الدريعي وآخرون.
|
| |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |