|
دراسات نقدية
سيميائية الاستفهامية المرذوذة
عبدالكريم يحيى الزيباري (إنَّ نصف تاريخ الشعر الحديث هو قصة افتتان الشعراء بأنساق صاغها العقل النقدي) أوكتافيو باث و"رذاذ" الشاعر عمر عناز، عنوان مجموعة شعرية، الشعرية تنعش الذاكرة، الذاكرة خانات، الخانة بحاجة إلى زمكان وعنوان، العنوان رذاذ كنسمة هواء بارد في ثقافة صيفية جافة، والرَّذَاذُ هو المَطَرُ الضَّعيفُ، الصِّغارُ القَطْرِ كذرات الغُبارِ، ذرة الغبار علامة مستقلة، تموضعت وسط شبكة محصورة، من العلاقات النصية، وفي نفس الوقت يمكن تعليقها بعلامات أخرى، مع ملاحظة التمييز بين العلامات كما تبدو لنا ظاهرة في الوهلة الأولى، وبين العلامات في ذاتها، فنحن لا نعرف إلا الظواهر، فنحن نعرف أنَّ الثمار الناضجة تسقط من الأشجار، أما إسحق نيوتن فيعرف أنَّها سقطت بسبب الجاذبية. كأنَّ علامات النص المَنْثورة، بَعْدَ صواعق المزنِ المَحْذُورة، تُنَثِّرُ للشعرِ فوضى رذاذِه، لا كأخذ التلميذ من أستاذهِ، في قراءةٍ تمتار التقليد عن نفاذه، ويراوغ الدالُ مدلولاً لاستنقاذه. هل من الممكن تطبيق السيميائية في قراءة الشعر، أم انحصرت تطبيقاتها على السرديات؟ أليس اكتشاف العلامة أسهل بكثير من غرزها في مكانها المناسب داخل المجتمع؟ إذا كان المجتمع دائم الحضور في كل علامة من علاماته، فكيف ولمصلحة مَنْ تمَّ تجاهل الحاضر في استحضار الغائب؟ فلا كعباً بلغنا ولا كِلابا، ولا أرضاً قطعنا ولا ظهراً أبقينا.. كيف نقيم علاقة بين المجتمع وبين النص؟ وكيف نصف هذه العلاقة المتمحورة حول العلامة؟ لماذا حين استنبط جورج لوكاش مقولته(إعطاء المقولات الجمالية صفة تاريخية) من هيغل، لم يغفل استخدام المصدر إعطاء بدلاً من الفعل نعطي؟ أليس لأنَّ كل علامة نجحت في الارتباط بعلامات حيوية داخل المجتمع ويفرض نفسه على التاريخ قسراً من خلال تقديم تأويل للكيفية المتغيرة للنشاط الإنساني؟ هل من الممكن عزل كل علامة في النص، والبحث عن مدلولاتها ككيان مستقل، قادر على إنتاج معانٍ مختلفة؟ لماذا تأخر المنهج السيميائي في قراءة قصيدة النثر؟ لماذا طغتْ على القراءات النقدية العلاقات والذوق الشخصي والانطباع؟ تأكيدات الكل مستمرة على تغييب المؤلف ومقاصده، والتحذير من فرض معنىً متوحد يجثم على رئتي النص ويقطع أنفاسه، فيعيش المؤلف ويموت نصه، فلماذا انشغل النقاد بصورة الكاتب شاباً وصورته كهلاً، وصفاته الشخصية من شجاعة وكرم ولطف، مبتعدين عن النص حذرين من إسقاطاته(الأدبية/الاجتماعية/النفسية)؟ تقترن فكرة التابوات الثلاثة(المؤلف، النص، القارئ) بصراع نقدي وسجال فكري عريق قبل أن يستولي عنوةً على عالمنا النقدي الذي تميز بهالة من القدسية تتمركز عند شخص المؤلف وتتبدد عند النص وتهمل القارئ، وقد أفضى هذا الصراع الصوري والجمود الثقافي إلى ظهور أنظمة نقدية تقوم على العلاقات الشخصية، ففي لقاء مع أحد المثقفين سألني عن أحد الشعراء فقلت ببساطة: سمعت عنه ولم أقرأ عنه، فهاجمني وقال لي أنت غير مثقف وأنت لا تواكب، علماً أنَّ الشاعر المقصود والله لم ينشر له قصيدة في مجلة أو جريدة عربية، ولكن صدفةً بعد أكثر من شهرين على سؤاله رأيتُ له نصا في مجلة دبي الثقافية عدد 12/2006 وهو يقول في ص126(الشاعر/ما العهد/ما الفرمان/ما الصرخات/ما الداء/الدواء/الأنثى/أنا/ معا في الليل نحيي الحب بالقبلات لكن دونما عض/الشاعر/وتسحبني إليها/ذا الجمال/وذا التألق)فكيف لي أنْ أعرفه، وهل بمقدوري أن أتعرف على كل الشعراء ومن يظنون أنفسهم شعراء؟ وكيف ينمحي كل شيء بسهولة لأنني لا أعرف شيئا واحداً من العلم الذي لا ينفع؟ أليست الاستفهامية جديرة بدور ضابطٍ للعلاقة بين السيميائية ونظريات المعرفة المرذوذة؟ هل يمكن دراسة رذاذ ظواهر الوعي بمعزل عن العلامات السيميائية؟ كيف للقارئ أن يميز بين قصيدة وقصيدة نثر أخرى بمقياس غير العلامات؟ أليست العلامات هي كائنات مختبئة في كلمات كامنة مختصرةًً المواقف والمشاعر؟ لماذا يشترط حضور الإدراك والانتباه والإحساس كرذاذ لترطيب بناء المشروع السيميائي؟ كيف تصير العلامة قابلة للاستكشاف عن طريق الإحالات الخارجية للعلامات التي يبتكرها الذهن الشعري؟ وكيف يتمثلها ذهن المتلقي؟ هل من الممكن تعرية فهم العلامة لتمنحنا فرصة ثانية وثالثة للإحاطة بسياق دائرة المعاني المرذوذة؟ هل من الممكن استفزاز العلامات المختبئة(غير المرذوذة) وراء الرؤية التأملية للرموز الاستشرافية المرذوذة؟ وكيف إنَّ الرذاذ العام يدخل عنوةً إلى حدود النص العنازي، ولكل جملة شعرية نثرية: رَّوْذَةُ(الذَّهابُ والمَجيءُ)في نصٍّ مُرِذٍّ: ذُو رَذَاذٍ استفهامي. يقول عمر عناز في مستهل قصيدته: وجهك هو الصفحة الأولى من كتاب القمر منذ افترقنا وأنا أفلسف الوقت وأعيد افتراض الأمكنة ويقول الشاعر عمر عناز في نهاية القصيدة: منذ ارتعاش يديك -ذات اتقاد- أعلم أنني المعنيُّ بالاجابة على أسئلة النص ولديَّ اعتراض أسجله حول عدم وجود همزة تحتية في إملاء الإجابة، التي كتبت الاجابة...والإجابة تكون عن أسئلة النص وليس على أسئلة النص.. ولديَّ اعتراض ثانٍ حول عدم انكسار النسق ولا انحراف السياق عن خطه المستقيم، كقصائد أحمد مطر كلها وبعض قصائد أمل دنقل، وهو ما يتكرر عند معظم شعراء الحداثة وما بعدها خلا أدونيس ووحشية انحرافاته... وجهك صفحة كتاب، صفحة وجهك كتاب، كتاب وجهك صفحة، وجهتك صفحة الكتاب، صفحتك وجهة الكتاب، كتبتكِ صفحةٌ ووجهة، كتبتك وجه الصفحة....الخ في محاولة للقبض على العلامة الغائبة من علامات النص: الصفحة الأولى تفترض وجود العديد من الصفحات، فكم عدد هذه الصفحات؟ أليس من المحتمل أن تكون لا نهائية؟ لماذا يفترض أنْ تكون الأولى أجمل؟ ولماذا يعرف الصفحات ونحن ننكرها؟ وما هي صفحات كتاب القمر؟ وما هو كتاب القمر؟ التصويري بجدل الحداثوي يذوب بسرعة في وقتٍ مفلسف مع ثيمةٍ مرذوذة: القمر × الشمس(آيتي الزمن) / التقاء × افتراق/ أفلسف × أفترض / الوقت(زمان) × الأمكنة(مكان)/ الفلسفة × افتراض(آيتي المكان) / الافتراض × قطيعة زمكانية وإذا كان وجهها الصفحة الأولى فكيف يمكننا أن نتنبأ أو نستنج الصفحة الثانية؟ كما نستنتج اللقاء الطويل والسابق لـ(منذ افترقنا) متى افترقنا؟ هذا هو السؤال الخطير، وليس بأقل أهمية من: لماذا افترقنا؟ ولا كيف افترقنا؟ فلسفة الوقت وإعادة افتراض المكان، حلان لكل قطيعة آنية والإشكاليات والمسائل المستعصية. وجهك + الكتاب + القمر = علامة خارجية ملموسة محسوسة وملحوظة. الوقت + الفلسفة + المكان المفترض = علامات داخلية ملحوظة مدعومة بثلاث علامات خارجية محسوسة وملموسة. الوقت صفة ملحوظة مرتبطة بمكان مفترض، ولكل مكان وقت يخصه بحسب موقعه من الشمس والقمر، وهكذا فالزمكان صفة استقلال الحدث(الافتراق وليس الفراق، كإشارة إلى السبب الذي من أجله حدث(الانفعال/الافتراق)، وتستمر انسيابية الصور الأخرى، لتتوازى في مسيرتها مع انسيابية رذاذ الاستفهامية التي تستثيرها وترفد معانٍ مختلفة ومتحركة، يمكن استنتاجها من أسئلة لا نهائية كـ كيف يسحق الزمان كل شيء(الصلب والمرن) ويحيله رذاذا إذ يُدَوِّرُ الرؤية ضمن عالم الفينومينولوجيا(الظاهراتي) لدراسة ظاهرة استفهامية الرذاذ الشعري باعتبار الشعر هو اللغة، واللغة هي العلامات، وكل علامة ظاهرة، ولكل ظاهرة ملاحظتان داخلية وخارجية، أو محسوسة وملموسة... وكيف سنتعرف على ظاهراتية علامة معنية بدون استنادها على علامة سابقة وربطها بعلامة لاحقة؟ وكيف يمكن معرفة شيء ما دون الاستناد على معرفة الشيء الذي أوصلنا إلى محاولة معرفة هذا الشيء؟ حتى في الحالة التي تعود إلى قصائد ونصوص أخرى في شموليتها، فإنها ستنتظر زمكانية مرهونة بالمستقبل ضمن تطابق زمكاني لنصوص تستهلك الأسلوب في طلب الجمالية[1]، وتنتج التأمل في ظواهر علمية، فتفصل بين تذوق النص وبين قراءته، وتحدث قطيعة بين العلمي التأملي والجمالي الاستهلاكي في آفاق العلم التأملية الناتجة من الفلسفة التأويلية، أو منهج البحث بغض النظر عن النظريات الفلسفية والنقدية التي تستخدم في معاينة النص في إحالة إلى الاستقراء الاستفهامي للنص. مزجت الاستفهامية النص بين شعرية العلامة سواء كانت منفردة أم في سياقها، وبين شعرية التأمل العلمي للعلامة المنفردة المنفصلة تارة وفي سياق النص تارة أخرى وفي الحالتين لا يمكن فصل العلامة عن زمكانها كظاهرة كونية، وهنا يستدرجني تفصيل علامة الكونية، كينونة وصيرورة تارةً وكونية في مكانتها من الكون كنظام متكامل، في استفهاميات من أين أتى هذا الكون؟ كيف بدأ؟ وكل هذه الأسئلة تستدعي الرياضيات والعلامات الرياضية قد يفر منها نصف قراء النص حال ملاحظتهم لأي معادلة رياضية. لأن العلامة سواء ملحوظة أم ملموسة لا تتشكل كظاهرة بالحديث عنها فحسب، ما لم تدخل في علاقة رياضية مع غيرها من العلامات: منذ افترقنا × منذ ارتعاش يديك × عندما تراودني الكتابة/ أتذكرك × عندما تَمرّينَ مِنْ أَمامِ مِنصّةِ القَصيدة.... ذات زمان: ذات مساء، أو ذات خريف، حولها الشاعر إلى ذات مصدر، ذات اتقاد، كما فعلت أحلام مستغانمي في رواياتها(ذاكرة الجسد) حين كررت((ذات ديسمبر-ص42-ذات أيلول- ص51-ذات جليد- ص89-ذات مطر-ص101-ذات أكتوبر- ص101-ذات مرة -ص183-ذات 30 أكتوبر- ص183-) فذات ظرف زمان لا يختلف وظيفياً عن(منذ افترقنا) و(منذ ارتعاش يديك). ارتعاش × افتراق / اتقاد × تفلسف(افتراض) / الإجابة × أسئلة النص إذا كان الشاعر قد أكدَّ خصوصيته في الاعتناء بالإجابة عن أسئلة النص، لا لشيء إلا ليشير وينبه القارئ إلى ضرورة التأمل والإجابة عن أسئلة العلامات النسق، وقد يعترض علينا بعض الشعراء، باعتبار هذا المنحى غلواً وإيغالاً في افتعال الإبهام والاختلاف في تأويل كل علامة، إلا أن هذا الاعتراض تذهل الجميع عن حقيقة القوانين أو منهج تأويل علامات النص، والتي قد تسمح بالمزيد من العلاقات مع النظام الاجتماعي والعقل السائد، وربما اعتراضه هذا ناتج من أناه العالية ونرجسيته الثقافية، لأنَّه ما كان سيعترض لو أن العلامات المدروسة كانت مأخوذة من أحد نصوصه، وقد أعترض علي أحد الشعراء، بأنني أعطيت أحد الشعراء أكثر مما يستحق، فقلت له أنا لم أتحدث عن السيرة الذاتية للشاعر ولا عن صفاته الشخصية بل تحدثت عن مقطع صغير من أحد نصوصه، وكان ولا زال رأيي قابلاً للتخطئة، ورغم ذلك لم يقتنع وأعطاني أحد نصوصه قائلاً لي أن أكتب عنه شيئا، وكنت سأفعل لو لم يتعجل ويطلب، وهكذا فالنقد عندنا حسب الطلب وحسب العلاقة ونادراً ما نرى ناقداً يتناول نصاً لأديب لا يعرفه، وكأنهم لم يسمعوا بقاعدة أكتب نقد وأرمه في الشط، وهي قاعدة شعبية موغلة في الخطأ، فنحن نصنع المعروف حبا في الله، ولا نرميه في الشط بل نحتسب أجره وثوابه عند الله الذي لا تضيع ودائعه، ونكتب نقداً حباً في الإبداع لا تملقاً وطمعاً في دعوة إلى مهرجان ولا إلى فنجان شاي. إنَّ ثبات النسق الذي يتبعه الشاعر عمر عناز وعدم انحرافه عن أنويته وعن حبيبته مركز النص، قد يحيلنا إلى سيكولوجيا العلامة، فالثبات تأتى من انحصار الأفعال والسرد بين(الأنا وهي)كما في النص التالي:(أفهمك(أنا) جيدا/ فلا تحاولي(أنتِ/هي) أن تهادني(أنتِ/هي) المطر/ بابتسامةٍ ماكرة/ لأنني(أنا) يا(أنت) طفلتي(أنت)مدججٌ بالأسئلة(نعت للأنا)/ أبحث(أنا) عن قصيدة عنوانها/ علامة استفهام/ عندما تراودني(أنا) الكتابة/ أتذكرك(أنتِ)). كل ما بين قوسين ليس من ضمن النص الشعري، بيد أن توجه العلامات في مذاهبها وتعالقها وتواصلها لا تستجيب إلا لذواتها منفصلة، كعلامة الضمير المستتر أنا المختبئ وراء معظم علامات النص، قريباً أو بعيداً عن واقع قصيدة النثر المصطدمة بازدواجية مستمرة بدءاً بعنوان جنسها المشتمل على(الشعر والنثر)وهذا يصبُّ الموضة تَقيه مغبة السقوط في التناقض من المنظور الشعري، تتفاعل الصورة الشعرية ببعض المؤثرات الجمالية القائمة على نظرية الغاية المعرفية التي تخضع لثقل التوجه الذوقي وتحليل الخبرات الفنية بتحديد مجال الرؤية الشعرية. [1] لا أقصد بالجمالية التمييز بين القبيح والجميل، ولكن أقصد التطريس(محو وتثبيت) الذي قام به كل شاعر قبل أن ينشر نصه ويتخلى عن صلاحيته في إحداث أي تعديل آخر، رغبةً منه في أن يقرأ وتعاد قراءته كل مرة بصورة مختلفة.
|
| |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |