في البداية أتوجه بشكري إلى الأستاذ حسن السليفاني الذي ترجمَ
هذه القصائد، التي تعرضتُّ لها بقراءتي المتواضعة التالية،
والسيميائية هي دراسة العلامات كدوال حية متفاعلة داخل
المجتمع، ويرى البنيويون أن معنى النص متعدد بتعدد حالات
التلقي، فالنص عند كل قارئ له معنى مختلف.
تنامت قصائد الشاعر الدكتور عارف حيتو فصارت مظلة كبيرة تحلق في فضاءات
الفكر والخيال، لتستظلَّ بها أفكار ورؤى وخيالات القارئ، وذلك
لأنها تكيفت لتتناسب مع الحقائق الجميلة التي تسود عقل المجتمع
الكردي السائد، وتغوص في أعماق اللاوعي للفرد الكردي البسيط،
لتشكِّلْ نقطة ارتكاز ينطلق منها الشاعر حيتو ليعكس همَّهُ
الإنساني وشوقه إلى القصيدة، متغلغلاً إلى تراب الوطن،
متلَّفعاً بتراث الشعب الكردي، متفاعلاً مع توجهات مشاعر الشعب
الكردي،فجاءت مفردات القصيدة مؤثرةً لا متأثرة،ومجددة لا
مقلدة،وبسيطة في كلماتها غير معقدة،وشكلت هيكليتها الخاصة
وبيتها الذي يشع بالمعاني الخالدة كـ(الحزن والنشوة والفرح
والصحوة)والتي لم تخرج عن إطار موضوعها الخاص...
ففي قصيدة الموعد: حزينٌ أنا
أنتِ النشوة
أحلمُ فيكِ
متى ستأتين؟
وأجمل الحقائق هي التي تعكسها المتناقضات،كما في هيكلية المتناقضات التالية:
حزن
× نشوة
أنا × أنتِ
أحلمُ (أنا) × فيكِ (أنتِ)
متى(استفهام
يتضمَّنْ الانتظار المُتَمَّحور في ماضي الأنا) × ستأتين(فعل
يتضمَّنْ حضور الآخر في مستقبل الأنا).
ومن خلال الوقوف على سيميائية الخطاب السردي في قصيدة(الموعد)نتمكن من
التعرف بسهولة على وظيفة هذا الخطاب:
ت
الكلمة
جنس الوظيفة
عين الوظيفة
ملخص الوظيفة
1-
حزين
تذ بذ ب
تناقض مع الفرح
شعور متقدم بالحزن غامر للأنا نابع منه
2-
أنا
تفاعل
تناقض مع الآخر
محاولة للاعتراف بوجود الآخر
3-
أنتِ
تفاعل
تناقض مع المجهول
تعريف للآخر
4-
النشوة
تذبذب
تناقض مع الصحوة
شعور متأخر بالسكر نابع من الآخر غامرٌ للأنا
5-
أحلم
تذبذب
تناقض مع اليقظة
رؤية متقدمة للأنا
6-
فيكِ
تفاعل
تناقض مع المجهول
تجسيد للأنا المتقدمة
7-
متى
تذبذب
يتضمن الاستفهام
سلوة الانتظار
8-
ستأتين
تفاعل
حضور يناقض الغياب
حالة متأخرة للأنا تحبسها في دائرة الانتظار
وفي هذه القصيدة مقابلة لطيفة بين المفردات والمعاني، كما في قولهِ
تعالى(وأنَّهُ هو أضحكَ وأبكى-43-وأنَّهُ هو أماتَ
وأحيا-44-)النجم، قال الجاحظ(فوضع الضحك بحذاء الحياة ووضع
البكاء بحذاء الموت، وأنَّهُ لا يضيف الله سبحانه إلى نفسهِ
القبيح)[1] وقال السكاكي(المقابلة بين شيئين متوافقين أو أكثر
أو بين ضديهما)[2]
أضحكَ × أبكى أماتَ × أحيا
أضحكَ × أحيا أبكى × أمات
******************************************
وعند
استعارة هذه المقابلة لقصيدة الشاعر حيتو:
حزين × يحلم أنا × فيكِ
أنتِ × متى(علامة استفهام) النشوة × ستأتي
*****************************************
وعندما يقول حيتو (أنتِ النشوة) فمن الظلم تحجيم المعنى وقصره وحصره
بالمخاطبة ذاتها، لأنَّه يقصد السبب، أي أنتِ السبب في شعوري
بالنشوة، وهنا حذفٌ وتكثيف ومجاز سببي، والمجاز السببي نوعان،
فإمّا إطلاق السبب ليراد بهِ المسبِّبْ، وهو كقول القائل(فلانٌ
أكلَ دمَ أخيه)أي المقصود(أكلَ ديةَ ابنهِ المقتول)لأنَّ إراقة
دم الابن سبب للدية التي استحقها الأبْ، والنوع الثاني إطلاق
المُسَبٍّبْ ليراد بهِ السبب، كقول الرجل لزوجته(اعتدي) يريد
بذلك طلاقها، فأطلق المسبب ليكونَ دالاً على السبب، ولأنَّ
المشار إليها بالدال(أنتِ)هي سبب النشوة وقامتْ مقام النشوة
فسميتْ بها، وهو كقولهِ تعالى(وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ
لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا
يَوْمًا مِّنَ الْعَذَابِ)-49-غافر،(والخزنة-هم-الحفظة، وجهنم
لا يضيع منها شيء فيحفظ، ولا يختار دخولها إنسان فيمنع، ولكن
لما قامت الملائكة مقام الحافظ الخازن، سميَّتْ بهِ)وكذلك
لمَّا كانت المخاطبة سبباً لنشوة الشاعر، سمّاها بها،
فقال(أنتِ النشوة).
وكلمة(أنتِ) ربما تدلُّ على الحق أو الخير أو الجمال أو الحرية أو المساواة
أو حقوق الشعب، وغيرها من المدلولات التي ينتظرها الشاعر
بشوقٍ، يخالطهُ شيء من الحزن، واختيار الشاعر للفظة الحزن لم
يأتِ اعتباطاً بل هو اختيار مناسب يتسمُّ بالحكمة، والحزن حالة
يعيش بها القلب وينقبض عن التشتت في أودية الغفلة المميتة
للقلب، وقيل أن القلب إذا لمْ يَكنْ به حزنٌ خَرِبْ، كما الدار
إذا لم يكن فيها ساكنٌ تخرب، وجاء في التوراة(إذا أحبَّ الله
عبداً جعل في قلبه نائحة(حزناً)وإذا أبغضهُ جعل في قلبهِ
مزماراً)وإنما يحمد حزن الآخرة، أمّا الحزنُ على متاع الدنيا
فغير محمود العواقب، ويورثُ الأمراض والآفات، والشاعر المبدع
والأديب لا تحزنه همومه بقدر ما تحزنه هموم المجتمع الذي يعيش
فيه، والإنسانية جمعاء، ويقال أنَّ على كلِّ شيء زكاة وزكاة
القلب طول الحزن، وكان الإمام الحسن البصري لا يراهُ أحدٌ إلاّ
ظنَّ أنَّهُ حديث عهدٍ بمصيبة، ويقال أنَّ أكثر ما يجدهُ
المؤمن في صحيفته من الحسنات الهمُّ والحزن.
ولن نستطيع أن نتكلم بحرية عن عناية حيتو بالموسيقى الشعرية، لأنَّ النص
مترجم عن لغةٍ أخرى، وغالباً عندما يترجم نص من لغة إلى لغة
أخرى يفقد موسيقاه، بسبب تغيير اللفظة الأصلية التي اختارها
الشاعر لتكونَ دالاً على المدلولات التي قصدها، وتتضاءل
استفادة القارئ من الطاقات الصوتية الموسيقية الكامنة في
الحروف مفردة، وفي الحروف والكلمات مركبة مع بعضها، ومن
التناسق الصوتي العام في مقطعي القصيدة، يقل تدريجياً لكنه لا
ينعدم، ويبقى منه شيءٌ في النغمة التصاعدية عند الجملتين
الوسطيتين(أنتِ النشوة-أحلمُ فيكِ)والتنازلية في المطلع
والنهاية(حزينٌ أنا-متى ستأتين)بحيث أصبحت هذه الموسيقية
المتبقية بعد عملية الترجمة موظفة للتعبير عن الجو النفسي الذي
يعيشه الشاعر، ونقلهُ إلى القارئ، ولولا أنَّ المترجم شاعرٌ
أيضاً لانمحتْ الموسيقية بكليتها، فالشاعر حزينٌ ونشوان، لكنَّ
الحزن والنشوة يتناقضان ولا يلتقيان في قلبٍ واحد، إذن
فالمقصود هنا هو العكس لينطبق الحل على الوظيفة التي يريدها
الشاعر من نصه، فالشاعر حزينٌ في صحوةٍ دائمة، ينتظر بشوقٍ
لحظة نشوة، أي أنَّ اللفظة عند حيتو هنا أصبحت أداة تعبيرية،
ودالة على مدلولات
تناقضية انضافت إلى المقدرة اللغوية والتصويرية بما تحدثه من تفاعل مع خيال
القارئ لتحدث بالتالي تغييراً في نفسيته، وهناك قصائد كثيرة
إذا ما قمنا بترجمتها إلى لغات أخرى فلن نعود إلاّ بسواد
الوجه، كما عبرَّ الدكتور علي الوردي عن قصائد البحتري فيما لو
ترجمتْ إلى لغات أخرى غير العربية، وذلك بسبب اعتمادها الكلي
على الوزن والقافية، والكلمات الصعبة والفذلكات اللغوية، كسؤال
أبي فدعم النحوي غلامه(أ صقعت العتاريف؟)فأجابه (زقفيلم)وسنأخذ
قصيدة بول فيرلين(1844-1869)وهي أغنية الخريف من ديوان
فيرلين(أشعار زحلية):
عندما تدقُّ الساعة
أتذكر الأيام السالفة
وأبكي
وأمضي في ريحٍ سيئة
تحملني من هنا وهناك
شبيهاً بالورقة الميتة[3]
هذه المشاعر والصورة الشعرية التي عبرَّ عنها فيرلين ليرسم من خلالها خارطة
الإنسان ضمن إطار الأقدار التي لا دخل لهُ بها(كلحظة ميلاده
وموته)ومن هنا إلى هناك فهي إنسانية تخصُّ الإنسان في أزمنته
وأمكنتهِ كافة، أي الإنسان بحدِّ ذاته بغض النظر عن قوميته
وجنسيته ولغته وموطنه، وهي مشاعر مشتركة للإنسانية جمعاء، كما
في ألفاظ حيتو في ألفاظ قصيدة الموعد:
حزينٌ أنا
أنتِ النشوة
أحلمُ فيكِ
متى ستأتين؟
ويتألق الشاعر حيتو في قصيدة(القصيدة ) ويرتفع بها إلى الآفاق التي يتطلع
إليها المواطن الكردي البسيط في جباله الشماء التي يقاسمها عزة
النفس والوفاء للتضحيات التي شهدها كلٌّ منهما، ونلاحظ في هذه
القصيدة أنها تتكون من خمسة متناقضات وأربعة تكرارات:
إذا
لم تضحي الآلاف
من النجوم
لن تشرق الشمس الذهبية
إذا لم تنبع الآلام
من الأعماق
لن ينكسر قيد القصيدة الثائرة
أما المتقابلات فهيَ:
تضحي × تنبع
الآلاف × الآلام
من النجوم × من الأعماق
تشرق × ينكسر
الشمس الذهبية × قيد القصيدة الثائرة
وتكررت هذه الحروف(إذا – لم – مِنْ – لنْ) كمتتالية لتضيف على القصيدة نسقاً
بالغ الأناقة:
إذا الشرطية =لم تضحي =لم تنبع
لم أداة جزم =تضحي = تنبع
مِنْ حرف جر =النجوم (العلياء)=الأعماق(الأسفل)
لن أداة نصب =تشرق =ينكسر
ومن أجل الوقوف على سيميائية خطاب الشاعر حيتو في قصيدته (القصيدة) بحثنا عن
دلالة كل كلمة بشكلٍ متصل بالقصيدة تارة ومنفصل عنها تارةً
أخرى فتبينَّتْ لنا الوظائف التالية:
ت
الكلمة
جنس الوظيفة
عين الوظيفة
ملخص الوظيفة
1-
إذا
تذبذب
سبب ونتيجة
شرط شروق حياة الحرية
2-
لم
تذبذب
نفي وجزم –التضحية-
تحريض على التضحية
3-
تضحي
تذبذب
تناقض مع حب الذات أساس كل الذنوب والبلاء
شعور بأهمية التضحية،فمن أراد شيئا ضحى من أجله، ومن أراد الجنة شمر لها
4-
الآلاف
تفاعل
تكثير للشهداء
رؤية لشعب أصيل يقدم الشهداء
5-
من
تفاعل
حرف جر
تمهيد للتعريف
6-
النجوم
تفاعل
تعريف للشهداء
تجسيد للشهداء،من قول الرسول صلى الله عليه وسلم (أصحابي كالنجوم بأيِّهم
اقتديتم اهتديتم)
7-
لن
تذبذب
نصب ونفي النور
تجسيد لقوى الظلام
8-
تشرق
تذبذب
تناقض مع الغروب والأفول والموت
أهمية الأمل في انتظار الشروق
9-
الشمس
تفاعل
تعريف للنهار واليقظة
دعوة إلى عدم نسيان الأسباب(وهم الشهداء) ونحن نعيش النتيجة(الرفاهية
والسلام)
10-
الذهبية
تفاعل
تمييزها عن الشمس الحمراء المتجهة نحو الغروب
تجسيد ذروة حياة الرفاهية والسلام
11-
إذا
تذبذب
سبب ونتيجة
شرط لقيام التضحيات
12-
لم
تذبذب
نفي وجزم -التدفق والاستمرار-
رفض اللامعنى والفراغ
13-
تنبع
تذبذب
تناقض مع تغور وتجف
أهمية الاستمرار والمثابرة
14-
الآلام
تفاعل
تذكير باليتامى والأرامل والثكلى
تذكير باليتامى والأرامل والثكلى
15-
من
تفاعل
حرف جر
تمهيد للتعريف
16-
الأعماق
تفاعل
تناقض مع السطحية والسذاجة وعدم التركيز
دعوة ضمير المجتمع إلى الصحوة
17-
لن
تذبذب
نصب ونفي –الحرية-
رفض الدكتاتورية والظلم
18-
ينكسر
تذبذب
تجسيد للثورة والمطالبة بحق حرية التعبير
أهمية العمل بجانب الكلمة
19-
قيد
تفاعل
تناقض مع الحرية
تجسيد للاضطهاد والتعذيب
20-
القصيدة
تفاعل
تجسيد لكلمة المؤثرة
تجسيد لروح الكلمة المؤثرة
21-
الثائرة
تفاعل
تناقض مع الفراغ واللامعنى السائدين في فكر المجتمع
تجسيد لذروة الكلمة الفاعلة التي تحدث تأثيراً في عقل المجتمع السائد
وبعد معانقة البحث الدقيق في استجواب القصيدة والتحقيق مع كلماتها كلاًّ على
حدا، أعدتها من ثمَّ إلى ذلك العقد الجميل الذي انتظمها وكما
قال الشاعر امرؤ القيس بن حجر بن الحارث الكندي:
وعَانَقتُهَا حَتَّى تَقَطَّعَ عِقدُهَا وحَتَّى فَصُوصُ
الطَّوقِ مِن جِيدِهَا انفَصَل
كأَنَّ فُصُوصَ الطَوقِ لَمَّا تَنَاثَرَت ضِيَاءُ مَصابِيحٍ
تَطَايَرنَ عَن شَعَل
وإذا المؤلف يقيم ويسكن داخل النص، كما يقول رولان بارت، فإنَّ كل نص يخبئ في
طياته قضية معينة انفعل بها الشاعر أو الكاتب أو المبدع فعبرَّ
عنها بشكلٍ يتوافق مع غاياته ودلالاته، وحتى الشعراء الفوضويون
أو العبثيون، فهم يؤمنون بقضيةٍ أيضاً، فكل كلمة هي دالة
بذاتها نحو معنى يراد منها أنْ توصله مع المدلولات التي يراد
من القارئ أن يستشفها إلى خلاصة الفكرة التي استند إليها
الشاعر في نصه.
وبعد استخراج هذه المدلولات من مفردات الشاعر حيتو نريد أنْ نؤكد على أهمية
الشعر والقصيدة في التأثير على العلق السائد في المجتمعات وإنْ
كان هذا التأثير غير منظور أو غير ظاهراً للعيان، وعلى أهميتهِ
أيضاً في التعبير الصادق عن ضمير الشعب.
---------------------------------
[1] عمرو بن بحر الجاحظ- البخلاء-مكتبة النهضة-بغداد-ص9.
[2] أبو يعقوب السكاكي-مفتاح العلوم-ط1-القاهرة-1937-ص200.
[3] عبدالرزاق الأصفر –المذاهب الأدبية لدى الغرب-منشورات اتحاد الكتاب
العرب-دمشق-1999-ص93.