|
دراسات نقدية
السياب .. الإنسان والقضية سليمان الفهد / كاتب وسياسي عراقي كلنا يعرف إن بدر شاكر السياب كان قد اطل على ساحة خالية , وان الموت قد شل نضاله وأفناه , غير انه ظل منتصرا والى الأبد ولأنه انتقل بكلمات الشعر إلى الصيرورة , ثم إلى الوجود كله , وبذلك فأنه مات وبعد أن اطمأن على أزلية مصيره الشعري , وبعد إن صب في الذاكرة الإنسانية ولادة الشعر العربي الحديث . إن ذلك الغليان الشعري المتلاحم , كان قد ترك تأثيره علينا لأنه كان شديدا وخاطفا في أن واحد , ومع ذلك فأن شهرة السياب قد تكون شهرة الشاعر النبي لكنه مات في السابعة والثلاثين من عمره ولم يعرف من هذا العالم إلا خيبة الأمل , المنفى , وثمة نجوم كان يسامرها ليلا . إن السياب لم ير هذا العالم زمنا طويلا , غير انه ظل يسكن ذاكرته الشعرية , إن مرضه لم يمنحه شيئا من فترات الراحة , لقد كان يتعجل السقوط في هاوية الموت . بين ميلاده عام 1927 ووفاته على سرير ابيض في إحدى مستشفيات الكويت عام 1964 ظلت حياته مزيجا من الألم والتعاسة والحرمان ... إن الحياة كثيرا ما تكون جحيما وبؤسا . إما سعادته فقد كانت تستقي من تلك الجذور الحية لذلك الجرح الرائع في قريته التي أحبها كثيرا – جيكور – فلما غادرها واقعا بين مخالب المدينة استأنس للفقراء والمعذبين وخائبي الآمال في السياسة . هل قدر للسياب أن يلج هذا العالم بسلاح الشعر ؟ لا ينبغي أن نصدق هذا القول لان السياب كان قد اكتسب وقاءا شعريا منفردا بعد أن بناه لبنة لبنة . لقد كان هذا الشاعر مستمرا في معركته الشعرية وبعد أن انتزع أسلحة النضال \" الشعري \" كلها . آه .... أيها المسكين يا عاشق الشعر الذي كان لك غدا وعدلا ... ربما تسنى لك كان تشهد لحظات من حضور المصير الذي كثيرا ما ترنح منه ذكريات حياتنا كلها , حيث المغامرة الأدبية والمسيرة اليومية , تلك الحيرة التي أثرتها على \" المرتبات الشهرية \" التي تؤمن حياة الموظف – والمعلم والتي أثرتها أيضا على الانتماء للحزب الشيوعي ومن ثم قطيعته والتفرغ للنضال من اجل تحرير الوطن في وقت كانت الجزائر تسعى إلى تقرير مصيرها ... وفلسطين ما زالت تعيش في المنفى . كم تساءلت مع نفسي ..؟؟ لماذا هذا النضال كله ؟ ولماذا تلك الحيرة ؟ إن ذلك كله دونما شك من اجل الشعر وللشعر وحده . وهكذا هو بدر شاكر السياب لم يبرح الكتابة منذ شبابه وحتى وفاته وفي غضون عشرين سنة كان خلالها قد خط لنا مائة وأربعين قصيدة طويلة وديوانا كان قد أعلن عنه ويبدو انه ما زال مفقودا . هل نستخدم من جديد الصفات السهلة والمبتذلة التي تعلقها وكأنها أقمشة على المداخل الأربعة للبنية الشعرية , هل نقول انه رومانطيقي واقعي .. أو \" ثيو واقعي \" أو وجودي ؟ انه عمل لا طائل منه . كان بدر شاكر السياب يحمل ذلك كله وفي جميع مراحل حياته ... وما زالت مواضعه ومواقعه قائمة تدل على تلاحق وكمال نتاجاته الشعرية . إن احد دواوينه وهو الذي يجمع بين الدواوين الأخرى يجعلنا نطلق على معظم أثاره اسم شعر الليل – أي ليل المنفى , ليل العاشق المهجور , ليل المتسول , ليل الشارد , القريب الذي تسخر منه الشبابيك المضيئة , انه ليل رمزي للشر والإثم معا ولا مناص من ذلك , ولكن الليلة الشعرية التي يأنسها الشاعر كانت أشبه لحد ما بليالي المتصوفين لكنها أيضا ليلة تنتصر وتتمرد , وتؤسر الشاعر بالجد حتى يصبح مشدودا لها . أن الشعر عنده كثيرا ما تعارض مع لقمة العيش وحتى أخر المطاف . إن التوتر الحسي , والفشل في تجارب الحب وخيبة الأمل في العمل السياسي قد تركت أثارها منذ البداية وأثرت على مجمل شعره وبشكل عضوي . إنها غرست صاحب هذا العمل بوجدانه وقلبه وهذا ما يجعله يهز مشاعرنا ويثير عمق الاختلاجة فينا , وان تماس أثاره وارتباطها دليل صادق على قوة ذلك الصراع , إن فترة الإنسان بلحمة وشحمه لتثور على الروح نفسها – وكان ذنب الشعر عنده هو أن يبحث عن هويته وان يسعى إلى الكمال . غير أن هذا الكمال كثيرا ما يصادف التحدي المصادر من احد مخلوقاته . اجل ما من احد يستطيع التقهقر داخل ذلك التلاحم الموجود بين الشاعر وحياته إلا ودفع ببدر شاكر السياب نحو الظل ؟؟ إن النسوة لا يظهرن إلا ليؤدين وكما يحلو لهن ويبعثن صرخة اليأس عند الرجل فيرتد إلى الليل , ذلك الليل الذي لا تضيئه صواعق الحب إلا لإغراقه في غياهب الحب . وهذه الليلة ومثلها الكثير . هل كانت حقا ليلة الهاوية , أم ليلة الخلاص , إن العاشقة التي راح يكيل لها المديح تبقى قاسية في آخر المطاف غير انه يقترب بها إلى حنان إلام , أو شيئا آخر من فردوس الطفولة ونقائها . إن شعر السياب ينسب إلى اسم قرية تقع جنوب العراق وجد فيها نور الحياة والشعر ... انها \" جيكور \" ففي هذه القرية تتحرك الرياح فتهز سعف النخيل , وفيها أغاني الصبية الذين يلعبون في الأزقة الضيقة ... وهل ننسى قصص الجدات في الصباح والعشية ... عندما بدأ الصبي يغادر ذكريات هذه الأرض بدأت جيكور وكأنها في أفق شمس غائبة ... سوف تموت جيكور وبقية الأشياء معها , إن الذي احبها ما زال يسلت خيوط الرحيل من رحمها الحزين . إن شعر السياب الذي انغمس بالليل والفشل ضمن تعارض مثالي متواقت جاء متوازيا مع الطفولة , الشيخوخة , الحب , الحقد , الأصل , الرفض , الصراع , ثم خيبة الآمال التي لا تنتهي . إن الطرق في تلك الفترة خير رمز لهذه التورمات والتناقضات الحادة . كان السياب يتحسس لكونه عراقيا , اجل كان ذلك بالمعنى الكامل ... لان الفردوس الذي سبق الولادة كان يضرب بجذوره على الكلمات التي تخاطب هذه الأرض الأم ... غير أن العراق الأم الذي تمتلئ رحمه تلك الثروة الهائلة يبخل مرة ويسرف في أخرى لكنه يبقى الأرض المستقرة رغم ذلك الماء المزدوج . إن ماء المطر لمثال أخر , فالسماء في حقيقتها لا تمنح إلا خرائب الطوفان أو بضع قطرات لا تسمن ولا تغني من جوع . ثم إن هناك الضياء , ماء البحر الذي يوفر أسباب العيش لما فيه من السمك واللؤلؤ هو كذلك عبر الملح القاتل وعبر العواطف المدمرة . إما الصورة الرائعة للعراق فأننا نكتشفها من خلال البحث عنها في الخليج ومن خلال \" أنشودة المطر \". إن الزمان ليمر بسرعة , لكن العراق ظل رمزا لديمومة هذا العالم بأسره. وهنا يتخذ التاريخ أشكاله الثابتة إلى الأبد . وان هذا البعد مهد الأساطير الكبرى ليشير فينا التأملات في \" عشتار \" هذه الأم الغيورة التي التقت بآلهة الشرق وفي أيامنا هذه يعني العراق لبدر شاكر السياب تلك الأرض التي تستقبل مصيرنا بالمرة ... مصيرنا كلنا نحن أبناء هذه الإنسانية . لا حاجة لنا أن نبحث في أوربا البعيدة عن الشدائد التي نعاني منها . ومن التساؤلات التي تنظرها حول مستقبل هذا العالم , إننا هنا نعيش مع فيض الفقير والمغترب في بلده بالذات ... هنا أيضا نحس بتلك التورمات الاجتماعية المتفاقمة وبذلك الصراع الأبدي بين الآلة والإنسان ... هذا الإنسان الذي ما زال يبحث عن حريته الضائعة بين المدينة والريف الذي يحافظ ربما على قيمة الحياة ومعناها المتسامي . ومن خلال هذا كله نعود للسياب الذي فجر فينا هذه الكلمات فنتساءل : هل إن السياب رجل الجيل الراحل ؟ إن مسيرة التاريخ في العراق , وكما في مكان آخر لا ينتهي أبدا , غير أن السياب كان بائسا للغاية , الأمر الذي جعله حائرا آية حيال هذه التي كان يتشبث بها وقت حضور المصير ... في قصائده الأخيرة أعلن انه قد جعلها منافذ يدخل ويخرج منها الأمل الذي ينشده . إن السياب في إحدى قصائده يرى بابل الحضارة قد بعثت من جديد إلى حياتنا ويتعامل معها برموز مثيرة ... انه يراها مثل البرق الذي يخطف وجه السماء . وفي قصائد أخرى لنا شاعرا سياسيا يرد على السياب الميتافيزيقي انه هنا يدعونا إلى الأخلاق والإصلاح وتتحول إحدى لياليه إلى مهرجان تنبعث منه أنوار العروبة والتضامن الذي جسده النبي محمد \" ص \" خير تجسيد وبعد أن حمل راية الحق والإيمان . إن محمدا النبي ظل لجميع العرب سواء كانوا مؤمنين أو غير ذلك . ألان دعونا نترك الشاعر متلمسا فراش الموت ... دعونا نسمع ألان صوتا يوشك أن ينطفئ ... مطر رذاذ , لا نكاد نسمع شيئا إلا صوت رجل بدأ يدخل علينا وعلى رؤؤس أصابعه . كتبت المقالة ونشرت في صحيفة الإخبار – الثلاثاء 16 – 3 – 1982 ونعيد نشرها بدون إضافات جديدة في ذكرى العملاق العراقي الخالد السياب .
|
| |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |