|
دراسات نقدية
السياب والتباس المقاومة و الكتابة عبداللطيف الحرز / كاتب عراقي مقيم في استراليا عدسة الفنان احسان الجيزاني {الليل يطبق مرة اخرى فتشربه المدينه والعابرون الى القرارة مثل اغنية حزينه وتفتحت كأزهار الدفلى، مصابيح الطريق كعيون ميدوزا تحجر كل قلب الضغينه وكأنها نذر تبشر أهل بابل بالحريق من اي غاب جاء هذا الليل؟ من اي الكهوف من اي وجر للذئاب ؟} نعم مرة اخرى نعاود مقاربة السياب، حيث العراق مرة اخرى مثقل باصفاد احتلال جديد ومحنة متجددة. وهاهي الهوية الوطنية مابين عرض مومس عمياء تعطي كل شيء وتبدد الفردي والجماعي، ومابين قارورة الثقافة كفعل مقاومة حقيقي ضد كل ممارسة للعنف ترفع راية التزوير الاعلامي بكونها تمثل الوطن سوق للشهوة المفتوحة الجشع والمنغلقة الكراهية بمجميع الاغلال الطائفية والحزبية والمناطقية، ليس فقط ((الليل يطبق مرة اخرى فتشربه المدينه))، وانما تشربه القلوب فاذا بالنذر التي استشعر السياب قدومها في قصيدته القديمة تلك، تطبق على العراق وتحاصره وتخنقه. فاذا كانت العقائد والميثلوجيات القديمة انحصرت مابين الخير والشر والنور والظلمه والماهية والوجود (باعتبارنا نعتقد ان فلسفة ملاصدرا تطوير للتراث الايراني القديم)، فان العراق انحصر مابين الحرب والشِعر, لكن بمزيد من اللبس والاتباس حيث يتصارع حرب الشعر وشعر الحرب جنباً الى جنب : حرب الحرب وشعرية الشعر. السياب احد فواصل النضج الثقافي والقول النقدي المجدد، فليست القوافي هي التي هشمت في معبد الاوزان وظوابط الصرف وضروراته، وانما الذي تهشم قبل هذا، ذلك السلوك في استخدام الاداة اللغوية ذاتها.مع السياب وضعت جدران عالية ضد ذلك اللون من الشِعر المطبل والمنافق سياسياً واجتماعياً المتمثل بقصيدة لتبريك هذا التجار على ولادة ابنه العاشر، والتزلف لذاك الجنرال على مذبحته المليون. مع السياب لايتعمق النظر في الشعر بان التجديد الشعري كان ضد الوفاء للقوافي ولظوابط البحور الوزنية، ليتطور الامر الى مخاصمة الوزن من الاساس على يد ماسوف يسمى بقصيدة النثر وقصيدة النص. حينما نعاود قراءة ماحصل في الخمسينات والستينات من القرن العشرين، نجد ان التجديد الشعري كان يعتبر حركة تتخاصم مع السلطة السياسية ولها شجارتها مع الهيئات الاجتماعية والدينية، فهل تتحسس السلطة السياسية والاجتماعية من مجموعة ادباء تركوا الكتابة حسب ظوابط الفراهيدي ؟! التجديد الشعري كان تغييراً في موضوع القصيدة نفسها وليس في شكلها،في غريب على الخليج وانشودة المطر والمومس العمياء، لن تجد تبريك لخليفة ولا تملق لطائفة، ولاتبريك لتكتلات اجتماعية. هذا ماينجلي بوضوح اكبر في كيفية عرض السياب لمدينة جيكور ونهر بويب، بشكل كبير وواضح، فتلك المدينة الهامشية، وذلك النهر الصغير، عرضهما التجديد السيابي بكونهما الارض وبحر مابين القمر والمجرات البعيدة،بكلمة اوضح : السياب مشروع فتح الباب على انسنة الشعر، والخروج بالابداع الادبي عن الثكنات والمعابد الاجتماعية والدينية. وهذا هو الذي يوضح لنا سر نجاح السياب بان يكون جزء من تكونات الهوية العامة للوطن وللامة واشراع نافذة مطلة براحبة على العالمية. لذا سنفهم على ضوء هذه القراءة : سر تعاضد الفئات الناقمة على السياب شعرياً او استذكارياً، وتلك الفئات النافخة بنيران الحروب والاحقاد والانقسامات الوطنية والانسانية، مهما حاولا تزويق جنوحهما الاجرامي بزخرفات اعلامية وتهويمات ادعائية، او حسب تعبير ذات قصيدة السياب هذه التي بين ايدينا، والتي المسماة بلا مصادفه بالموموس العمياء: { من اي عش في المقابر دف اسفع كالغاراب ؟ قابيل أخف دم الجريمة بالازهار والشفوف وبما تشاء من العطور او ابتسامات النساء ومن المتاجر والمقاهي وهي تنبض بالضياء عمياء كالخفاش في وضح النهار، هي المدينة والليل زاد لها عماها } مابين هذين الفئتين ستجد زعامات موت وتسلط وشعراء بلاط من شتى الاصناف وتحت الطلب، حتى وصل الامر الى محاولة اغتيال السياب مرة اخرى بمحاولة التخلص من تمثاله واعفاء قبره وهجران استذكاره، هولاء لايريدون الغاء نظرية ادبية، او التخلص من سيرة شخص، هولاء ينافحون من اجل ما هو ابعد واعمق واخطر : هولاء يريدون استبدال الوطن واعادة مسخه حسب امزجة طائفية وقومية خاصة ومنغلقة، من الطبيعي ان يكون السياب خصمهم فهو احد رواد الانفتاح الانساني والثقافي الرحب والواسع العميق، كما انه احد ادلة النرجسية المتضخمة لنوع يحاول ان يميز نفسه من المتثيقفين. وعليه فنحن مع السياب لانستذكر فرد شاعر وانما نعاود قراءة نوع متميز من الثقافه، ثقافة ترفع النموذج من سلوكية المقاومة المغتالة للوطن، فكما لاقراءة للشعري بدون مراجعة السياب، كذلك لامعنى اي مقاربة للسياب بدون تجديد النظر في الهوية والارض والوطن والانسان،ان الذين يدعون سلوكاً ما في المقاومة والكتابة ويتنكرون للتسامح السياسي والانفتاح الثقافي والاعتزار الوطني، هولاء هم الذين سوف تكمل ذات قصيدة السياب الطويلة وصفهم بانهم : والاعين التعبى تفتش عن خيال في سواها. فنجد الفوتغرافي احسان الجيزاني مثلا يترك تصوير جسد تمثال السياب، ويلقي الضوء على قديمه فقط، اي بذلك الجزء المرتبط بتراب الوطن والنقطة الاقرب الى الارض، الارض التي تمثل العنصر المشترك لفقه الوطن والامه والشراكة الانسانية. لذا كانت لقطة كهذه تلقي ان يكون السياب ((تمثالا)) فحينما يتم تحويل الشاعر الى تمثال وقرائته بهذا النمط فان ذلك اعفائه عن وظيفة الشعر وشطبه من الادب، كما كان يدلل الشاعر القتيل محمود البريكان. هذا بالاضافة الى ان لقطة الكاميرة المصوبة للاقدام والمخرجة لها بكونها هي الصورة، تدلل على عنصر الثبات حيث ان جميع الحركات التي أتت بعد السياب لم تتخلص من تزلزل واضطراب كبير. وهنا عنصر المفارقة فما هو ثابت وعنصر مشترك في الثقافة والسياسية هو المهمش والمقصي فاذا بقبر السياب اثر منسي يستذكره فنان فوتغرافي بجلب خطاط يعيد رسم شاعر الامة الكبير : امة نست تجديد كتابة اسم شاعرها عبر تجديد معاركها وحروبها وتنابذها بالسيف واللسان، فكان استذكار السياب محاولة من الذات استذكار نفسها. فما يُعّرف الذات لايكون عنصرا تدميرياً، ومن يريد المقاومة للوطن لايكون فأوياً تخريبياً. لذا نلاحظ انه رغم انتماء السياب للرومانسية، حيث يفترض التمحور حول الانا الفردية، الا انه كان مشروع كتابة صوتها الوطن والجماعة والانسان. حيث الكتابة فعل وطني وخلاقية انسانية عامة، وهي ايضا مقاومة للبشع والقبيح، حيث التدليل على فقر السوق القديم وسلوكية حفار القبور، واشكالية المومس العمياء،ومفارقة الوطن الفقير الغني في قصيدة انشودة المطر. فالمقاومة ليست عنوان بلا مضمون، ولا لافتة سياسية تختبئ فيها تجارة محرمة ومعارك من اجل مناصب مناطقية وشخصية. تماما كالكتابة التي هي معلم من معالم التقدم الحضاري وممارسة للذات الانسانية في قراءة نفسها والعالم والنص والوجود، وليست نخاسة اعلامية تدافع عن الطغاة ووسيلة خدمية لزعامات المال والمؤسسات. ومن هنا كنا نجد اننا في كل مرة نقارب فيها التجربة السيابية، نجد اننا لا نلتمس تفكيك عناصر النجاح الادبي والتجديد الشعري، فيكون السياب اشكالية لغوية فقط، وانما نحن بمقاربة السياب نزاول مقاربة المقاومة الحقيقية عن تلك الاخرى المزيفه، ومقاربة مسؤلية المثقف وسؤال الوجود، وسجالية العالم والتباس النص. فكان لنا في كل مرة سؤال مختلف وهمنا المغاير، ولقطتنا التصويرية و التأملية المستجدة لسياب الذكرى وذكرى السياب، كتجديد للفعل والقراءة الثانية، حيث تتفتح مشاعر التسامح والرؤية الانسانية : كأزهار الدفلى مصابيح الطريق.
|
| |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |