دراسات نقدية

 

قراءات مختارة بأكثر من نظارة

 خلدون جاويد

khaldoun3@hotmail.com

هنالك نص بلاغي نثري متألق حد الشعر، منضو ٍ على التناقض والتضاد وعامر بفيوض العلم والتجربة، يبهرنا بامتدادات لونية من شعاع القصيدة الفلسفية وهو قطعة حسية خالدة وومضة معرفية سامية، والسؤآل لو انه رُتِب- أي النص - على طريقة لانثرية فهل سيفوز بالريادة الشعرية والجدلية؟:

 

 " مع كل جرعة شرق،

وفي كل أكلة ٍ غصص،

ولاتنالون منها نعمة الاّ بفراق اخرى،

ولايعمر معمر منكم يوما من عمره

الاّ بهدم آخر من أجله،

ولاتجدد له زيادة في أكله

الاّ بنفاد ماقبلها من رزقه،

ولايحيا له أثر،

ولايتجدد له الاّ بعد أن يخلق له جديد،

ولاتقوم له نابتة الاّ وتسقط منه محصودة،

ولقد مضت اصول نحن فروعها! ".

 

 ان النص يفتح الباب على نهوض وانكفاء فكأن الأمر في حالة تلازم بين ضدين متصلين وبذات الوقت يطارد أحدهما الآخر. اي ان هناك حالة من التلازم الدائم، ومثل ذلك الأمر يقال عن السلب والايجاب، والأسود والأبيض، والموت ونقيضه.

ان الحياة متجددة وتراوح في تجددها كدلالة على نهر الحياة الدفاق. اننا فروع لإصول غادرت، وهذا يعني اننا ننبض بالعنفوان ولكن في صورة الفناء واطار القادم الذاهب والموجود الفاني. يالروعة النص في ايجابيته المفتوحة على ماهو حركي يحمل القطبين: الذابل المزدهر، الميت الحي، الرمادي الأخضر، اليابس المشحون بالبراعم!. أي موت ايجابي هذا؟ مرعبٌ في انطفائه متلألئ ٌ في رشقات قوسه وقزحه وتلاوين غيوثِهِ الربيعية.

 ان النص هو بانوراما الوجود مكتوب بمداد الروح من نهج البلاغة العلوية المجلجلة.

 الاّ اننا نجد ملامح من البانوراما اياها، في نصوص شعرية اخرى وهي مؤثرة ايضا لكنها تعنى بجانب واحد من الظاهرة (الموت مثلا) باعتباره غير ملازم لنقيضه او متضاده، وكأن يستنتج منه فقط حالة بوار الكائنات! انظر قصيدة (في استقبال الطيار العثماني فتحي بك). قسم السياسيات من ديوان حافظ ابراهيم:

 

 ياأيها الطيار طر

فاذا بلغت مدى المطار

فز بالسها والفرقدين

اذا اتيح لك المزار

وسل النجوم عن الحياة

ففي السؤآل لك اعتبار

هم ينبؤنك ان كل

الكائنات الى بوار.

 

 لاضير ولاغبار على حرية التعبير ولكن من الناحية الجدلية يعجز النص مادام قد ظل بحدود طرف واحد من أطراف التناقض ان يرقى الى اعتباره اكتمالا للحقيقة وملموسيتها. وقد عبرت كلمة الامام علي (ع) عن جمالية الترابط والتناقض بشكل منطقي، وعجز النص الشعري عن اداء ذلك، وفي هذا الصدد لو افترضنا ان الموت السلبي هو حالة البوار أي قاموسيا الهلاك

(أرض بوار لاثمار فيها) فان مقاربة النص البلاغي العلوي بالنص الشعري لقصيدة حافظ ابراهيم أعلاه، ليفضي بنا الى اعتبار السلب كامنا في كلمة بوار في نهاية القصيدة.... والأكثر حكمة لو استبدل الشاعر حافظ ابراهيم حرف الروي

(راء) بحرف (لام) وقال: انتقال، لعزز هنا كون الرؤية الايمانية للموت ايجابية وليست آيلة الى هلاك.

 وفي نصوص اخرى تعود دورة الحياة لتسبغ على الغد أدوارا مكرورة، منظمة كانت ام اعتباطية، الاّ انها بحكم الزمن تراوح في مكانها من جدارية الكون سواء تغير مكانها أو حالها، او انها تقدمت او تأخرت. فهنا لانرى الجدل بل نرى الجمود المقدر، يقول الشاعر عبد الوهاب البياتي في قصيدة (حديث الحجر) من ديوانه بستان عائشة:

 

" حجر قال لآخر

لم اسعد بوجودي في هذا القصر العاري

فمكاني هو قصر السلطان

قال الآخر.... ياهذا

محكوم ٌ بالموت عليك

سواءٌ كنت هنا ام في قصر السلطان

فغدا يهدم هذا القصر

وهذا السور

بأمر ٍ من حاشية السلطان

ليعيدوا اللعبة من اولها

ويعيدوا توزيع الأدوار ".

 

 ان المسألة هنا كامنة في حالة سكونية غير فاعلة، فمرة البوار رديف للهلاك حيث لاامتداد له في حياة اخرى، ومرة ثانية في جماد عام يتمثل في حجر لافرق له ولاتمييز في مطلقه الساكن مابين قصر السلطان او حجر الطريق، وكأن النصين يؤكدان حقيقة َلاجدوى المشاهد ِ الجامدة بل سلبيتهما. وهنا يكمن الفرق بين الموت الايجابي

(خاتمة الاعمال الصالحة) والموت السلبي في نكوصه عن الانتقال الى كوة اخرى تبشر بها الكتب السماوية الآ وهو العالم الآخر.

 زاوية اخرى لقراءة النصين الشعريين، يمكن ان يستلهم منهما، وبرؤية النظرية المادية، كون البوار هو الهلاك النهائي للكائنات اجمع، فالأشياء جميعا جاءت من المكونات المادية وستنطفئ بانطفائها او انها باقية ومتناسلة -على علاتها - الى مالانهاية. فالنص الذي هو حول البوار والآخر حول تبادل الأدوار وفق وجهة النظر هذه، نصان موضوعيان منطبقان على الواقع. والموت الذي هو رديف البوار، هو موت لا ايجابي غير متصل بأي عالم من عوالم الملكوت الروحاني.

 القراءة الاخرى ان العبث واللآجدوى هما قاعدتا البوار، ولا يهم للمرء ان يكون حجرا في طريق ام لبنة في القصر ام سواه. وكما قيل لن يبقى في الوادي غير حجارته، فان الحجر الرخيص والكريم والرخام والفولاذ وكل الصروح ذاهبة مع الريح مثل غبار او ادنى.

وهي كما قال الشاعر الالماني العظيم غوته

(1749- 1832): الصدأ اخ ٌ للحديد والأرضة ابنة عم الخشب. قيل ذلك في آلام فرتر الكتاب الذي انتحر بعد قراءته الكثير من الشبيبة في زمن مرارة الشعور بالعبث واللآجدوى.

 ان زمننا المفتوح على التعدد يسمح بأكثر من نظارة للقراءة، انه ايضا زمن الحرية بعد تجريب اغتصابات فكرية متعددة. كما ان جلال وبهاء النص الفلسفي المفتوح لايمنع لحافظ ابراهيم حقا فردانيا بطرائق كتابية معينة ولا عبد الوهاب البياتي بأن يقول مايشاء ومن دون أية وصفة حتى لو كانت صحيحة. ان السيف وحده هو الذي يتطاول على الأقلام. والفكرة هي فراشة في نسمة تحلق في الامكنة والازمنة جميعا بلا استثناء، والدكتاتوريون وحدهم يستبيحون دمنا لو علموا كيف نفكر وكم من الفراش الملون الحائر تحت جبين يغلي الكترونيا!. انهم يريدون استنساخ العقول جميعا بعقل واحد وارغامنا على قراءة واحدة والنظر فقط بعدسات مصنوعة في اقبيتهم وكواليس مؤآمراتهم. بينما البشر ليسو فوتو كوبي لحزب واحد، وانه من العار والشنار أن اجعلك مثلي! وان تجعلني مثلك.

 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com